اللغة العربية وجمهوريات آسيا الوسطى
عند انحلال الاتحاد السوفيتي في 1991 ، واستقلال جمهوريات آسيا الوسطى التي كانت جزءا منه ، انفتحت تلك الجمهوريات على العالم العربي الذي ارتبطت به دينيا ولغويا وثقافيا قرونا متطاولة ، ووصلت إليها أعداد من الدعاة العرب والمسلمين . بدا يومئذ أن تلك الدول صحت من غيبوبة دينية وثقافية إسلامية امتدت 70 عاما هي عمر الاتحاد السوفيتي . وكان من علامات تلك الصحوة في جانبها اللغوي والثقافي صدور مجلة " النبع " في دوشنبه ( معناها يوم الاثنين بالفارسية ) عاصمة طاجكستان ؛ بالحرف العربي لا بالحرف السيريلي الروسي الذي حل محل الحرف العربي في العهد السوفيتي . يومئذ ، كتبت مقالا في صحيفة عربية في فرح صادق وتفاؤلٍ آملٍ بعودة الحرف العربي إلى تلك البلدان التي أثرت الإسلام بأعلام كبار ما فتئوا ساطعين في حضارته وعقيدته مثل البخاري وابن سينا والكندي وسواهم ، ونبهت إلى ما في اسم المجلة " النبع " من رمزية الرغبة في العودة إلى الجذور الثقافية العربية والإسلامية ، وحتى لو قصد ب " النبع " معناه الحقيقي ، أي مصدر الماء ، فالرمزية لا تفارقه ؛ إذ إنه يوجه إلى الجهة التي يحسن أن يستقي منها قارىء المجلة ثقافته ومعرفته . ما حدث بعد الاستقلال حتى الآن ليس بالذي أملناه في مدى وعمق عودة تلك البلدان إلى جذورها العربية والإسلامية لغويا وثقافيا ، وينوء العرب خاصة بالنصيب الأثقل في المسئولية عن قصور هذه العودة مدى وعمقا ، فهم دأبَهم في كل شيء لم يقوموا حتى بالقدر العادي مما يجب أن يقوموا به ، ورأينا هذه الدول تتجه نحو تركيا مصدرا للإلهام والاقتداء أكثر مما اتجهت إلى العالم العربي ، وليس في اتجاهها نحو تركيا مشكلة ، فتركيا جزء كبير حيوي من الحضارة الإسلامية ، وبعض هذه الدول تركي عرقا ولغة ، ولكن العرب منبع هذه الحضارة عقيدة ولغة ، ولا سبيل فعالا بقوة لفهم هذه الحضارة وفهم العقيدة التي أنبتتها ، والإضافة إليها بدون اللغة العربية لغة القرآن الكريم . وبالمجمل ، حال العرب السيئة والرثة في كل شيء لا تحمس أحدا للاقتراب منهم والاقتداء بهم ثقافة وسياسة ، والمؤلم أن فقدان الحماسة هذا بدأ يمتد إلى العقيدة . حرضني لكتابة هذه السطور مؤتمر " تأكيد الهوية من خلال تجارب الشعوب النامية " الذي انعقد مؤخرا في باكو عاصمة أذربيجان الجمهورية السوفيتية السابقة تحت شعار " التضامن الإسلامي " ، فقد كان من بين توصياته توصية تدعو منظمة اليونسكو ، وجامعة الدول العربية ، هل تذكرونها أو تحسون لها رِكزا ؟! على السعي لجعل اللغة العربية لغة ثانية في جمهوريات آسيا الوسطى ، ومن بين تجليات هذا العودة كتابة لغاتها بالحرف العربي . ومفروغ منه أنه لا اليونسكو ولا الجامعة العربية المنتهية الصلاحية ستفعل أي شي استجابة لتوصية المؤتمر ، ويليق البحث عن جهات عربية وإسلامية غير رسمية للاستجابة لها ، وستتنوع هذه الجهات ، في حال الاستجابة ، إلى جهات ممولة تبني المدارس وسواها من المؤسسات لتعليم العربية في تلك الجمهوريات ، وجهات توفر المعلمين وذوي الكفاءات اللغوية ، ويمكن التوسع في قبول الطلاب من تلك الجمهوريات في كليات اللغة العربية والدراسات الإسلامية بالدول العربية . نكتب هذا مع استرابتنا في أن يتحرك العرب لوصل ما انقطع من صلات دينية ولغوية وثقافية مع تلك البلدان التي تفاعل تاريخها مع تاريخنا في شموله ، وما تزال فيها مكونات بشرية عربية خالصة تتكلم العربية منذ فتحها في العهد الأموي . ونعي أن العرب الذين صاروا الآن مشهورين في الحط من قدر لغتهم ، وجعلتها أكثريتهم لغة ثانية في ديارهم ، واكتشفوا فجأة أنهم لم يفهموا لباب دينهم بعد ما يقرب من خمسة عشر قرنا على سطوع شمس فجره ؛ لن يكونوا متحمسين لمد نفوذ لغتهم في بلدان أخرى مهما كانت صلتها بهم ، ولن يكونوا قادرين على إيصال لباب الإسلام المشرق الصافي لها مثلما نزل على قلب الرسول محمد _ صلى الله عليه وسلم _ بالقدوة السوية المرشدة دون جدل فاسد يجر إلى متاهات من العماء والخواء ، والتقاتل المهلك الذي يتفجر الآن في ديار العرب والمسلمين ، ويتلذذ به أعداهم سعداء مطمئنين ، وإنما نكتب ما نكتب تنبيها لما هو حق وصواب وواجب .
وسوم: العدد 763