مراجعات(17)
النخب السورية و العسكر
(الحصاد المرّ)
مركز أمية للبحوث و الدراسات الإستراتيجية
كانت سورية منذ جلاء الفرنسيين في 17 نيسان 1946م تعيش حالة من القلق و الفوضى، بسبب الإرث الثقيل الذي خلفه لها المستعمر وقد كانت تعاني من ثنائية في المنشأ، و ازدواجية في الموقف لا تتوقف عند حدودها؛ بل تتعداها إلى مابعدها. و سبب ذلك ثقافيبحت. و مصدره الخلاف الناشئ عن تضاد مفهومين:
المفهوم الأول – الأصيل الذي يختزن في ذاكرته إرثه الحضاري العريق الذي تلتقي عليه الأمة، و يتمثل بالثوابت الثلاثة: ( الوطنية ) و ( القومية ) و ( الدين ).
و المفهوم الثاني – الدخيل الذي يعد بمثابة المستورد، و الذي يريد أن يجرد الأمة من خصاصها؛ فتصبح بلا انتماء، و لا التزام حتى بالثوابت، وقد كان ذلك بمثابة السبب الرئيس لذلك الحصاد المرّ، الذي شهدته الأمة في مرحلة مابعد الاستقلال، و الذي لاتزال تعاني منه إلى اليوم.
وقد تمثلت حرب فلسطين سنة1948م بمحك الاختبار لتلك القوات المسلحة التي أصبح اسمها الجيش العربي السوري، و التي في غضون فترة قصيرة من تأسيسها كان عليها أن تواجه اختبارا قاسيا في حرب 1948م، و ذلك على الرغم من عدم جاهزيتها لخوض معركة لاتملك فيها أدنى ماتحتاجه من الأسلحة و من الرجال الأكفاء. وقد كانت القضية الفلسيطنية يومئذ تسبب غليانا في الشارع السوري و تدفع به للانخراط في معركة الكرامة إثر صدور قرار مجلس الأمن بتقسيم فلسطين سنة 1947م. وقد دفع هذا القرار الجموع الغاضبة إلى اقتحام السفارات البريطانية و الأمريكية و البلجيكية و المركز الثقافي السوفيتي و إلى مهاجمة مراكز الحزب الشيوعي بسبب تأييد الاتخاد السوفيتي قرار التقسيم. وقد تبع ذلك إقرار قانونالتجنيد الإجباري، و تصويت البرلمان بالموافقة على شراء أسلحة بقيمة مليوني دولار، و تطوع ثلاثين نائبا لأداء الواجب العسكري في فلسطين كما تبعه استقالة عدد من الضباط للانضمام إلى جيش الإنقاذ الذي كان يقوده فوزي القاوقجي. و في السادس عشر من شهر مايو عام 1948م أعلنت سورية الحرب على الكيان الصهيوني، و دخل الجيش السوري رسميا فلسطين بقيادات من قوات المشرق الخاصة، و بنقص في عددها و عُددها، فباء بالفشل و الخيبة لاسيما بعدما تمكن الصهاينة من صده و إجلائه عن المواقع التي احتلها أولا، و بعدما أسفرت المعارك عن هزيمة الجيوش العربية التي كان ينقصها العدد و العُدد و القيادات التي تعمل من أجل قضيتها!! أمام القوات الصهيونية التي بلغ عددها (100) ألف مقاتل و هي في أرقى مستوى من التسليح و التدريب، و من القيادات التي تعمل من أجل قضيتها. وقد كان من نتيجة ذلك أن انتشرت المظاهرات في أنحاء سورية، و أحرقت المحلات التجارية التي تخص وزير الدفاع أحمد الشراباتي فقامت الحكومة بنشر قوات الشرطة و الدرك ووزعتهم على مفارق الطرق، و أمام أبواب المدارس، و اندلعت المواجهات بين الشرطة و المتظاهرين، فسقط عدد كبير من القتلى. و في هذه الأثناء كثر الحديث عن تفشي الفساد في المؤسسة العسكرية و مختلف وزارات الدولة. وقد أسفرت هذه الأحداث عن وقوع شرخ في العلاقة بين رجال الحكم المدني و ضباط الجيش، حيث قام الطرفان بتبادل تهم الفساد، و من جهتها المؤسسة العسكرية حاولت أن تلقي باللائمة على جميل مردم و على وزير دفاعه أحمد الشراباتي، و ساعدها على ذلك تسرب تقارير عن ملابسات استيلاء اليهود على شحنة من الأسلحة تقدر بعشرة آلاف بندقية و ستة ملايين طلقة اشتراها المقدم فؤاد مردم من أوربا، ووصلت إلى ميناء تل أبيب بدلا من ميناء بيروت. و كان فؤاد مردم من الموثوقين لقرابته من رئيس الوزراء، و إن كان رصيده الوطني لايساعده في أثناء المحكمة التي عقدت لإصدار الحكم في حقه. فقد كان فؤاد مردم ضمن الضباط الذين امتنعوا عن الالتحاق بالجيش السوري خلال معركة الاستقلال، و بقي مع القوات الفرنسية حتى نهاية الجلاء. و قد كان ذلك بمثابة وصمة في تاريخه الشخصي. يضاف إلى ذلك أنه قد تم تشكيل لجنة برلمانية للتحقيق في مسؤولية الحكومة ووزارة الدفاع حول ماتردد من تهم بالفساد وقد خلص تقرير اللجنة إلى تحميل وزارة الدفاع و الحكومة مسؤولية ماحدث. وذلك من خلال:
استلام وزير الدفاع الصلاحيات و الاختصاصات كافة؛ بما لايتماشى مع الأنظمة المعمول بها في الجيش، و دون وجود قانون يؤيد ذلك. قيام الحكومة بتفسيخ الجيش، مما جعله كتلا متنافرة، و إلقاء بذور الشقاق و البغضاء بين ضباطه و قادته، و تحطيم معنوياته، و صرفه عن غاياته الأساسية إلى غايات شخصية مما أفقده الانضباط و الطاعة و النظام. وقد اتهم الشراباتي بالطعن في كبار الضباط أمام صغارهم، و بالسعي إلى إثارة الفتنة بينهم و اتباع سياسة فرق تسد. قيام الحكومة بإنقاص عدد الجيش على حساب توظيف عدد أكبر من المدنيين في وزارة الدفاع. تقصير الحكومة السورية في تجهيزالجيش، حيث إن الجيش السوري لم يكن جاهزا من حيث السلاح لخوض معركة مع اليهود سنة 1948م. اشتراك الجيش في السياسة و تدخله في الانتخابات. اتهام الشراباتي باستثمار نفوذه في أمور شخصية و منافع ذاتية. وعدم قيامه بمايجب من أجل المعركة.
و مقابل ذلك فقد أخذت الأوساط المدنية تتحدث عن فساد رئيس الأركان حسني الزعيم. و عن تورط الضابط المسيحي اللبناني أنطون بستاني بصفته رئيس هيئة التموين في شراء أسلحة و أغذية فاسدة، و بسبب من ذلك قام رئيس الجمهورية شكري القوتلي يرافقه رئيس الوزراء خالد العظم بحضور تجربة صلاحية الأسلحة المشتراة التي ثبت عدم صلاحيتهاأولا و تحقيقه في ملابسات شرائها، وقد تبين له بعدبأنه قد تم شراء هذه الأسلحة من شركة تجارية محلية، و أن لجنة من الجيش كانت تمتلك حق رفضها لعدم صلاحيتها لكنها لم تفعل ذلك. كما أن زيارته مستودعات تموين الجيش للتحقيق بتهم تتعلق بفساد بعض المواد التموينية، و منها صفقة السمن المغشوش، قد أدت إلى قناعته التامة بوجود الفساد. وقد زاد الطين بلة الهجوم الذي شنه رئيس الحزب التعاوني الإشتراكي فيصل العسلي على العسكر تحت قبة البرلمان، وقد طالب وقتها بالتحقيق داخل المؤسسة العسكرية. وهذا كله أدى برئيس الأركان حسني الزعيم وبعدد من كبار الضباط – الذين كتب لأكثرهم أن يكونوا من قادة الانقلابات أو ممن شاركوا فيها -لاتخاذ موقف مضاد فقاموا بتقديم مذكرة إلى رئيس الجمهورية احتجو فيها على:
وصم قائد الجيش الأعلى بالخيانة. اعتبار الجيش فاسدا في قيادته.
وقد طالبوا بـثلاثة الأمور:
إلقاء القبض على النائب فيصل العسلي فورا و إحالته على القضاء العسكري. محاكمة المسؤولين عن عدم تحضير الجيش و إعداده و تسليحه و تجهيزه منذ 1945م. عدم التعرض مستقبلا لأمور الجيش و الكف عن مناقشة المسائل العسكرية من قبل الجهلة، و قصر لجانالتحقيق على العسكريين الموجودين في الخدمة الفعلية. وقد أظهرت مذكرة الجيش هذه فداحة الهوة بين العسكريين و المدنيين وفداحة ذلك على الكيان الجمهوري بعامة، كما أظهرت هشاشة علاقة الحكم المدني مع المؤسسة العسكرية في مرحلة مابعد الاستقلال. وقد تمثل ذلكفي مجموعة من الضباط الذين لايكنون أي احترام لمؤسسات الحكم المدني.
و يمكن القول: إن ضباط الجيش السوري المنتقين من القوات الخاصة للشرق لم يكونوا مستعدين للاستحقاقات الديمقراطية و تبعاتها، و لذلك فقد أزعجهم مناقشة البرلمان لقضايا الجيش فبادروا بتوجيه خطاب لرئيس الجمهورية الذي أجاب بدوره برفض قاطع لما جاء في نص الخطاب مشيرا إلى عدم أحقية الضباط بالتدخل في شؤون الحكم و التصرف كأنهم " مخاتير القرى "و كأنه يقصد السياسة التي انتهجتها فرنسا في استخدام أبناء جبل العلويين و جبل الدروز وريف السلمية ضد السلطة المركزية في دمشق. وقد كانت هذه الصفة هي السمةالبارزة للموقعين على نص الخطاب، وقد كان من أبرز الموقعينمع حسني الزعيم، كل من: سامي الحناوي، و فوزي سلو و أديب الشيشكلي، و أنور بنود، ورفعت خانكان، و محمد صفا، و آرام قره مانوكيان، و بهيج كلاس، و عمر خان تمر، و محمود بنيان، و باصيل صوايا، و مصطفى المالكي، و محمود شوكت، و أغلبهم من الأقليات من الشركس و الأكراد و النصارى، و العلويين الذين كانوا ضمن القوات الخاصة في عهد الانتداب الفرنسي، و قد تم اختيارهم على أسس طائفية و خضعوا لتربية فرنسية تهدف في أساسها إلى إثارة الحقد و الكراهية ضد رموز الحركة الوطنية، و فضلا عن ذلك فقد كانت حالة الجيش بعيدة كل البعد عن روح المسؤولية و الانضباط، و كان غالبية المجندين من الأميين. و قد تعرض عدد من الضباط السوريين في مذكراتهم للحديث عن تدهور أوضاع الجيش خلال السنوات التي أعقبت الاستقلال، عن بعض الظواهر السلبيةالأخرى كتفشي الطائفية و انعدام الولاء و سوء التجهيز كما تحدثوا عن انتشار الفساد و إدمان الخمر لدى أغلب الضباط. لقد تحدث الضابط أحمد عبد الكريم في مذكراته عن شرب الخمر بين ضباط القيادة في الجبهة السورية الفلسطينية. و مثله الضابط محمد معروف الذي ذكر أنه كان من مرتادي النوادي الليلية، و كان يكثر شرب الخمر مع صديقه أديب الشيشكلي و يبدو أن فضائح ضباط الجيش السوري في الملاهي كانت شائعة آنذاك حيث تردد الحديث في أثناء التحقيق مع الشراباتي عن وجود خلاف بين شقيقه مصطفى الشراباتي و اثنين من كبار الضباط على نادلة في أحد النوادي الليلية بدمشق، مما أدى إلى وقوع تصادم بين الضابطين و شقيق وزير الدفاع فتدخلت الشرطة المدنية و ساقت الضابطين المخمورين إلى المخفر، حيثأهيناو قضيا الليل فيه و كان التساؤل لدى عامة الناس و خاصتهم عن الذي يمكن أن يحققه هذا النمط من الضباط في المراقص و الملاهي و ماهي المواقف التي كان سيقفها في مواجهة العصابات اليهودية سنة 1948م. و قد أدت هذه الأخلاقية التي كان عليها أكثرهم إلى الانقلابات المتعاقبة التي أدخلت سورية في دوامة من الفوضى و عدم الانضباط فمع حلول منتصف الخمسينيات أصبح واضحا للعيان أن المؤسسة العسكرية فقدت السيطرة على نفسها، و أنالكيان الجمهوري أصبح غير قابل للاستمرار، و لم يبق للقيادة العسكرية خيار آخر سوى الهروب نحو الأمام و الدفع بصورة حثيثة من أجل الوحدة مع مصر. و من ثم الهروب إلى خلف بعد أن وجدوا أنهم غير قادرين على إشباع نهمهم الغريزي بالوحدة مع مصر، و كأنهم بذلك قد فتحوا الباب واسعا أمام الطائفيين الذين كانوا يتربصون شرا بالوطن و المواطن، و قيل ماقيل عن هؤلاء الضباط و منهم ضباط انقلابي الوحدة و الانفصال فقد
أدت سلوكيتهم اللامنتمية إلى ذلك الحصاد المر الذي تمثل في:
إتاحة المجال للطائفية أن تعود إلى الظهور من جديد بعد أن حُجّمت في فترة الخمسينيات؛ في عهد الشيشكلي و من بعده في عهد دولة الوحدة. تشرذم المكون السني، و إسقاط هيبته، و فقدانه القيادة التاريخية التي يمكن أن يعوّل عليها للوقوف في وجه مؤامرات الداخل و الخارج. ضياع النخب المثقفة، ووقوعهم في أسر السياسات الخاطئة التي كانت تصدر عن بعض الأحزاب، و ما أكثرها في ذلك الوقت!!! تهيئة المناخ المناسب لانقلاب الثامن من آذار سنة1963م. الذي كان طائفيا بامتياز، و نهجه الطائفي هو الذي أوصل سورية إلى ماهي عليه اليوم من دمار، وقد لحق بها جميعا، و لم يستثنِ!!!
وسوم: العدد 760