حوار مع المؤرخ أحمد العلاونة "ذهبى العصر"
"أحمد العلاونة" عَلَم بلغت شهرته الآفاق، وظهرت عبقريته مبكراً، رغم أنه لم يكمل تعليمه الذى وصل فيه إلى المرحلة الثانوية لظروف خارجة عن إرادته، ثم عمل بالعمل الحكومى عندما أنهي المرحلة الثانوية سنة 1404هـ/1984م مع مواصلة التحصيل العلمي بجهوده الذاتية، وبدأ يعنى بالتراجم والتاريخ، واتصل بالعلماء الأعلام منذ عام 1406هـ/1986م، يذهب إليهم إذا كانوا فى بلاده، أويكاتبهم ويهاتفهم إذا شطّ بي المزار، باذلاً في سبيل ذلك وقته وجهده وماله، فأفاد منهم فوائد عظيمة، وهو فى هذا يشبه العلامة محمود محمد شاكر الذى لم يكمل تعليمه ومع ذلك صار إماما فى العربية وعلومها...
وقد ولد أحمد إبراهيم أحمد العلاونة في الطيبة من محافظة إربد بالأردن سنة 1386هـ/1966م، وتعلم فيها، واتجه في دراسته الإعدادية إلى بعض العلوم الإسلامية، كالتفسير والحديث والفقه بالتحصيل الشخصي، ثم اتجه إلى اللغة العربية التي أعدّها مفتاح كل علم، فكان يقرأ ما يقع بيده من كتبها، وقد ظهر هذا مبكرا إذ صنع فهارس لكتاب (النحو الوافي) لعباس حسن وهو في العشرين من عمره، وكان مولعاً بالدراسات اللغوية والنحوية في القرآن الكريم، وكان أدوّن ما أكتبه في أوراق، وكانت تضيع ليستأنف تدوين غيرها في أوراق أُخَر ثم تضيع، عمل بالحكومة عندما حصل على الشهادة الثانوية عام 1404هـ - كما اسلفنا- وأُحيل على التقاعد عام 2000، ليتفرغ للبحث والتأليف، مؤثراً البُعد عن الأضواء، وجمع مكتبة حافلة فيها نحو عشرة آلاف كتاب، وكُرّم في أثنينية الشيخ عبد المقصود خوجه عام 2004.
أثرى المكتبة العربية بالعديد من المؤلفات التى شهدت على تفردته وموسوعيته ودقته وموضوعيته وهى فى مجال التراجم الذى أعاد له الحياة وكان منهجه إسلاميا عربيا لم يتأثربالمذاهب المستوردة، ومن مؤلفاته: "فهارس ذكريات علي الطنطاوي"، و"ذيل الأعلام" (أربعة مجلدات) والخامس قيد الإعداد، و"حمد الجاسر"، و"محمود الطناحي"، و"إبراهيم السامرائي"، و"خير الدين الزركلي، المؤرخ الأديب الشاعر، صاحب كتاب الأعلام" ، و"التذييل والاستدراك على معجم المؤلفين"، و"نظرات في كتاب الأعلام"، و"ناصر الدين الأسد"، و"تطريز الكساء في التساوي بين أسماء الرجال والنساء"، و"نظرات في كتاب الأعلام (المستدرك)"، و"عمر فروخ"، و"معجم المعاقين"، و"مآل مكتبات علماء المملكة العربية السعودية"، و"العلماء العرب المعاصرون ومآل مكتباتهم"، و"في الكتاب وأحواله"، و"خير الدين الزركلي، دراسة وتوثيق"، و"توشيح كتاب الأعلام"، و"رسائلهم إلي"، و"معجم صور الشعراء بكلماتهم"، و"خير الدين الرزكلي، ببلوغرافيا- صور ووثائق، وبعض ما لم ينشر من كتبه"، و"المنجد الهادي إلى أعلام العرب والمسلمين، المطبوع مع المنجد الهادي إلى لغة العرب"، و"الأعلام لخير الدين الرزكلي، مراجعات وتصحيحات"، و"حسن عبد الله القرشي"، و"أول مئة موظف في الدولة الأردنية، بالاشتراك مع الدكتور إحسان ذنون الثامري".
لذا كان لزاما علينا أن نلج إلى دوحته ونجرى معه هذا الحوار.. الذى طفنا من خلاله فى محطات هامة من حياته.. تحدث فيها عن نشأته وكيف كان لهذه النشأة أثر على حياته العلمية بعد ذلك، إضافة إلى حديثه الثرى عن أساتذته، ومنهم علامة الشام الكبير الأستاذ زهير الشاويش الذى أخذ بيده وأرشده إلى أمور هامة وهو الذى حثه على إتمام كتاب "الأعلام" للزركلى والذيل عليه واستدراك أمور هامة عليه برغم أنه لم يتخطى الثلاثين بسنوات، كما تحدث أيضاً عن رحلته مع كتاب الأعلام والذيل عليه، وتحدث عن المواقف والمعارك التى رافقت هذه الرحلة ..كما تحدث عن علم التراجم اليوم فى ظل هيمنة الأفكار المستوردة على كتابة التاريخ والتراجم فى أغلب الدول الإسلامية وقضايا أخرى سوف نطالعها من خلال هذا الحوار الثرى.
* بداية حدثنا عن النشأة، وكيف كانت للنشأة أثر كبير على حياتك العلمية فيما بعد؟
- نشأت في بيئة ريفية، ولم أكن أحب المدرسة إطلاقاً، وكنت أحبّ كثيراً أن أقرأ في الكتب غير المدرسية وفي المجلات والصحف، وكان والدي رحمه الله يُحضر معه بعض المجلات العسكرية (الأقصى، والدفاع العربي، والمجلة العسكرية) وكانت تستهويني لما فيه من صور ومعلومات عن الأسلحة المستخدمة بالعالم، وكنت أعرف اسم أي دبابة أو طائرة أو صاروخ ، عند رؤية أي صورة لها، وأعرف ميزات كل سلاح.
وفي بداية مرحلة الدراسة الإعدادية انصرفت مطالعاتي إلى الكتب الدينية لأني أصبحت مواظباً على الصلاة، ثم انصرفت إلى الدراسات النحوية واللغوية في بداية المرحلة الثانوية. ولما أنهيت المرحلة الثانوية عملت في العمل الحكومي، وانصرفت مطالعاتي واهتماماتي في هذه المرحلة إلى التاريخ والتراجم، وقد أفادني تنوع الاهتمام المعرفي في ثقافتي كثيراً. فقد عرفت وأنا في مقتبل العمر أن الأسلحة الروسية المُعطاه للجيوش العربية، هي غير الأسلحة الموجودة في روسيا، فمثلاً طائرة الميغ 25 الروسية تختلف عن الميغ 25 المعطاه للجيوش العربية. أما الجانب اللغوي فهو مهم جداً لمن يريد أن يكتب في أي موضوع، والأسلوب الجميل يشدّ القارئ ويجذبه.
*أهم الأعلام الذين تتلمذت عليهم وتأثرت بهم؟
- الذين تأثرت بهم كثر، كان أولهم أخي الأكبر محمد الذي كان يتابع دراستي، والذي تفتحت عيناي على كتبه في أول حياتي، وأستاذي محمد عبد الحق الذي شجعني على الخط في المرحلة الابتدائية، والشيخان محمد إبراهيم العلاونة، ومحمد مصطفى العلاونة، اللذان كنت أحضر دروسهما في المسجد، وكانا منفتحَيْن، ويحترمان الرأي المخالف، والأستاذ إبراهيم بدران رحمه الله الذي تعلمت على يديه العربية، وأثّر بي كثيراً، وكل هؤلاء مغمورون.
ثم اللغوي الأديب الشاعر صبحي البصام رحمه الله، وكنت أنتفع بمراسلاته وأغلبها عليمة، والشيخ زهير الشاويش رحمه الله الذي شجعني كثيراً على الاشتغال في التراجم، وتكملة أعلام الزركلي، وسوف أقف كثيراً عند أستاذنا الشاويش الذى كان يعاملني - رحمه الله - كأحد أبنائه، فكان يوجِّهني برفق غالبًا وبشدَّة أحيانًا، ولم يكن يُجامل في العلم وفي الأمور الحياتيَّة الأخرى، سمعتُ باسمه من أستاذنا الدكتور محيي الدين رمضان حفظه الله، حدَّثني عن مروءته وكرمه وعلمه، وأكثرَ في الحديث عن استقباله الفارِّين بدينهم من سوريا أول الثمانينات، واستضافتهم في بيته الكبير، ومساعدتهم وتأمين سفر مَن رغب في السفر منهم، فحبَّبني إليه وشدَّني إلى تعرُّفه، ثم أعلمني بعد سنوات أنه في عمَّان، وسألته: كيف الوصول إليه؟ فقال لي: اكتب إلى الأستاذ عصام الحرستاني صاحب دار عمَّار، فهو ابن خالته. فكتبت إليه راغباً في التعرف إليه، ولم تمض مدَّة قصيرة حتى جاءني جوابٌ منه يرحِّب بي في بيته، وكتب لي رقمَ هاتفه وعنوانَ منـزله، فزرتُه في بيته يوم الأربعاء 15 شعبان 1410هـ (19/ 7/ 1989م)، ولما فتح لي البابَ وجدتُّه رجلاً فارع الجسم طولاً وعرضًا، تزيده لحيتُه مهابةً. استقبلني بحفاوة كريمة اختصرَت الطريقَ إلى علاقة وثيقة امتدَّت لربع قرن. وأهدى إليَّ بعضَ كتبه، فكانت الزيارةُ فاتحةً لكلِّ خير في أعمالي العلميَّة كلِّها، وعرَّفني بكثير من الأعلام الذين يُشار إليهم بالبَنان، وبفضله تواصلتُ مع كثير من الأعلام على مختلِف توجُّهاتهم واختصاصاتهم.
كذلك تعلمت من الدكتور محيي الدين رمضان، والدكتور ناصر الدين الأسد، والأستاذ إبراهيم شبّوح، والدكتور شاكر الفحام، والدكتور عبد العظيم الديب، والدكتور عبد الفتاح إسماعيل شلبي، والأستاذ حسن الكرمي، والأستاذ زهير فتح الله، ومؤرخ المغرب عبد الوهاب بن منصور، والشيخ حمد الجاسر، والشيخ علي الطنطاوي، والدكتور وليد محمود خالص، وغيرهم كثير، وحسبك أن ترجع إلى كتابي (رسائلهم إلي).
*كيف بدأ مشوارك في تحقيق كتاب الأعلام للزركلي، والدوافع التي جعلتك تذيّل عليه؟
- كنت أحب كتب التراجم، وأول كتاب قرأه علينا الشيخ محمد إبراهيم العلاونة في المسجد هو (حلية الأولياء) للأصفهاني، وعندما قرأت (ذكريات الشيخ علي الطنطاوي) أُعجبت بها كثيراً، وصنعت لها فهارس للأعلام، وقد سَمِعت بهذا الكتاب "كتاب الأعلام" قبل حوالى ثلث قرن (عام 1985) عندما سألني أحدُ لِدَاتِي، وكان يدرُس في جامعة اليرموك بإربد عن كتابِ الأعلام "للزركشلي" (هكذا لفظه لي)، وفي تردُّدي الدَّائم على مكتبةِ دار الهجرة في إربد وجدت فيها هذا الكتابَ فاشتريته، وعلمت أنَّ صَديقي قد أخطأ في اسم مُؤلفه، فتصفَّحت الكتابَ، وبدأت القراءةَ فيه، فعرفت أنِّي وقعت على صيد ثَمين، وأنِّي وُفِّقت في شرائه، فاتخذته صاحبًا لي من ذلك الوقت، لا أكفُّ عن القراءة فيه، ولا أستغني عن الرجوع إليه، سواء في بيتي أم في مكان عملي، فكان من جميل صنع الله بي أن تسنَّى لي اقتناؤه، وكتاب الأعلام يَجمع كلَّ خصائصِ الزِّركلي الأدبية والتاريخية، ويَجمع أيضًا خَصائِصَه النفسية والعقليَّة، ففيه شبابه وكهولته وشيخوخته، وفيه عاطفتُه وفكره، وفيه غضبُه وسخطه ومَرَحُه، وفيه اختياراتُه الشعرية والأدبية وحُكمه على المترجمين، وهو بَعْدَ هذا كُلِّه يُعَدُّ أنفسَ تصانيفه وأوسَعَها، ومَحَطَّ فخره واعتزازه، وموطن عنايته.
وعلمت أن الشيخ زهيراً الشاويش في عمان، وكنت أسمع عنه وعن مآثره كثيراً، فوفّقت بمعرفة مكانه، فزرته، وحدّثته عن عملي في تكملة أعلام الزركلي الذي بدأت فيه عام 1988 ثم توقفت، وأطلعته على فهارس الأعلام الواردة في (ذكريات الشيخ علي الطنطاوي) فشجّعني على تكملة الأعلام، وأعطاني الخطوط العريضة للعمل، وأعطاني عنوانات وأرقام هواتف بعض الأعلام، واقترح علي أن أكمل بقية فهارس ذكريات علي الطنطاوي: الأماكن، الكتب.....، وإرسالها للأستاذ نادر حتاحت صاحب دار المنارة، الذي نشر الذكريات، ليطبعها، وهو ما كان. أما دوافع تذييلي على الأعلام، فإعجابي الشديد بالأعلام، لشمول الكتاب مختلف العصور، واختصار التراجم بشكل جيد، وعذوبة لغته، ودقته في العمل، ونشر الصور والخطوط.
* ما هي المواقف والمعارك التي رافقت هذه الرحلة من الأعلام والذيل عليه؟
- أُتيح لي في أثناء العمل أن أتعرف على كثير من الأعلام في مختلف تخصصاتهم، وتوثيق صلتي بهم، سواءً باللقاء أو بالمراسلة، وقد تعلمت منهم الكثير.
وكتابة تراجم المعاصرين مَدعاة للخصومة، لأن لبعض المترجَمين تلامذة وأصحاب وأقرباء يتعصبون لهم، فيا ويلك إن كتبت ما يسوء المترجم بحق، وقد ينكرون بعض الحقائق. فالاشتغال بتراجم المعاصرين ليس كمثل الاشتغال بتراجم القدماء.
*كيف ترى علم التراجم اليوم في ظل هيمنة الأفكار المستوردة، والتي أثرت جديّاً على الثقافة العربية وعلى علم التاريخ والتراجم بالأخص؟
- علم التراجم اليوم، فيه اهتمام ونشاط كبير، وأغلب ما نُشر منه ليس جيداً، ويخضع للأهواء والسياسة، فالمختلفون في الرأي مع الأنظمة الحاكمة (مثلا) لا وجود لتراجمهم في الموسوعات الرسمية، وأصحاب الاتجاهات الدينية والفكرية يلغون تراجم من يخالف فكرهم أو توجههم، والإنصاف عزيز. وعلى كاتب التراجم أن يكون دقيقاً في كتابة التراجم وفي حكمه على الأشخاص، وأن يكون دقيقا وحساساً في أحكامه كميزان الذهب، فجملة واحدة قد تدخله الجنة أو تدخله النار.
*كيف السبيل إلى توحيد الثقافة العربية والإسلامية والارتقاء بها وجعلها تؤثر في المشهد العالمي؟
- ذلك يحتاج إلى جهد جماعي من قبل العلماء والمفكرين، مع توحيد جهودهم، والاتفاق على الأصول المتفق عليها من قبل علماء الأمة، والابتعاد عن الجزئيات والخلافيات التي لا تؤثر.
*كيف ترى تحقيق التراث في العالم العربي والإسلامي؟
- أصبح التحقيق مترامي الأطراف ومن العسير ملاحقة ما يصدر من كتب التراث، لكثرة دور النشر، ولا يوجد تنسيق بين المحققين أو المؤسسات ودور النشر، فربما ظهر لكتاب الواحد ثلاثة تحقيقات لمحققين مختلفين في وقت واحد. ومن المظاهر المزعجة أنك ترى كثيراً من الكتب المحققة مكتوب عليها : تحقيق فلان، من الأسماء اللامعة، وهو لم يعمل في الكتاب، إنما عمل فيه بعض المحققين الذين طُمست أسماؤهم للأسف. وإذا نُشر الكتاب عن طريق جهة حكومية فإن انتشار الكتاب يصبح محدوداً، لأنها لا تبغي الربح، فلا يهمها وزّع الكتاب أم لم يوزّع. وحسبك كتاب (النشر في القراءات العشر) لابن الجزري، فقد طبعه مجمع الملك فهد لطباعة المصحف من مدة، ولم يوزّع أو يُبَع، وقد كلفت أحد أصدقائي بشراء نسخة منه فذهب إلى المجمع وقيل له إن الكتاب لم يسل بعد لقسم المبيعات، وأرسلت رسالة لأمين المجمع مع نسخة من كتابي (رسائلهم إلي) وطلبت منه نسخة من (النشر) فلم يجب.
*كيف نستفيد من تراثنا العظيم؟
- نستفيد منه بصنع فهارس شاملة له، من قبل علماء ذوي ثقافة عالية، ووضعها بين أيدي الباحثين والمحققين، ونشر المهم منه، والتنسيق بين المؤسسات التي تعنى بالتراث والتحقيق من جهة، والتنسيق فيما بين المحققين أنفسهم، لئلا تتكرر الأعمال.
*كيف ترى مستقبل الأدب الإسلامي؟
- يكاد الأدب الإسلامي مقصوراً تداوله بين أعضائه أو مريديه، لأن الجهات الحكومية لا تحبّذه، والأدباء العرب ، ومنهم علمانيون لا يحبذون هذا الأدب ويقاومونه، وهذا جهل منهم لأنهم يظنون أن الأدب الإسلامي أدب دين، يتحدث عن الصلاة والصوم والحج ووو، ولا يمتّ إلى الأدب بصلة. مع أنه أدب خالص يدعو إلى الفضيلة ومكارم الأخلاق من خلال الأدب والشعر
وسوم: العدد 647