د. جابر قميحة
فواجعنا المعاصرة أكبر من كل المعالجات الفنية
الشاعر الناقد الدكتور جابر قميحة:
التشكيلات العصابية أفسدت الساحة الإبداعية
والنقدية على حساب القيم والمبادئ والأخلاق
حوار: محمود خليل
الشاعر الناقد د.جابر قميحة أستاذ الأدب العربي الحديث بكلية الألسن جامعة عين شمس، ولد بمدينة المنزلة بمحافظة الدقهلية بمصر عام 1934، حصل على ليسانس الحقوق ودبلوم الشريعة الإسلامية العالي من كلية الحقوق بجامعة القاهرة، ثم أتم دراسته بالحصول على الماجستير والدكتوراه بعد تخرجه في دار العلوم بجامعة القاهرة، وتنقل بين عدة جامعات في باكستان والبلاد العربية، كما عمل استاداً زائراً بجامعة GALE بولاية كنكتكت بالولايات 1981، وهو عضو باتحاد الكتاب بمصر ورابطة الأدب الإسلامي العالمية. وتمثل كتبه العشرون ودواوينه الخمسة حلقة مهمة من الإسهامات الأصيلة في مسيرة الأدب الإسلامي المعاصر، إلى جانب مشاركاته القوية في المناظرات والندوات والمجريات الثقافية والفكرية بوسائل الإعلام المختلفة... باعتباره صوتاً أصيلاً مقتدراً يعمل له العلمانيون والحداثيون ألف حساب.. حول حراكنا الثقافي المعاصر.. كان هذا الحوار.
< تعاني الساحة الأدبية والثقافية من فساد عام في الذوق الفني، إبداعاً وتطبيقاً... مما جعل موضوعية التناول الإبداعي والنقدي تعاني من غربة قاسية.. فما رؤيتكم للساحة الثقافية في ظل هذا الوضع المقلوب؟
<< هذا جانب من التيار السائد المهيمن، ومن ثمَّ فلابد أن نضع في اعتبارنا طبيعة العلائق التي تربط الأديب بمجتمعه، والتيارات السياسية والاجتماعية والأدبية والدينية السائدة فيه.وإذا نظرنا إلى واقعنا الأدبي والنقدي، وجدناه يئن تحت هذه الضغوط الفاسدة المفسدة، كما أنه محكوم إلى حد بعيد بمنطق التطرف، بما فيه من إسراف ومغالاة وأحكام متعسفة، وإصرار على الخطأ وعدم التأني في إصدار الأحكام... حيث لا إيمان إلا بلونين فقط: الأبيض الناصع، والأسود الحالك، أما بقية الألوان فلا وجود لها، لذلك علينا أن نعتمد بصفة أساسية على "القراءة في..." لا على "القراءة عن..."، أو بتعبير آخر أن نتعامل مع مادة الإبداع في مصدرها الأصلي تعاملاً مباشراً، ويدخل في نطاق ذلك ما أحاط بها من مواقف وظروف وما وراءها من دوافع وبواعث.وليس معنى هذا أن نهمل تراثنا النقدي، ولكن علينا أن نتعامل معه بمنهجية واعية وموضوعية عادلة بعيداً عن الإسراف والتطرف، والتشكيلات العصابية التي أفسدت الساحة الإبداعية والنقدية على حساب القيم الفنية والمبادئ الأخلاقية التي تغص بها الساحة، سيما إذا كانت هذه التشوهات الأدبية صادرة عن مشاهير، أعمتهم المصالح، وانزلقت بهم العلاقات الشخصية إلى أن يقولوا منكراً من القول وزوراً.
< لا شك أن لهذه الموضوعية المنشودة ركائز وقواعد تستند إليها ... فما أهم هذه الركائز؟
<< هذه الموضوعية تقوم على ركيزتين أساسيتين هما:
الذوق الفني الرفيع الذي ينهل من موهبة فطرية، وتجارب ذاتية، واطلاع واسع المدى على مأثور الأدب والنقد.والقواعد الفنية التي تستمد من خبرة لغوية وبلاغية، ورصيد فكري وقدرة على الإفادة من القواعد والنظريات المختلفة في نقد الأثر الأدبي.ومن لوازم الموضوعية كذلك... عدم الانبهار "بالأسماء المتوهجة" أياً كانت درجتها من الشهرة، وأن يكون تعامل النقاد مع "إبداعات المشاهير" كتعامله مع "إبداعات المغامير".. أي أن يكون "التعامل النقدي" مع الإبداع "لا المبدع" حتى لا يقع الناقد تحت سيطرة ما يسميه "بيكون" "أوهام المسرح" فتتحكم شهرة الشخصية في حكمه وتوجهه إلى غير مساره الصحيح.
< لعل هذا الزيغ النقدي، هو أحد روافد الزيغ الفكري الذي ارتمى كثير من النقاد في أحضانه في مرحلة من تاريخنا المعاصر، عانت فيها أمتنا من "التوثين" الثقافي... الذي يصعب الآن مواجهة آثاره وتوابعه..؟!!
<< هذا صحيح إلى حد بعيد... وسأضرب لك مثالاً واحداً لتوضيح هذه الحقيقة: لقد ظلت الساحة الأدبية تتلقى لأكثر من عشرين عاماً نتاج الشاعر المبدع "هاشم الرفاعي" على أنه "شاعر الثورة"!!!. وذلك اعتماداً على أبيات باردة يعرف القاصي والداني أنه نظمها تقية...!! وبعضها وقع فيه "هاشم" تحت هالة الإبهار الزاحف بقوة في حينه...أما شعره "الحقيقي" الذي يمثل موقفه "الحقيقي" من "الثورة" و"الثوار"!! فلم ينشر... ولما نشر بعضه الآن... انقلب السحر على الساحر.وقد توافر الآن من "الإبداع الصادق" لهاشم أكثر من 35 قصيدة لعل أشهرها "رسالة في ليلة التنفيذ"... وهي لا تحتاج إلى ناقد ومتخصص ليقرأها... وليحكم من خلال كل كلمة فيها على هوية الرفاعي الحقيقية وهي الإسلام الواضح الصحيح في أسمى صوره، وأرقى وأزهى مواقفه التعبيرية والإبداعية.وأذكر أنه أسمعنا رحمة الله عليه وكنا أربعة أشخاص وقوفاً معه في فناء دار العلوم، قصيدة طويلة يوجه فيها الخطاب لعبد الناصر الزعيم!! ويهاجم فيها مجلس الأمة الموافق له على طول الخط فيقول فيها:
ها هم كما تهوى فجمعهم دمى
لا يفتحون بغير ما ترضى فما
إنا لنعلم أنهم قد جُمِّعِوا
ليصفقوا إن شئت أن تتكلما
بالأمس كان الظلم فوضى مهملاً
واليوم صار على يديك منظما
فهم الذين إذا صببت لنا الأسى
هتفوا لشخصك أن تعيش وتسلما
وللأسف... فقد تم استلاب هاشم الرفاعي لحساب الثورة ردحاً طويلاً من الزمن، وهذا مثال عابر من أمثلة "النقد المقلوب" الذي يأتي بالنتيجة التي تخالف الواقع، استجابة للجو السياسي السائد دون تأنٍّ أو أمانة أو تمحيص.
أزمة مواهب
< إذا كانت هذه مجرد عينة عابرة.. فإن الساحة الآن تغص بآلاف العينات من انجراف نقدي، إلى سرقات أدبية، إلى نفايات علمانية تمثل جوقة مزعجة، إلى فساد سياسي ثقافي... إلخ، فما مستقبل الثقافة والتثقيف الإسلامي خاصة في ظل الأزمة المعاصرة للكاتب والكتاب؟
<< أولاً: علينا أن نعلم أن المهمة جسيمة وأن التبعة ثقيلة في كل الميادين، ومن فضل الله تعالى على هذه الأمة أن يرابط فيها في هذه الظروف المأساوية الخانقة رجال شرفاء، وأن ينهض بالمهمة علماء ومفكرون، يجاهدون من أجل تعريف الشعوب بالحقائق ويقرؤون مع شعوبهم الدلالات الصادقة للأحداث، دون كذب أو تزييف أو غلو أو إسراف.
ثانياً: كل من ذكرت من أرباب هذا العزف المشروخ في ميادين السياسات الثقافية الذين أنفقوا في مصر على سبيل المثال، عشرات الملايين في ليلة واحدة... في احتفالية لزجة ببداية الألفية الثالثة، وأقاموا احتفالاتهم المئوية ابتهاجاً بدخول حملة نابليون بونابرت إلى مصر، علماً بأن "بونابرت" هو مؤسس الوطن الصهيوني في فلسطين بخطبته الشهيرة على أسوار عكا ليهود الشام، وجعلوا من كل ما يأتي من الغرب راحة للقلب.. وعلى الرغم من أنهم أصبحوا كالجذام الفاتك... إلا أن أرباب هذه الأيديولوجيات المهزومة من رواسب الشيوعية، ونفايات العلمانية، وعصابات الحداثيين، ولصوص ما بعد الحداثيين.. على الرغم من الطنين والزَّن الذي يصدعوننا به، لا مكان لهم في عقول الأسوياء من الناس، فهم ساقطون حتى في أنظار أنفسهم.
ثالثاً: علينا أن تعترف بكل شجاعة.. أننا نعاني من أزمة مواهب خاصة في أجيال الشباب.. التي خرجت إلى الحياة في ظل هذا العجز السياسي، والفشل التثقيفي الرسمي، ثم اصطدمت حديثاً بأزمات الفساد والبطالة.ولكننا نوقن برسوخ أننا أمة "تجمعها عزمة، وتطلقها أزمة" والتاريخ خير شاهد..
< على ذكر أزمة المواهب تلك.. فإن فنوناً بكاملها كادت تختفي من مسيرتنا الأدبية المعاصرة.. كالمسرحية الشعرية مثلاً.. وإذا أقبل البعض على كتابتها فلا يعدو ذلك إلا أن يكون من باب "إثبات الذات".. مما يجعل من مسيرتنا الأدبية عرجاء؟!
<< إذا كنا بصدد الحديث عن أزمة المواهب..فإن المسرح يحتاج إلى ثلاثة مواهب: الشعرية والمسرحية والقصصية.. وليس كل الشعراء كذلك، ولنضرب مثلاً. حافظ إبراهيم.. وهو شاعر كبير ولا نقاش في موهبته.. حين كتب عام 1914م مسرحية "جريح بيروت" وكانت أول مسرحية قدمتها فرقة "أبيض وحجازي" حين اشترك سلامة حجازي مع جورج أبيض وكوّنا معاً فرقة واحدة في أكتوبر عام 1914.. ورغم التقاء هذه الأسماء الكبيرة حول مسرحية لشاعر النيل حافظ إبراهيم.. إلا أن المسرحية أخفقت إخفاقاً ذريعاً، وكان الحوار جامداً بارداً، حافظ لم يخلق ليكون شاعراً مسرحياً. وشوقي أمير الشعراء.. موهبته الشعرية في القمة من شعراء العربية جميعاً، ولكن موهبته الدرامية متدرجة.. وقد خرجت كذلك مثقلة بالعيوب في أولى مسرحياته "علي بك الكبير" إلا أن شوقي نجح في إثبات مرونة اللغة وطواعيتها واتساعها لهذا الفن الجديد.وقد أفاد بعد ذلك "عزيز أباظة" من عثرات شوقي. والآن.. يندر أن يكون عندنا الشاعر المسرحي المتكامل.
< لاشك أن هناك مواهب كبيرة.. لكنها تؤثر أن تنزل إلى "الجمهور" ضماناً للرواج التجاري وسعة الانتشار؟!
<< الجمهور عنصر ثانوي.. لأن العمل القوي يبقى بصرف النظر عن الرواج والانتشار.. فهذا الرواج لا يعدو أن يكون عملية تجارية لا غير..لكن العمل الدرامي الشعري القوي يحتفظ به الزمن، ويخلده التاريخ بصرف النظر عن شعبيته أو عدم شعبيته.ثم إنه يجب أن نعلم أنه ليس كل المسرح مسرحاً شعبياً وجماهيرياً، فهناك المسرح الذهني، ومسرح اللامعقول،
< يرى البعض أن "الإضحاك" يعتبر هدفاً فنياً غالياً خاصة في هذا الزمن.. حيث بلغت السخرية من كل شيء حد العقدة المركبة لدى الشعوب.. علاوة على أن الضحك.. أنجح الطرق إلى الشهرة والشباك؟!
<< هذا منطق السماسرة الذين لا يدركون رسالة الثقافة ولا دور المثقف في هذا الزمن القابض الخانق. ونحن لا ننكر دور "الإضحاك" في الإنعاش والإفاقة.. ولكنها إفاقة للشعوب لتسترد وعيها لا لتفقده، ولتنعش روحها لا لتميتها.. خاصة إذا انطوت فلسفة هذا الاضحاك الماجن حول السخرية من القيم والمبادئ وتجاوز الخطوط الأخلاقية وهدم اليقين في نفوس هذه الشعوب المخدرة. وهو ما يسمى مسرح "الفارس" أي مسرح الإضحاك لذات الإضحاك...وأنا أدعوك إلى قراءة أفقية ورأسية لما خلقه مسرح الإضحاك لدينا في مصر من تهتك أخلاقي على مستوى الشباب في العشرين عاما الماضية.. وهذا يغني عن كل الكلمات الكبيرة في التنظير والتحليل..في حين أن واجب الأدب الدرامي واجب "تغييري" ودور الدراما دراما العرض أو دراما النص هو دور المشاركة في صياغة وتكوين الثقافة الصحيحة والتي تأتي صحتها من كونها ثقافة دافعة للإمام في سلم الرقي الحضاري.. ومشكلة المشاكل.. حين تكون هذه الشعوب الضاحكة مستعدة لتقبل "النموذج السلوكي".. كما حدث في مسرحية مدرسة المشاغبين مثلاً.. لا مانع من الضحك.. بشرط عدم الإخلال بثلاثية البعد التأثيري للمسرح وهي: التطهير والتعبير والتغيير ويحضرني هنا قول عبد الرحمن شكري:
إذا نحن طامنا لكل صغيرة فلابد يوماً أن تساغ الكبائر
< ألا ترى أن الفواجع المعاصرة أكبر من أن تعالج فنياً.. فهي كالقوارع التي تعقد الألسنة وتصم الآذان؟
<< مهما كانت المآسي المعاصرة أكبر من القدرات الاستيعابية للقصاصين والمسرحيين.. فإن هناك جوانب توظيفية كثيرة، وهناك عطاءات على مستوى الفعل والشخصية والحوار والصراع.. يمكن استثمارها فنياً في البناء والأداء.. فالعمليات الضخمة، لابد أن يتم فيها توزيع الأدوار.. والتجزئة في ضوء الكلية.. أما هذه المظهريات الثقافية من موظفين وكتبة وميزانيات وعمالة وهواة وتجريبيين وفرق عديدة للقطاع الخاص.. فإن كل هؤلاء إلا ما ندر قرروا بالإجماع الهروب من المسرح الهادف.. وتتحمل لهم الجهات الثقافية رواتب ضخمة بلا عائد.. هذا.. مع إصرار أجهزة الإعلام على تقديم الرديء والمتخلف والهروبي الرخيص.
< إذن.. أنت ترى دوراً للفن.. لاسيما المسرح، في التفعيل والتعبير والتعبئة الشعبية.. فوق كونه شكلاً أدبياً راقياً؟!
<< خلق المسرح ليكون جماهيرياً بالإكراه.. وأنا أذكر في صدر شبابي أواخر الأربعينيات.. أننا كنا نخرج من العروض المسرحية البسيطة في ذكرى الهجرة أو غزوة بدر من شعب الإخوان المسلمين.. حيث كان يتم الإسقاط في هذه المسرحيات على قضية القضايا (فلسطين).. فتخرج ونحن نشتعل في الطرقات في مظاهرات حاشدة هاتفين "حيا الله فلسطين" "حيا الله فلسطين" .. "إلى الجهاد.. إلى الجهاد.. إلى طريق الاستشهاد". وليس من الضرورة هنا أن نعالج القضية الكبيرة بطريقة شاملة ومباشرة.. فهذا يوقع الفنان في أزمة واسعة.. حيث تبتلعه هذه القضية الضخمة فيخرج إبداعه مبتسراً.. ولكننا ننادي بمسرح القيم التي تنتصر لعناصر الوجود الإسلامي الذي يئن من خراب الذمم والدناءة، وينكمش استخذاءً وتبلداً.. بل خرجت علينا نماذج خائنة خيانة عظمى.. تماماً مثل "علي الطحاوي" .. و"سلطان باشا قائد عرب الهنادي" في معركة "التل الكبير".. وخرج علينا "القائد المصري أبو شنب فضة" فكل هذه صور متعددة للخيانة.. علينا أن نواجهها بحرب القيم والفضائل في كل ميادين القول والفعل الثقافي المبدع الجميل.