الناس في هذه الحياة صنفان :صنف يتّبع هواه وصنف يجعل هواه تبعا لشرع خالقه ومولاه

الناس في هذه الحياة الدنيا التي وجدوا فيها  خصيصا ليمتحنوا، وليحاسبوا بعد رحيلهم عنها وفق الاعتقاد الإسلامي صنفان : صنف يسلس قياده لهواه ، وآخر يخضع لحكم خالقه ومولاه.  ومعلوم أن الخالق سبحانه لم يهمل خلقه ، ولم يتركهم لعبث أهوائهم بل أرسل الرسل والرسالات منذ بدء الخليقة ليلجم جموح أهوائهم بشرعه. ومعلوم أن الهوى البشري هو ميل النفس إلى الشهوات، وهي ما يشتهى من ملذات حسية مادية ومعنوية . وسبب الهوى البشري غرائز أودعها الخالق سبحانه في النفس البشرية ، والتي توصف بالعمياء  كناية عن إلحاحها الشديد طلبا للإشباع . وأشدها إلحاحا ما تعلق بشهوتي البطن والفرج . ومع هاتين الشهوتين الحسيتين الماديتين، توجد شهوات أخرى معنوية لا تقل إلحاحا عنهما  كشهوة حب الظهور والعلو... وهلم جرا. ولتحرير الإنسان من سلطان الهوى، شرع له  الله عز وجل شرعا يضبطه ليحيى حياة سوية ، ويفوز في امتحانه وهو يخوض غمارها الملغوم بالشهوات ، وينجو من سوء المصير في أخراه .  ومعلوم أن الإنسان يكابد ، ويعاني معاناة  شديدة بسبب تدافع هواه مع شرع خالقه ومولاه في نفسه، وليس ذلك بالأمر الهين ،بل يحتاج منه إلى علو همة ، وصدق عزيمة لترجح في نفسه كفة الشرع بكفة الهوى .  ومعلوم أن الاحتكام إلى الهوى البشري إنما يخدم مصالح شخصية أو فئوية، بينما الشرع الإلهي يراعي مصالح البشرية كافة .

ولما ختم الله عز وجل الرسالات بالرسالة الخاتمة العالمية، ضمنها شرعه الذي به تتحقق سعادة البشرية إلى قيام الساعة . وكل من آمن بهذه الرسالة ملزم بالانضباط لهذا الشرع في كل أحواله . وقد حذر الله عز وجل أهل الإيمان من الاحتكام إلى الهوى على حساب شرعه، فقال في محكم التنزيل : (( يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم )) ،والتقدم في اللسان العربي يعني مشي الإنسان قبل من يماشيه أو قدامه أوتركه خلفه ، ويعني أيضا التعجيل في الأمر والنهي  دونه .والتعبير القرآني يجعل من يقدم هواه على شرع خالقه ومولاه، كالذي يتقدم على من يماشيه ، ويعجّل  في اتخاذ القرارات قبله. ولقد جعل الله عز وجل من يتقدم بين يدي رسوله صلى الله عليه وسلم كمن يقدم بين يديه سبحانه ،لأن طاعة رسوله من طاعته مصداقا لقوله تعالى : (( من يطع الرسول فقد اطاع الله )) . والله عز وجل لا يقبل أن يفرّق بينه وبين رسله كما جاء في قوله تعالى : (( إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا أولئك هم الكافرون حقا وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا )) . ومعلوم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما هو مبلغ عن رب العزة جل جلاله شرعه للخلق ، ورفض تبليغه هذا الشرع ،هو رفض لشرعه سبحانه وتعالى . ولقد وضع الفقهاء قاعدة مفادها أن المكلف لا  يقدم على فعل حتى يعلم حكم الله عز وجل فيه . ومعلوم أن شرع الله عز وجل يحصل من خلال نوازل عاشها من عاصروا نزول الرسالة الخاتمة، فقضى فيها الله عز وجل بحكمه الذي شملهم ،وعمم  بعد ذلك على سائر البشر بعدهم  إلى قيام الساعة نظرا لعالمية هذه الرسالة ، ذلك أنه لو اقتصر شرعها على من عاصروا نزولها لما كانت عالمية ، ولهذا قال أهل العلم العبرة بعموم لفظ هذه الرسالة لا بخصوص سبب نزولها . والذين يردون أن يجعلوا العبرة بخصوص السبب لا بعموم اللفظ إنما غرضهم الحكم على هذه الرسالة بالتقادم والإقصاء  بذريعة عدم مسايرتها ما يجد من نوازل  في حياة الناس بعد النوازل التي شملها حكم الله عز وجل ساعة نزولها، علما بأن قاعدة تعميم الحكم انطلاقا من نازلة حاصلة هو دأب القوانين البشرية أيضا  ، فكيف يستسيغ البعض هذه القاعدة في تلك القوانين بينما لا يقبلونها في قانون الله عز وجل وهو أولى بها من قوانينهم التي يسري عليها التقادم الذي لا يسري عليه ؟ ولقد اشترط الله عز وجل  في صحة وصدق الإيمان الاحتكام إلى شرعه فيما يعرض للناس من نوازل  مصداقا لقوله عز من قائل : (( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا حرجا فيما قضيت ويسلموا تسليما ))، وتحكيم رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما هو تحكيم الله عز وجل . ولما كان الإنسان خاضعا لهواه، فإنه يجد حرجا في الاحتكام إلى شرع خالقه ومولاه، ولا يمكنه أن يدرك الإيمان الحقيقي إلا إذا كان لا يجد حرجا فيما قضى الله ورسوله ويسلم تسليما ، والمفعول المطلق ههنا للتوكيد، وهو قطع لكل تردد  في القبول والرضى والتسليم . ولقد جعل الرسول بوحي من ربه الإيمان رهين  بأن يكون هوى الانسان تبعا لشرع الله عز وجل حيث قال : " لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به "، والذي جاء به إنما هو شرع الله عز وجل . والناس في هذه الحياة كما تقدم صنفان : صنف يتبع هواه ، وصنف يجعل هواه تبعا لشرع مولاه. وشرع الله عز وجل المضمن في دين الإسلام الذي هو وحده  الدين عند الله ، والذي لا يقبل عنده غيره مصداقا لقوله تعالى : (( إن الدين عند الله الإسلام )) وقوله : (( ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين )) إنما هو منهاج حياة ينسحب على كل جوانبها، ولا يستثنى من ذلك جانب . وحيثما يسود الهوى البشري يكون الفساد مصداقا لقول الله تعالى : (( ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن))، وبموجب هذا لا صلاح فيهما إلا بسيادة شرع الله عز وجل . ومعلوم أن الدين اعتقاد وعبادات ومعاملات، وبين عناصر هذا الثالوث علاقة جدلية يؤثر بعضها في بعض ويتأثر به، وإن كان الاعتقاد هو المحدد للعبادات والمعاملات ، فمن صح اعتقاده صحت عباداته ومعاملاته . وكما أن الإنسان  يحكم شرع الله في ممارساته التعبدية،  ولا يصدر فيها عن هواه ، يكون ملزما بتحكيمه في معاملاته أيضا، إلا أن البعض لا يخضع لشرع الله إلا في عباداته حيث لا يزيد فيها بهواه  ولا ينقص ، بينما يستبيح هواه معاملاته .

وإننا لنعيش اليوم  في زمان شاع فيه التشكيك في كون الإسلام  منهاج حياة حيث صار البعض ينادي ببدائل عن شرعه تكون أهواء بشرية ، ولم يعد هؤلاء يتحرجون من مخالفة أمر الله ،وذلك بالتقديم بين يديه ويدي رسوله .وهكذا صرنا نسمع بإحلال قسمة الهوى محل قسمة الشرع فيما يخص أنصبة الميراث بين الذكر والأنثى  بحيث لم تعد القسمة للذكر مثل حظ الأنثيين كما شرع الله عز وجل ، بل صارت للأنثى مثل حظ الذكر  كما أراد أهل الهوى . و معلوم أن في قسمة الهوى هذه اتهام  وتبخيس لقسمة الشرع  وهو سوء أدب مع الخالق . وعلى غرار إحلال الهوى محل الشرع  في قسمة الإرث عند البعض ،وإلحاح البعض الآخر في المطالبة  بذلك، ترتفع دعوات تطالب بإحلال الهوى البشري محل شرع الله   في شتى الأمور منها على سبيل المثال  لا الحصر إقرار نكاح المسلمة بالكافر ، و إقرار ما يسمى بالحرية الجنسية والرضائية والمثلية ، وإقرار الردة ،و إقرار المجاهرة بالمعصية... وما إلى ذلك مما نهى عنه الشرع، وأباحه الهوى . ويلجأ دعاة إحلال الهوى محل الشرع إلى حيل في منتهى الخبث والمكر، فيشككون في شرع الله عز وجل من خلال التشكيك في سنة رسوله عن طريق الطعن في صحابته ، وفي أئمة الحديث ،وفي علماء الأمة وفقهائها حتى بلغ الأمر ببعضهم حد الحكم على الفقه الإسلامي بالموت والنهاية لأنه لا يساير أهواءهم الصادرة عن قناعات وإيديولوجيات منحرفة وضالة مضلة . ومسايرة لهذه الأهواء بدأنا نسمع بمحدثات غريبة لم تكن من قبل، وليس لها  أصل أو سند أو مبرر أو مسوغ فيما شرع الله تعالى الذي بلّغه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم  من قبيل تغيير خلق الله بحيث يسد جنس مسد غيره فيما خصه الله عز وجل به . ولا شك أننا سنسمع في المستقبل أغرب مما نسمع اليوم لأن هذا الزمان صار زمان حلول هوى الإنسان محل شرع  الرحمان .  

وسوم: العدد 758