الدكتور شعبان عبدالجيد.. وحوار حول القضايا الثقافية والأدبية
ليس كل ما يلمع فى الأجواء الثقافية ذهباً، ولا يرقى لمستوى الذهب الصينى مثلاً، وهذا راجع إلى هيمنة تيار أحادى على الثقافة المصرية على مدار خمسة عقود، كانوا ومازالوا يمارسون سياسة الإقصاء البغيض لمن يخالفهم الرأى.. لذا توارى كل أصيل مقابل أن يبرزوا هم على السطح ..فهيمنوا على المناصب والجوائز والذهاب إلى المؤتمرات والرحلات ومنح التفرغ، لذا تقزم دور مصر الثقافى والعلمى، وصارت فى ذيل قائمة الأمم بفضل التجهيل المتعمد من هؤلاء الذين دخلوا حظيرة السلطة يزينون لها أعمالها على مدار العقود الخمسة الماضية ..
وقد قصدنا من خلال هذه الحوارات - التى نجريها على مدار السنوات الأخيرة والتى تتشرف بنشرها جريدة "المصريون" الغراء- أن نكشف الغطاء عن جنود الثقافة الذين ينتمون إلى مدرسة الأصالة، ويمثلون الثقافة المصرية العربية الإسلامية، ومنهم الدكتور شعبان عبدالجيد مدرس الأدب والنقد فى كلية التربية بأكاديمية السادات.
ولد الدكتور شعبان فى قرية "صنصفط" مركز منوف بمحافظة المنوفية فى 22نوفمبر 1967، حصل على ليسانس اللغة العربية وآدابها من كلية الآداب جامعة طنطا 1990، وصمم أن يكمل المشوار العلمى فحصل على الماجستير في اللغة العربية من آداب المنوفية بتقدير (ممتاز) سنة 1996 م، وعلى درجة الدكتوراه في الدراسات الأدبية من آداب المنوفية بتقدير ( مرتبة الشرف الأولى ) سنة 2000، والرسالتان كلتاهما تحت إشراف الأستاذ الدكتور الطاهر أحمد مكي، وقد أثرى المكتبة بالعديد الكتب والأبحاث والأعمال الإبداعية، ومن أعماله النقدية: "توفيق الحكيم ناقداً" ... رسالة الماجستير، و"الشعراء نقاداً في مصر في النصف الأول من القرن العشرين" ... رسالة الدكتوراه . و"من حديث الموت في الشعر العربي"، و"الشاعر مفكراً: رؤية الموت بين شوقي والجارم"، و"أربعة كتب في الأدب المقارن : دراسة في جهود الأستاذ الدكتور الطاهر أحمد مكي"، و" حَيرة النغم : قراءة في ديوان صالح الشرنوبي"، إلى جانب دراسات ومقالات وقصائد منشورة في المجلات المصرية والعربية .
فى السطور التالية التقيناه لنحاوره حول أبرز قضايا العصر من واقع ثقافى مؤلم ويطرح السبل والحلول للخروج من التيه، وحول إمكانية وجود نظرية ثقافية تنبع من تربتنا وهويتنا الثقافية الأصيلة، وكيفية الاستفادة من التراث العلمى والأدبى، ومستقبل الأدب الإسلامى ...
*كيف ترى الواقع الثقافى فى مصر فى الوقت الراهن؟
- أراه مثل كل شيءٍ في مصر: مضطرباً ومرتبكاً وغائماً وضبابياً؛ فقد صرنا كحاطب ليل؛ لا ندرك وجهةً ولا نبصر غاية. إن ثقافتنا صارت معلَّبة، تقبع في بطون الدفاتر وأضابير المكتبات؛ كمحنطات المتاحف ومومياوات الفراعين. إنها ثقافة على حافة الموت، ثقافة (الشرخ)؛ لا تكاد تعرف لها ملامح، ولا تتبين لها مميزات:
وجاءت كثوبٍ ضمَّ سبعينَ رقعةً *** مُــشَـــكَّلةَ الألوانِ مختلفاتِ
على حد تعبير حافظ إبراهيم . ثقافة مهجَّنة إلى حد الهُجنة. فلا هي شرقية ولا هي غربية، ولا هي إسلامية ولا هي علمانية. ومثلما لا نعرف حقيقة أكثر ما يحدث في مصر؛ فنحن لا نعرف أيضاً من الذي يدير حركة الثقافة فيها، ولا إلى أين يقودها، أو يتجه بها . إننا نعاني من (شيزوفرينيا) ثقافية يا سيدي؛ فتعليمنا ـ مثلاً ـ في وادٍ، وحياتنا في وادٍ آخر. وثمة فجوةٌ هائلة بين المثال والواقع، بين العلم والعمل، بين المعرفة والسلوك، بين الكلام والممارسة ، بين النظرية والتطبيق. إننا أمةٌ بلا هوية ؛ أي كشجرةٍ بلا جذور؛ وهو ما يهددنا بالضياع الحتمي والخروج من التاريخ. إننا لم نعد فاعلين ولا مؤثرين؛ وصرنا نستورد ولا نصدر، نستهلك ولا ننتج، نجتر ولا نبدع، نتفرج ولا نشارك. هل أنبؤك بثالثة الأثافي ؟ لغتنا العربية الجميلة ـ وهي وعاء الثقافة وحافظتها ـ ؛ كيف هانت علينا إلى هذه الدرجة؛ وهي لسان ديننا وترجمان عقيدتنا؟! إن في ضياعها ضياعَنا؛ ومن يفرط في لغته كمن يفرط في شرفه. وحين تتراجع اللغة في أي بلدٍ من بلاد الدنيا ؛ فقد تراجعت ثقافته، وتهددت حضارته، وانقطع تاريخه!
*ما السبل التى ينبغى أن نتبعها لإعادة إبراز دور مصر الثقافى على المستوى العربى والعالمى؟
- دور مصر الثقافي ليس ترفاً؛ بل قدراً. فهي صاحبة أقدم حضارةٍ في الدنيا؛ وهي بموقعها وموضعها العبقري، وشخصيتها التاريخية والجغرافية ـ كما يقول الدكتور جمال حمدان ـ لعبت، ويمكنها أن تلعب دوراً ثقافياً، بل وحضارياً، على المستوى العربي والعالمي .
وليس هذا شططاً في القول، ولا مبالغةً في التعبير؛ فتعدادنا يتجاوز التسعين مليوناً من البشر، وهذه هي الثروة الحقيقية لأي أمة. وهم ليسوا مجرد رقم، أو عدد لا مفهوم له. إنهم طاقات وكفاءات ومواهب؛ ومنهم المفكرون والعلماء، ومنهم الفنانون والأدباء؛ ومنهم القادة والساسة، ولا أحدثك عن العمال المهرة وأصحاب الحرف النابهين ! ولاحظ معي أن كثرتهم الكاثرة من الشباب؛ وهؤلاء قادمون لا محالة؛ بحكم الحتمية الطبيعية على الأقل، وسوف يبحثون لهم عن موضع قدم في بلادهم؛ وعن دورٍ مؤثرٍ في أمتهم؛ وعن رسالة عليا في عالمهم.
ومن هنا يجب علينا أن ننتبه إلى ( ضرورة ) دورنا ، وحتمية ريادتنا . ولا بد أن نعترف بأن هنالك دولاً وأطرافاً كثيرة تريد أن تزحزح مصر عن مكانها وتسقطها من مكانتها ؛ وهي تسعى إلى ذلك بكل وسيلة ، مهما كان قذرةً وخسيسة . ووعينا بهذا أول الطريق للمقاومة والانطلاق . علينا أن نؤمن بعظمتنا ، ونعتز بوطننا ، وندرك قدرتنا على أن نغير الدنيا ونقود العالم . لا أريد أن نصير غزاةً ولا حتى فاتحين ؛ ولكن ليس أقل من أن يكون لدينا روح المغامرة والمبادأة والاقتحام ؛ فنخرج إلى العالم ونواجهه ؛ بدلاً من أن ننتظره ليجيء إلينا ويحتل عقولنا وبيوتنا ومخادعنا!
وهذا أمر يفرض علينا أن يكون لدينا ما نقدمه للآخرين؛ مما عندنا وليس عندهم . يجب أن نتحول من (ثقافة النمل) الخازن الجامع، إلى (ثقافة النحل) الهاضم المانح . فنكتشف قدراتنا ، ونعمل ونبدع بلا كلل ولا ملل، ولا نسمح للعجزة ولا الكسالى أن يتصدروا المشهد ويقودوا القافلة!
*ما الدور الثقافى للجامعة فى النهوض بالثقافة والأدب وزيادة جرعات الوعى؟
- أولاً أن تكون (جامعة) بالمعنى اللغوي والاصطلاحي للكلمة ؛ فتقوم على حرية البحث والفكر؛ بلا حدود ولا قيود . وألا يلتحق بها إلا الأكفاء المستحقون؛ وأن تستعيد جلالها وهيبتها ، بمقرراتٍ دسمة وأساتذة نابغين، وتقاليد محترمة؛ ونظام تعليمي قاسٍ ، لا يدع مكاناً للهزالى والكسالى. وأن يتصل كل ما يبدعه أساتذتها بواقع الناس ومشكلاتهم ؛ فلا يسبحون في (اليوتوبيا) ولا ينعزلون في الأبراج العاجية ، ولا ينكفئون على أنفسهم أو ينغلقون على ذواتهم. إن الجامعة هي حاملة لواء الوعي والتنوير؛ وهما لا يكونان إلا في مناخ حر؛ لا يعرف الخوف ولا التردد؛ ولا يخشى التسلط ولا الاستبداد ؛ شريطة أن يكون هذا الوعي عاقلاً ومنضبطاً؛ يهدف إلى نفع الوطن وخير الأمة وسعادة البشرية.
وتذكر معي أن قادة الوعي الثقافي والأدبي، وحتى السياسي ، خرجوا من الجامعة؛ حين كانت مكاناً لتفريخ المواهب واكتشاف المبدعين؛ قبل أن تصير (شبه مكانٍ) لتخريج الكتبة وإعداد الموظفين .
وأذكر أن الجامعة (القديمة) هي التي أخرجت لنا أكبر الأدباء والنقاد والمفكرين الذين نباهي بهم ؛ كان ذلك في النصف الأول من القرن العشرين، وما نحن فيه الآن هو الثمرة المرة التي خلفها لنا النصف الثاني من القرن الماضي؛ حيث مال أكثر الجامعيين إلى الغرب، وانبهروا بما يسمونه الحداثة، وأداروا ظهورهم إلى تاريخ أمتهم وآثار أسلافهم .
ورأيي أن آخر هذه الأمة لن يصلح إلا بما صلح به أولها. ساعتها سوف تجد الأستاذ المخلص الذي لا يشغله جمع المال، ولا يفكر في المتاجرة بالمذكرات والملخصات ، وسوف تجد الطالب الجاد الملتزم؛ يبحث ويطالع ويبدع ، ولا يكتفي أبدأ بما يحصله في المدرجات أو القاعات. وسوف ينعكس ذلك كله على حركة الثقافة والأدب ؛ فينتج الأدباء ، ويقيم النقاد؛ ويفوز القراء بزادٍ من الإبداع والفكر، يمكن أن يغير وجه الحياة في بلادنا!
*متى تذلل العقبات التى تواجه المبدع كى يرى عمله النور؟
- حين يقوم على مؤسسات النشر في بلادنا قومٌ آخرون !
لا يعرفون الشللية ولا المجاملات، ولا المحسوبيات؛ ويخلصون في عملهم لله والوطن ؛ فيقدمون أهل الخبرة لا أهل الثقة ، وينشرون للمبدعين المتميزين ، وليس للمنافقين المتملقين . إن كثيراً ممن يسيطرون على وسائل النشر الحكومي في مصر لا ينشرون إلا لأشياعهم ومعارفهم ، وهنالك دوريات لا تنشر إلا لأسماء بعينها، وإلا لتوجه بعينه، وتوشك أن تعادي كل ما هو إسلامي أو تراثي؛ فتوسع للأفكار العلمانية بحجة (الليبرالية)، وتفتح صفحاتها لما يزعمونه (شعراً حراً) وما يسمونه (قصيدة نثر) ـ وهما من أردأ ما أبدعه العرب في تاريخهم الأدبي؛ وأجمل نماذجهما لا يعدو ـ في رأيي ـ أن يكون نثراً فنياً بديعا. وقد كانا سبباً في طمس الهوية الوطنية والقومية ، وقطْع العلاقة بين الشاعر وجمهور الناس؛ وقد لقيا جزاءهما وفاقاً ، حين انصرف عنهما القراء، وحتى المثقفون، وصار أصحابهما يكتبون لأنفسهم ، ويصفقون لأنفسهم ، ولن يمر وقتٌ طويلٌ حتى تنتهي هذه المهزلة التي أحدثها بعض المشاغبين في تاريخ هذه الأمة !
*متى نرى نظرية أدبية حقيقية تنبع من الثقافة المصرية ولا تصطدم بالتربة المصرية التى تطرد كل غريب وشاذ؟
- منذ ما يقرب من خمس عشرة سنة قدم الدكتور عبد العزيز حمودة، رحمه الله، كتابه الشهير: (المرايا المقعرة : نحو نظرية نقدية عربية) حاول فيها ردَّ الاعتبار للبلاغة العربية بوضعها ـ على حد قوله ـ أمام "مرايا عادية"؛ تعكس الحجم الحقيقيَّ لإنجازات العقل العربي دون مبالغة جوفاء أو تحقيرٍ مجحف. وقد خلص إلى أن البلاغة العربية قدمت نظرية لغوية ونظرية أدبية تشهدان بعبقرية العقل العربية . وكان من المكن، لو لم يمارس الحداثيون ومن لفَّ لفَّهم شعار القطيعة مع التراث ، تطويرهما إلى مدرستين لا تقلان تكاملاً ونضجاً عن المدارس اللغوية والأدبية الغربية التي انبهر بها بعضهم طوال القرن العشرين. وقد أثبت الرجل ـ في حدود إمكاناته ـ أنه لا تكاد توجد قضية لغوية أو أدبية حديثة أو معاصرة، لم تتوقف عندها البلاغة العربية في عصرها الذهبي ، وبصورةٍ مثيرةٍ للعجب والإعجاب.
ويمكننا أن نفعل شيئاً قريباً من هذا فيما يتصل بنظريةٍ أدبية مصرية، بشرط ألا ننفصل عن تراثنا العربي، أو ننسلخ عن هوية أمتنا وتاريخها . ثمة محاولات كثيرة من أساتذتنا الذين عنوا بدراسة الأدب المصري؛ عبر كل عصوره، منذ الفراعنة إلى يوم الناس هذا ، ويمكن لباحثٍ جادٍ، أو مجموعة من الباحثين، أن يعكفوا على هذا الأدب درساً وبحثاً وتحليلاً ، ويحاولوا صياغة نظرية؛ أو (رؤية) أدبية مصرية أو (اتجاهاً) بتعبيرٍ أدق؛ لأن النظرية أعم وأشمل وأعمق، وإن كنت أرى أن الأدب المصري ـ ولاحظ أن هذا تعبير جغرافي وإقليمي ـ يتميز بما يتميز به المصريون أنفسهم ، وكما أشرت في سؤالك ؛ وهذا ليس عيباً على أية حال ـ فالأدب الذي يطرد كل غريبٍ وشاذٍّ هو أدب حي وقوي، له خصوصيته وتفرده؛ وهذا ليس عجيباً عن هذا البلد الذي ابتلع غزاته وهضمهم ولم يقبل إلا أن يكون نفسه!
*كيف نستقيد من تراثنا العظيم؟
- أولاً يجب أن نعرف هذا الثراث العظيم لكي نستفيد منه . فنعيد نشره بصورة واسعة، وتحقيق ما لم يحقق من كنوزه وروائعه، وهو أضعاف ما نشر وحقق إلى اليوم، وأن ندرك، ونفتخر، بأن هذا التراث هو الذي كان يضيء أركان الدنيا في عصور الظلام والتخلف، وهو ليس ما تركه العرب من شعر ونثرٍ ونقدٍ فحسب؛ فثمة مؤلفات لا تكاد تحصى في الطب والصيدلة والفلك والرياضيات والكيمياء والجغرافيا والتاريخ والقانون ... يعرفها الأوربيون أكثر مما نعرفها نحن ، وقد أفادوا منها وأضافوا إليها وصنعوا ما نسميه اليوم بالحضارة الغربية.
وإياك أن تصدق أن الأوربيون عالةٌ علينا في كل شيء، ولولا كتب أسلافنا التي ترجموها ما صنعوا شيئاً ؛ فهذه قالةٌ فيها من الباطل أكثر مما فيها من الحق؛ والأمم كلها تتبادل الأخذ والعطاء، ونهضتنا القديمة في عصر الازدهار العربي والإسلامي، قامت هي الأخرى على ما ترجمه العرب من معارف الفرس وعلوم الروم وفلسفات الإغريق، ومنذ ما يقرب من قرن قال السيخ أمين الخولي: إن أول التجديد هو أن نقتل القديم بحثاً .
وأرى أن يكلف طلاب الماجستير والدكتوراه في كل جامعاتنا ، بتحقيق مخطوطة في مجال تخصصهم ، إلى جانب رسائلهم؛ وأن تعود مدرسة التحقيق إلى ما كانت عليه في عهد أعلامها الكبار ؛ وإن كان هذا صعباً، ولا أقول مستحيلاً .
شيءٌ مهمٌّ آخر: وهو ألا نقع في فخ تقديس التراث؛ فهو منتج بشري في خاتمة المطاف؛ يمكن أن ننطلق منه ؛ ونبني عليه ، ويمكننا أن نتحاور معه، أو حتى نتشاجر، وأن نأخذ منه ما يناسب العصر ولا يصادم طبيعة التطور. ومن رأيي أيضاً أن يكون هناك مقرر للتعريف به في أقسام الكليات كلها ؛ مثلما نفعل في مادة (المصادر الأدبية واللغوية) في أقسام اللغة العربية. ساعتها سوف يتشكل وعي جمعي { جامعي } ؛ يمكنه أن يصل الأجيال الحاضرة بتراث أجدادهم ؛ ثم تبدأ من هنا حالةٌ من الأخذ منه والرد عليه؛ وهو ما يمكن أن نجني ثمرته الحلوة في أقرب وقت.
*كيف ترى مستقبل الأدب الإسلامى؟
- دعني في البداية أوضح لك وجهة نظري في هذه المسألة: كان العرب في الجاهلية يبدعون شعراً ونثراً؛ هو في النهاية تعبير عن بيئتهم وحياتهم وأفكارهم، وحتى عقائدهم . فلما ظهر الإسلام ظل هؤلاء العرب أنفسهم ينظمون ويكتبون؛ مع تغيير قليل ، فرضته العقيدة على من اعتنقها وأملاه الدينُ على من اتبعه؛ فخفت حدة العصبية ، وتراجع الفحش في الهجاء والتغزل، وعرفت روحانية الإسلام طريقا إلى قلوب الشعراء والخطباء . حتى إذا كان العصر الأموي ؛ عاد الأدب إلى ما كان عليه ؛ مع مراعاة فروق التوقيت كما نقول ، وبقيت أصداء الدين في شعر الزهد ومواعظ الصالحين . وظل الأمر كذلك عبر عصور الأدب العربي كلها، مع تفاوت في الدرجة لا في النوع.
حتى إذا كان العصر الحديث، واصطدم العالم الإسلامي الضعيف ، بالغرب المسيحي (أو العلماني إن شئت) القوي، حاول الأدباء والنقاد أن يبحثوا عن شيءٍ يتمسكون به ويستقووا به في مواجهة المد الغربي الزاحف عليهم: علماً وفكراً وأدباً وفناً ؛ فكان وجهاً من ردِّ الفعل فيما سميناه (الأدب الإسلامي) وهو مصطلحٌ يوشك أن يكون قد استقر من الناحية النظرية ؛ لكنه لا يزال ناقصاً من الناحية الفنية والتطبيقية.
وثمة تساؤلات كثيرة حوله ، منها : هل هو الأدب الذي يكتبه المسلمون ويعبرون به عن قضايا دينهم ومشكلات أمتهم ؟ طيب . إذا كان كذلك: فبم نسمي الأدب الذي يكتبه ( مسلمون ) ولكنهم يعالجون قضايا الدنيا وموضوعات الحياة بكل تفاصيلها ؟ وبصورةٍ أكثر وضوحاً: إذا كان ما يكتبه علي أحمد باكثير، ونجيب الكيلاني ـ مثلاً ـ أدباً إسلامياً ؛ فماذا يكون ما يكتبه علي الجارم، ومحمد عبد الحليم عبد الله ـ ولا أقول نجيب محفوظ ويوسف السباعي ؟!
هنا نصل إلى التماس بين (الأدب الإسلامي)، و (الأدب الإنساني) ربما ينقذنا منها ما اصطلح عليه الدارسون من أن الأدب الإسلامي هو الأدب الذي يقدم التصور الإسلامي للكون والحياة والإنسان، مع التركيز على شرط الأدبية والإسلامية معا .
ورأيي أن يبدع الأديب المسلم ؛ في كل فنٍّ وفي كل موضوع ؛ بشرط واحدٍ وبسيط ؛ وهو أن يستمع إلى صوت ضميره المؤمن ، ولا شيء أكثر من هذا . وعلى رأي الأستاذ الرافعي : إن الأدب العظيم هو الذي تشعر بعد قراءته أن فيك شيئاً يعلو ، وأن الأدب الفاحش ـ إذا جاز أن يكون الأدب فاحشاً ـ هو الذي تشعر بعد الفراغ منه أن فيك شيئاً يسفل .
وعلى كلٍّ ؛ فإن مستقبل (الأدب الإسلامي) رهن بوعي الأدباء المسلمين بطبيعة رسالتهم وخطورة دورهم ، كما أنه مرتهنٌ أيضاً بقوة المسلمين وتحضرهم، وما عليه حياتهم وأخلاقهم . وأملي أن تنتشر الكلمة المتوضئة ـ كما يقول أستاذنا الدكتور حلمي القاعود ـ ويذيع عطرها في الآفاق .. والأيام القادمة للكلمة المحتشمة ، والغد القريب للأدب الطاهر ؛ لأن المستقبل لهذا الدين !
وسوم: العدد 665