أشكال معاقبة الشعوب العربية المنتقضة ضد الفساد خلال حراكها في ثورة ربيعها
عاشت الأمة العربية من محيطها إلى خليجها عقودا بعد جلاء المحتل الغربي عن أراضيها تتطلع إلى حياة أفضل من الحياة التي كانت تحت نير ذلك الاحتلال الذي رحل عسكره، ولم يرحله تدخله في شؤونها من خلال أنظمة لا تعصي له أمرا، فكانت النتيجة هي استفحال الفساد الذي زرعه ذلك المحتل، ورعته بعد رحيله تلك الأنظمة التي أباحت له مقدرات وثروات شعوبها مقابل احتفاظها بكراسيها وبمناصبها . وظلت الأمة المغلوب على أمرها تنتظر الفرج حتى طفح الكيل ، وجاءت الفرصة المواتية، فانتفضت ضد فساد أنظمتها . وكانت البداية من أرض مصر وهي على الدوام قاطرة البلاد العربية، ثم تلتها تونس وباقي الأقطار العربية، فكان ربيع هذه الأمة . ومن السخف اعتبار الربيع العربي خطة غربية ، ذلك أن الجزم بذلك يدخل ضمن التشكيك فيه ،والتقليل من شأنه لتفقد الأمة الثقة فيه. قد يكون للغرب علم مسبق به أو يكون له دور ما فيه ليحوره لصالحه، فيتخلص من بعض الأنظمة التي استوفت خدمتها له ، فيحل محلها من يعطيه أكثر، ويخدمه أكثر، لكن لا يمكن التشكيك في حقيقة الربيع العربي لأنه كان بالفعل ربيعا ، ولكنه ربيع تسلطت عليه جائحة، فأذبلت نضارته قبل أن تكتمل، ويزين الوطن العربي، ويأخذ زخرفه .
وجاءت العقوبات ضد الشعوب العربية المنتفضة ضد فساد أنظمتها بأشكال مختلفة، منها الانقلاب على الشرعية والديمقراطية كما هو الحال في مصر ، وكانت معاقبة الشعب المصري أشد لأنه أول من اكتملت ثورته على الفساد، وحقق حلم الخيار الديمقراطي غير المسبوق في الوطن العربي . وبتعطيل تجربة مصر الديمقراطية، وهي القاطرة ،سهل الإجهاز على باقي التجارب من خلال انقلابات انتخابية بالنسبة للشعوب التي بلغت مرحلة الانتخابات ،ففرضت على الأحزاب الفائزة ،وهي التي أعلنت عن مرجعيتها الإسلامية أحزاب ذات مرجعيات أخرى لتكون شريكة لها في التدبير والتسيير أو معرقلة لها، وكان القصد من وراء ذلك الحد من تأثير توجهها الإسلامي الذي صار الغرب ينعته بخطر الإسلام السياسي . أما الشعوب التي لم تبلغ مرحلة الانتخابات، فقد عوقبت بعدم الاستقرار وبالنفخ في صراعاتها الطائفية حيث وقف الغرب وحلفاؤه من الأنظمة العربية التي أخمدت ثورات شعوبها في مهدها إلى جانب رموز الأنظمة الفاسدة التي أطيح بها لإعادتها من جديد . ومع انشغال الشعوب العربية إما بعودة الفساد والاستبداد من جديد كما هو الحال في مصر ، أو بإفشال التجارب الانتخابية كما هو الحال في تونس والمغرب ، أو بالصراعات الطائفية ، تحرك الغرب وحلفاؤه من الأنظمة التي أفلتت من ثورات الربيع العربي في اتجاه تصفية القضية الفلسطينية تحت مسمى صفقة القرن ، وتعجلت الإدارة الأمريكية الإعلان عن الاعتراف بالقدس عاصمة للكيان الصهيوني قبل أن تتوقد جذوة ثورات الربيع العربي من جديد، فتنسف تلك الصفقة من أساسها ،والتي تم التخطيط لها منذ زمن بعيد ، وكانت هذه الصفقة أكبر عقوبة عوقبت بها الأمة العربية من محيطها إلى خليجها . ويعتبر الغرب أكبر عرقلة لإتمام هذه الصفقة هو ما يسميه الإسلام السياسي ،والذي توصف به تحديدا الأحزاب ذات المرجعية الإسلامية التي تعتبر القضية الفلسطينية بسبب مقدساتها قضية دينية قبل أن تكون قضية سياسية ، ذلك أن الديني غير قابل للتفاوض والمساومة كما هو الشأن بالنسبة للسياسي ، وأن الديني تتبناه الأمة، وليس من اختصاص الأنظمة . ولهذا السبب تم الإجهاز على الذين يحملون الطرح الديني للقضية الفلسطينية سواء كانوا أفرادا أم جماعات أم أحزابا ، وهذا ما يفسر اعتقال الأنظمة العربية التي أفلتت من ثورات الربيع العربي الدعاة والعلماء لأنهم في نظرها، وفي نظر الغرب هم من ينظّر لما يسمى الإسلام السياسي ،وهو عبارة عن إرهاب في نظرهم يجب أن يحارب . ولقد خلق الغرب ومن يسير في فلكه من الأنظمة العربية ذريعة لشن هذه الحرب من خلال صنع عصابات إجرامية تدعي المرجعية الإسلامية ، وتمارس العنف الأعمى، وتستهدف الأبرياء ، وهي تشوه الإسلام لدى الرأي العام العالمي، وذلك من أجل إيجاد صلة بينها وبين من تسميهم منظّرين لها من العلماء والدعاة ، وبينها وبين أحزاب ذات مرجعية إسلامية ليسلك الجميع فيما يسميه الغرب وخلفاؤه خطر الإسلام السياسي .
ولقد باتت الأمة العربية تدفع الثمن غاليا بسبب ثورة ربيعها ، وتحديدا بسبب رهانها على التجربة الديمقراطية، وعلى الأحزاب ذات المرجعية الإسلامية التي لا تدخر الجهات المعادية لها جهدا في إظهار عدم أهليتها لقيادة الأمة، وفشلها في التدبير لتشكيك الأمة المراهنة عليها في قدراتها لنقلها من وضع فاسد إلى وضع صحي . ومن أساليب معاقبة الأمة على هذا الرهان فرض ظروف العيش القاسية على الشعوب العربية ، وإرجاع سبب ذلك إلى فشل رهانها على ما يسمى بالإسلام السياسي لتقطع الصلة به نهائيا ، وتقبل العودة إلى وضع ما قبل ثورة الربيع العربي باعتباره الوضع الأنسب لها . وهكذا صار الذين يعاقبون الأمة العربية على ثورة ربيعها يروّجون بينها أفكار الحنين بل وحتى التباكي على الأنظمة الفاسدة المنهارة . وبطبيعة الحال إذا صار الوضع أسوأ مما كان سيسود منطق " شر أهون من شر " فالأنظمة المنهارة التي حلت محلها أنظمة أسوأ منها تصير هي الشر الأهون . والأوضاع السياسية الاقتصادية الأسوأ التي حلت محل الأوضاع السيئة السابقة هي الشر الأهون، وهي أخف الضرر، وهذا ما تريد الجهات المعاقبة للأمة المنتفضة على الفساد تكريسه، وجعله أمرا واقعا لا بديل عنه أو لا بديل له ، ولسان حال هذه الجهات يقول للأمة : لقد كفرت بفضل أنظمتك السابقة ، وها أنت تجنين نتيجة كفرانك ، ومن لم يرض برغيف رضي بنصفه كما يقول المثل .
وأخيرا نتساءل هل سيعود ربيع الأمة كما يعود ربيع الطبيعة ، فيأتي بعد السنين عام فيه تغاث الأمة وتعصر ؟
وسوم: العدد 757