وقفة مع مقاربة نصوص اللغة العربية شعرا ونثرا لفائدة كل من يهمهم الأمر من أساتذة جدد ومتعلمين
الوقفة الأولى : (إجراءات فهم النصوص )
من المعلوم أن النص في كل اللغات ومن بينها لغة الضاد عبارة عن كيان مركب لا يفهم إلا إذا فككت أجزاؤه وفق مقاربة لها ضوابط صارمة. وقد تختلف النصوص من حيث جنسها بين نثرية وشعرية ،ولكنها تخضع لمقاربة ذات إطار عام من حيث مراحلها وما تتضمنه من خطوات ذات أنشطة معينة. ومع اعتماد مقاربة واحدة ،فإن النتائج تأتي متفاوتة وفق غنى النصوص أو فقرها ، ووفق ما يغلب عليها من عناصر طاغية أو بارزة ومثيرة للانتباه .
ومعلوم أن المعنى اللغوي لكلمة مقاربة هو الدنو من الشيء . ومقاربة نص من نصوص اللغة العربية ،هو تناوله بالتحليل والتفكيك والتفسير للدنو من دلالته. وقبل التحليل والتفكيك والتفسير لا بد من فهم للنصوص يسبق ذلك، ويكون وفق إجراءات هي :
1 ـ إجراء استعراض الأرصدة المعرفية التي تقرب المسافة لفهم النصوص :
من إجراءات هذه المقاربة الاستعداد لمواجهة النصوص عن طريق استحضار ما تمت مراكمته من أرصدة معرفية يفترض أن تكون ذات صلة وعلاقة بتلك النصوص بشكل من الأشكال ، ذلك أن النصوص لها انتماءات بحكم مضامينها وبحكم القوالب والأشكال التي تقدم فيها . والأرصدة المعرفية هي كمية المعلومات المحصلة من خلال تجارب سابقة . ومعلوم أن هذه الأرصدة تعكس تمثلات أصحابها ،والتي لا تعدو ثلاثة أحوال هي : تمثلات صحيحة ، وتمثلات خاطئة ، وتمثلاث ناقصة . وقبل مباشرة مقاربة النصوص لا بد من استعراض تلك الأرصدة المعرفية ذات العلاقة بتلك النصوص لتعزيز ما صح منها، أوتتميم ما نقص منها ، أوتحصيح ما أخطأ منها . والقفز على مرحلة استعراض الأرصدة المعرفية في مقاربة النصوص يؤثر بكل تأكيد سلبا عليها بحيث تؤثر الأرصدة المعرفية الناقصة أوالخاطئة في من يقارب تلك النصوص ، فينتهي في تحليله وتفسيره إلى نتائج غير صحيحة . وعلى قدر حجم النقص والخطأ في الأرصدة المعرفية، يكون حجم النقص والخطأ في مقاربة النصوص ،و فهمها ،والوصول إلى كنهها. ولنمثل لذلك بمن يريد على سبيل المثال مقاربة نص شعري جاهلي ولما يراكم رصيدا معرفيا يتعلق بعصره وبيئته وثقافته الحاضنة له، وتكون تمثلاته بعيدة عن ملامسة واقع الجاهلية كما تقدمه خبرات من خبروه ، وتكون مقاربته مجرد مجازفة، ذلك أنه قد يسقط عليها تمثلات متعلقة بغير عصره ،وغير بيئته ،وغير ثقافته، وتكون النتيجة حينئذ تحليلا وتفسيرا بعيدين كل البعد عن روحه ومكنونه . وكثيرا ما يستخف البعض بإجراء استعراض الأرصدة المعرفية المتعلقة بالنصوص المستهدفة بالتحليل والتفسير ، فيجدون صعوبة في معاشرتها ، وفي تفكيكها والقرب من اكتشاف الطرق التي ركبت بها .ولو أنهم خصصوا شيئا من وقتهم لاستعراض تلك الأرصدة لطووا مسافة معتبرة نحو الوصول إلى ضالتهم . ولا يتطلب الوقوف عند استعراض الأرصدة المعرفية الضرورية بين يدي مقاربة النصوص وقتا طويلا ،لأن ذلك الاستعراض إنما يكون عبارة عن إلمام بأمور عامة لا بأمور تفصيلية كأن يعرف على سبيل المثال من يعالج نصا شعريا جاهليا العصر الجاهلي في عمومه زمانا، ومكانا، وإنسانا ، وعمرانا دون إغراق في تفاصيله التي يستضمر بعضها النص الخاضع للتحليل والتفسير .
2 ـ إجراءات فهم النصوص:
لا بد في مقاربة النصوص أن يسبق الفهم التحليل والتفسير إذ كيف يمكن تحليل وتفسير غير المفهوم . وفهم النصوص له مراتب أولها الانطلاق من مؤشرات تنتمي إلى النصوص كالعناوين التي تعطى لها ، والتي لا تكون اعتباطية بل يكون وراءها قصد أراده واضعها . والمعروف عن العناوين أنها إما أن تكون اختزالا للأفكار المحورية التي تدور حولها النصوص ،علما بأن تلك الأفكار المحورية يحكمها ضابط الجمع والمنع، فيقال إنها جامعة إذا ألمت بكل أجزاء النص ، ومانعة إذا امتنع إيراد غيرها معها . والعناوين المختزلة لها قد تتضمن شيئا من جامعيتها ومانعيتها، فتكون منطلقا لملاحظة النصوص قصد افتراض فرضيات قرائية ممكنة لها . وإلى جانب مؤشر العناوين توجد مؤشرات أخرى كمطالع النصوص، وخواتيمها ،أو أواسطها ،والتي تؤدي نفس الدور الذي تؤديه العناوين . وعلى قدر قوة المؤشر في التوجيه، تأتي قوة الفرضيات القرائية الممكنة وصحتها ، ويحصل التوفيق في ملاحظة صائبة . والبعض قد يقفزأيضا على خطوة ملاحظة النص، وينطلق من فرضيات لا مؤشرات لها أو عليها ،فتضيع منه فرصة تقريب مسافة فهم النصوص لأنه شتان بين وضع فرضيات قرائية بالاعتماد على مؤشرات من النصوص ، وبين وضع فرضيات دون الاعتماد عليها أو من فراغ . ويمكن التحقق من ذلك انطلاقا من تجربة تجرى بين من يعتمد مؤشرات النصوص وبين من يتجاهلها لوضع فرضيات قرائية ، وسيكون دائما من يعتمد تلك المؤشرات هو الأسبق إلى الفرضيات الصحيحة، وصاحب السبيل الأقرب والحظ الأوفر لفهم النصوص .
وعلى ضوء الفرضيات القرائية يكون الأداء القرائي التلفظي للنصوص ، فعلى سبيل المثال إذا انطلق الدارس من مؤشر في نص شعري، هداه إلى وضع فرضية قرائية مفادها أن هذا النص نص رثاء ، فإنه سيقدم على قراءته تلفظا بإيقاع يتمثل الجو الرثائي المهيمن عليه . وإذا افترضنا أن دارس هذا النص انطلق من فرضية قرائية دون مؤشر من هذا النص ، فإنه سيقدم على قراءته بطريقة لا تناسب طبيعته ولا تتمثل جوه ، ويكون ذلك من التعثر في فهمه .
والقراءة التلفظية لها ضوابطها التي بدونها لا يحصل الفهم منها :احترام الحركات الإعرابية لكلمات النصوص ، واحترام علامات الترقيم بين جمل النصوص فصلا ووصلا ، وتمثل أساليبها خبرا وإنشاء . وقد يستهين البعض باحترام الحركات الإعرابية للكلمات ،وباحترام علامات الترقيم بين الجمل ، وباحترام تمثل الأساليب ،والحقيقة أنها ضوابط مساعدة على فهم النصوص واستيعاب مضامينها . ويمكن إجراء تجربة للتأكد من ذلك عن طريق تقدم نفس النص تكون تارة كلماته مضبوطة بحركات إعرابية ، وجمله مضبوطة بعلامات الترقيم ، وتارة أخرى تكون خلاف ذلك ، وسيبدو الفرق واضحا بين الأداء القرائي التلفظي لهذا النص بشكليه المضبوط وغير المضبوط .
ويلعب الأداء القرائي التلفظي الصحيح للنصوص دورا مهما في تمحيص الفرضيات القرائية المقترحة في خطوة الملاحظة من جهة ، ومن جهة أخرى يساعد على حسن تقسيم النصوص إلى محاور وأجزاء .
وتصاحب الأداء القرائي التلفظي عملية الشروح والإضاءات الضرورية لاستجلاء غوامض ألفاظ النصوص واستشكالاتها .والشروح والإضاءات لها ضوابطها أيضا ،ذلك أن شرح مفردات النصوص الغامضة أو المستغلقة على الفهم يتطلب الاستنجاد بعلم الصرف الذي لا بد من البدء به قبل الوصول إلى معاني تلك المفردات حيث يتم الرجوع إلى الجذر اللغوي للمفردة لمعرفة طبيعتها قبل أن تتلبس بحروف زائدة تنقلها من معنى إلى آخر ،علما بأن زيادة الحروف في مفردات اللغة العربية تؤثر في معانيها ، كما أن ارتباطها بحروف المعاني يؤثر أيضا في معانيها . وبعد إجراء البحث الصرفي في المفردات يأتي إجراء البحث عن مرادفاتها أو أضدادها لكشف غموضها ، فإن تعذر ذلك يلتمس كشفه عن طريق الاستعانة بالسياقات التي وردت فيها حيث تساعد المفردات الواضحة المجاورة تقدما أوتأخرا للمفردة الغامضة في هذه السياقات على كشف غموضها . ويجب البحث أولاعن معاني المفردات الحقيقية قبل تجاوزها إلى المعاني المجازية لأن هذه الأخيرة عبارة عن خروج المفردات عن مقتضى معانيها الحقيقية ، وهي خاصية تميز غنى اللغة وطاقتها على استيعاب كل المعاني الممكنة من خلال التوسع في الاستعمال المجازي للمفردات . وقد تتضمن النصوص مفردات تستعمل استعمالا خاصا وهي المصطلحات والتي تحتاج إلى إضاءات . ولكل مفردة مستعملة كمصطلح معنى لغوي يكون منطلقا لفهم وضعيتها الاصطلاحية التي صارت عليها . وإلى جانب اشتمال النصوص على مفردات تحتاج إلى شروح ، ومصطلحات تحتاج إلى إضاءات قد تتضمن مفاهيم تحتاج هي الأخرى إلى إضاءات . وإلى جانب هذه وتلك قد تتضمن أيضا أسماء وأعلاما لا مندوحة عن استجلائها والكشف عنها . وبعد إجراءات الشروح والإضاءات تحصل الإضاءات الشاملة للنصوص ، ويسهم ذلك في سهولة إعادة بنائها من خلال إجراء تقسيمها أو تفكيكها إلى ما هو محوري وما هو جزئي . وعملية تفكيك النصوص إلى أفكار أو وحدات تكون دليلا على حصول فهمها إذ لا يقدر على ذلك إلا من تيسر له فهمها . وعلى قدر حصول الفهم الموفق للنصوص يأتي التقسيم الموفق لها بحيث تكون الأفكار الأساسية والمحورية جامعة لأطراف النصوص مانعة لسد غيرها مسدها ، ويكون مجموع الوحدات الأجزاء المكونة لها مفضيا إليها بالضرورة . وحصر الوحدات الأجزاء يقوم أساسا على تتبع خيوطها في النصوص ، فقد تمتد هذه الخيوط في تلك النصوص جلاء واختفاء أو وضوحا وغموضا، ولكن تتبعها يجليها ويظهرها . وتتبعها إنما يكون برصد حدودها، ذلك أن الوحدات أو الأجزاء المكونة للأفكار الأساسية أو المحورية الجامعة المانعة تتمايز عن بعضها ،وإن كانت تتكامل فيما بينها بما تستأثر به كل واحدة منها أو تنفرد به من دلالة غالبة عليها أو خاصة بها . وقد يشكل على من يقوم بعملية تقسيم النصوص إلى وحدات أوأجزاء ضبط حدودها بسبب تداخلها وتكاملها، لهذا يتعين عليه أن ينتبه إلى المفاصل التي تحدد تلك الحدود دون الالتفات إلى ما بين الوحدات من تقاطعات قد توهم بانصهارها أو تكرارها، ولا يمكن الجزم باستقلال وحدة عن أخرى إلا إذا كانت لها قيمة مضافة خاصة بها تميزها عن غيرها . ويمكن تشبيه النص بالجسم الآدمي الذي تعرف حدود أعضائه بالتمفصلات ، ولا يمكن أن تلتبس أصابع اليد بأصابع الرجل لأن لليد حدود وللرجل حدود ، ولا يمكن اعتبار أصابع الرجل مجرد تكرار لأصابع اليد. والوقوع في مثل هذا التوهم هو الذي يجعل البعض يعتقد بتكرار الوحدات أوالأجزاء في النصوص ، والحقيقة خلاف ذلك . ومما يوقع في تقسيم النصوص إلى أجزاء أو وحدات تقسيما غير موفق الظن بأن الأبيات أو المقاطع في النصوص الشعرية ، والفقرات في النصوص النثرية، تتضمن بالضرورة وحدات أوأجزاء بحكم حجمها الطباعي أو حيزها على الورق . والواقع أن وحدات النصوص أوأجزاءها قد تخترق حدود الأبيات والمقاطع في الشعر ، كما تخترق حدود الفقرات في النثر طالما ظلت دلالتها حاضرة ، ولم يحصل الانتقال منها إلى دلالة غيرها ، ولم تتحقق بذلك قيمتها المضافة .
فإلى هذا الحد وبهذه الإجراءات يتحقق فهم النصوص لتبدأ عملية تحليلها وتفكيكها وتفسيرها وفق إجراءات أخرى لها ضوابطها ، وهو ما سيأتي في الجزء الموالي من هذه الوقفة ، وسيلي ذلك تطبيق على نص من النصوص لتأكيد ما جاء في هذه الوقفة النظرية الواصفة .
ولا بد ههنا من التنبيه إلى أن البعض لا يتجاوز لديهم فهم النصوص وفق ما سردنا في هذه الوقفة من استعراض للأرصدة المعرفية المتعلقة بالنصوص ، وملاحظة ما يتعلق بمؤشراتها لوضع فرضيات قرائية لها ، وأدائها قرائيا مع الشروح والإضاءات وتقسيمها ، ويسمون ذلك تحليلا وما هو بتحليل إن هم إلا يظنون. وسيتبين ذلك بجلاء عند الحديث عن التحليل والتفكيك والتفسير.
وسوم: العدد 759