الإخوان المسلمون، بين الإمام البنا والشهيد سيد قطب وتمام التسعين
رؤية واقعية صادقة
ولدت جماعة الإخوان المسلمين من رحم وبنات أفكار الأستاذ البنا - رحمه الله ورضى عنه - بدأها رشيدا وهو في سن الواحد والعشرين من عمره، وتركها رشيدة، إذ كان عمرها عند استشهاده واحدا وعشرين سنة أيضا.
عاش فيها قدر ما عاشت فيه، أعطاها كل عمره الراشد، فشبت وقويت رغم الرياح والعواصف، بدأها وهى نكرة، لا يعرف عنها أحد شيئا الإ القليل، وتركها وهى ملء السمع والبصر، صوتها في أنحاء المعمورة، أحبها من أحب وكرها من كره.
شخصية الإمام كانت منفتحة على الجميع، على الصغير والكبيروالشباب والرجال، والنساء والشيوخ، خاطب الجميع كل حسب متطلبه ومستواه الاجتماعي والثقافي.
لم يفرق في دعوته للناس بين البر والفاجر، والطائع والعاصي، والمثقف والجاهل، خاطب الجميع، وحولهم نحو الإسلام جنودا بطريقة فذة، وأسلوب بديع.
كنا دائما نقرأ عنه ونستمع إلى قصصه مع البشوات والفتوات، والأطفال والكبار، كان بإيمانه ساحرا، وبكلماته مؤثرا، وبأخلاقه داعيا، سحر فتوات بولاق والشرابية، حتي هتفوا بقولهم المعروف والمشهور لما خاطبهم بما يناسبهم عن شجاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: " اللهم صل على أجدع نبي "
ولما سمعه اللواء صلاح شادي وكانت منتظرا على محطة ترام، إلا أنه سمع صوتا من بعيد يتكلم عن الإسلام بلغة جديدة وأسلوب بديع، وصال وجال بالناس حول الخلافة الإسلامية ومدى أهميتها وعودتها لصون الأعراض والأنفس والأمم والشعوب، فقال -رحمه الله - فانجذبت إلى الصوت ونسيت ما أنا فيه، وذهبت إلى الذي يتكلم، وإذ به شاب في مقتبل عمره، كله حماسة وقوة، فما وجدت نفسي إلا مبايعا له، وسالكا طريقه.
حكايات الإمام مع الدعاة والسياسيين والمثقفين والإعلاميين فى مصر وغيرها أكثر من أن تحصى وتعد، جمع بعضها، وما زال الأكثر منها محفوظا في القلوب والعقول، وينقل بين الأجيال، حدثني الشيخ حسن عليان - رحمه الله - أنه لما كان يسمع الإمام البنا يتكلم تهتز لكلامه العقول والقلوب، وتصمت الأذان والأبدان، فكان يقول في نفسه: ما هذا الشاب الذي يجمع الألباب، وتهتز وتطرب من كلامه الأرواح والأبدان، فكيف كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لاشك هو المعلم الأول، والنذير والبشير الذي لا يناظره أحد أبدا، لكنه كان يري الأمام البنا وكأنه قطعة منه، تأدب بأدبه وتخلق بخلقه، وسلك دربه.
خلاصة ما في الإمام - رحمه الله ورضى عنه - أنه كان رجل عامة، أثر في الجميع، لم يكن كاتبا ولا خطيبا ولا سياسيا ولا مصلحا فحسب، وإنما كان أمة وحده، مارس الفكر الأدب بكل عمق وفهم، والسياسة بكل حرفية وخلق، والدعوة بكل وسائلها وفنونها.
كان فقيها مجاهدا، جمع بين العلم والعمل، والجهاد والتضحية، حارب الإنجليز بكل قوة وسلاح ممكن، وخاض المعارك الطاحنة ضد اليهود حتى أوشك رجاله أن يطهروا الأرض من نجسهم ورجسهم لولا الجيوش والعروش الخائنة.
حسن البنا صنع أمة، وربى جيلا بالفعل لا يعرف الكسل والنوم، كانت تربيته ميدانية حركية واقعية جامعة وشاملة، فارق كبير بين من تربى على يده، ومن جاء من بعده، فى التصور والحركة والجهاد والقوة.
جاء بعد استشهاده الشهيد الأديب العملاق سيد قطب - رحمه الله ورضى عنه - ودخل دعوته وجماعته، بعد أن تأثر باحتفال الغرب بموته، وجد أن الغرب في حالة سكر وعربدة غير مألوفة ومعروفة، وكان في أمريكا فسأل لماذا كل هذه الاحتفلات والأفراح؟ فقالوا له : اليوم قتل رجل في الشرق لو قدر له أن يعيش لنهض الشرق من كبوته وعثرته.
حد علمي لم يلتق الشهيد سيد قطب - رحمه الله - بالأمام البنا في حياته، ولما رجع إلى مصر تعرف على الرجال الذين علمهم ورباهم الإمام البنا - رحمه الله - وارتبط بهم، وانتظم في سلكهم، وسار غلى دربهم.
جاءت الثورة وتعاملت مع الإخوان بلغة القسوة والقتل والحبس والاعتقال والبطش والإرهاب، فوقف الشهيد سيد قطب بقلمه مجاهدا ومدافعا عن الفكرة والحركة، فكتب الظلال والمعالم وهذا الدين وغيرها من الكتب داعيا إلى صفاء العقيدة، ونقاء السريرة، وهجر الأصنام، وتحطيم الأوثان بكل صورها وأنواعها وأشكالها.
تأثر الشهيد سيد قطب كثيرا بالأستاذ أبو الأعلى المودودي، ونقله عنه كثيرا في ظلاله وغيره من الكتب، وكان يسميه بالسيد الرئيس لمقامه الرفيع في الفكر والأدب والثقافة.
الغريب أن الشهيد سيد قطب لم ينقل كلمة واحدة عن الإمام البنا - رحمه الله - في ظلاله أو غيره مما كتب، وهو المؤسس الأول، صاحب الكلمة النافذة، والعبارة المؤثرة، والقلم الغض الذي كتب في العقيدة والتفسير والحديث والفقه والدعوة، ورسائل الإمام البنا - رحمه الله - كان بعض الإخوان يحفظونها عن ظهر قلب.
على يد الأستاذ سيد قطب - رحمه الله - نشأ جيل جديد من الإخوان، تأثروا بفكره وكتاباته وكادوا أن يعزلوا أنفسهم عن كتابات وروح الإمام البنا إلا قليلا منهم.
غابت أدبيات الإمام في الجيل الجديد، وأصبحت أدبيات الأستاذ سيد قطب هي المهيمنة على الفكرة والحركة والتنظيم، إلا الجيل الذي تربى على يد الإمام فهو الذي بين وتصدى لبعض ما كتبه الشهيد سيد قطب - رحمه الله تعالى.
بحكم النشأة والتربية والثقافة والظروف المحيطة كان الأستاذ سيد قطب أقرب إلى فكر النخبة منه إلى حياة العامة، من كثرت كلامه عن العزلة الشعورية عن المجتمع صنع حاجزا ضخما بين الجيل الذي تربى على فكره وكتبه وبين المجمتع بكل أطيافه وأحزابه وتجمعاته.
نشأ جيل جديد تصوره للمجتمع أنه خذله أمام بطش وجبروت عبد الناصر، وأصبحت فكرة التنظيم عند هذا الجيل أقرب ما تكون بديلا عن الأمة والمجتمع.
الذي نشر الفكرة بعد خروج الإخوان من السجون بين شباب الجامعات كان معظمهم من الجيل الذي تربى على يد الأستاذ البنا - رحمه - ذالكم الجيل الذي كان يؤمن بالأمة، وبأن الخير مبثوث فيها، حتى ولو طفا على السطح بعض الرمم من السياسيين والإعلاميين وكذبة الدعوة.
رحم الله الأستاذ عمر التلمساني والاستاذ حامد أبو النصر والأستاذ مصطفى مشهور، واللواء صلاح شادي، وغيرهم المئات الذين تربوا على يد الشهيد حسن البنا - رحمه - وكان لهم أبلغ الأثر في نفوس الشباب بعد خروجهم من السجون والمعتقلات.
انظروا في محافظات مصر كلها تجدوا أن الأكثر تأثيرا ودعوة وحركة بين الناس هم جيل الأستاذ المؤسس، وهذه صورة أنا عشتها بنفسي، كنا نتلقي العلم والأدب والفكر والثقافة والحركة والدعوة من الشيخ حسن عليان الذي كان من أبناء الجيل المؤسس، كان بيته مفتوحا للصغير والكبير، للرجال والنساء، للكبار والصغار، يمشي في حاجة الصغير قبل الكبير، والضعيف قبل القوي، والمريض قبل الصحيح.
كان الشيخ حسن عليان وشهرته الشيخ "حسن أبو نص" عمدة بلده أدبيا ومعنويا وأخلاقيا وتربويا، كلامه أقرب إلى حكم لقمان، وحركته بين أبناء عرب الصوالحة وجهينة والعليقات والخانكة وشبين القناطر وغيرها بالليل والنهار، والسر والعلن.
لما مات جاء النموذج الثاني الذي تأثر بالأستاذ سيد قطب - رحمه الله تعالى - فكان الدخول عليه بإذن، ولقاؤه مع الناس بترتيب، لا يجالس إلا وجهاء الإخوان فقط، إلا القليل من غيرهم، إيمانه بالمجتمع ضعيف، وفكره هو السديد، لا يستطيع أحد أن يقدم رأيا على رأيه، الشورى عنده شكل ومظهر لا حقيقة ومخبر، الإخوان في نظره شرائح، من كان صاحب جاه أو منصب أو شرف يقدمه ويعتز به، ويطلب من الناس صراحة أن يجعلوا أسرا خاصة للوجهاء وأصحاب العز والمال.
من كان في نفسه شك من كلامي فلينظر- والعهد قريب - إلى شخصية الأستاذ مهدي عاكف - رحمه الله - تربية المؤسس الأول، فى انفتاحه على المجتمع، وقربه من جميع الإخوان صغيرهم وكبيرهم، ولما أخذ قراره بالعدول عن الفترة الثانية لإدراة مكتب الإرشاد وقف أمامه أبناء الجيل الآخروضغطوا عليه بكل قوة أن يتراجع حتى لا تكون سنة التدوال إلا بالموت التي يؤمنون بها.
لعل في هذا بعض بيان للإجابة على سؤال يتكرر ألا وهو لماذا نجح العسكر في إفشال الإخوان المسلمين، بعد وصولهم للحكم، وتراجع المد الثوري فى مصر والذي أثر على المنطقة العربية كلها، ما هو إلا أثر من جيل عشق السجون والمعتقلات ورأها من أجل نعم الله عليه، فليمت الشباب، وليحيا جيل الثمانين من تلامذة الشهيد.
غفر الله لى وللجميع، هذه نظرتي وتحليلي لبعض زوايا المشهد العام، فإن أصبت فبتوفيق من الله وإن كانت الأخري، فأقبل النصح والتوجيه والإرشاد، فشخصي الضعيف تأثر بالأستاذ البنا - رحمه - وبالأستاذ الشهيد سيد قطب فيما أجاد وأعطي، فلله دره من عملاق فى الفكر والأدب.
وللحديث بقية إن شاء الله تعالى.
وسوم: العدد 766