الحماية والجوار: بين الصغار والكبار، واستقلالية القرار !

الجوار:عُرف عربي قديم ، يصعب التخلي عنه ، من قِبل المَستجار به ، ويصعب انتهاكُه ، من قِبل أيّ شخص ، أو قبيلة ! فالجارُهو حامٍ  فعليّ ، للمستجير، من غضب أصحاب الثأر، أيّاً كانوا ! والجوارُ لا يُسقط حقوق الناس ؛ إذ يتقاضَون ، عليها ، بعد حفظ حياة المستجير، وحياة أهله ، من فورَة دم الجهة المَوتورة !

وكما يحتمي فرد ضعيف ، بآخر قويّ ، كذلك تحتمي القبيلة الضعيفة ، أو الجماعة الضعيفة ، بقبيلة قويّة !

وينطلق الجوار، في هذه الحالات ، من المروءات ، التي كانت سائدة : في القبائل ، وعند أصحاب المروءات ، بشكل عامّ !

وقد أفاد النيّ محمد(ص) وأصحابه ، من هذا العرف النبيل ، غيرَ مرّة ! فقد دخل النبيّ مكّة ، بعد عودته من الطائف ، بجوار المُطِعم بن عَديّ .. وأرسلَ أصحابَه ، إلى الحبشة ، ليحتموا ، من عَسف مشركي مكّة ، بجوار النجاشي !

ولقد عرفنا - في القديم والحديث - حالات من الجوار، عجيبة ورائعة : كأن يجير الرجلُ قاتلَ ابنه أو أبيه .. وكأن تجيرالمرأة ، قاتلَ أخيها أو زوجها !

أمّا على مستوى  العلاقات بين الدول ، فقد كان الكثيرون ، من الحكّام الضعاف ، يحتمون بحكّام أقوياء ، من ظلم حكّام آخرين ، أو تهديدهم ! وأحياناً ، يكون المحتمَى به ، عدوّاً للمحتمي ، ويلجأ إلى طلب حمايته ، من جارٍ له ، أو قريب ، يهدّده بانتزاع ملكه !

لكنّ الحماية، على مستوى الدول، لاتستند إلى المروءات ، وحدَها ، بل لها أثمان ، يدفعها المُحتمون، لحُماتهم ، منها : الولاء للدولة الحامية ، أو ضرائب معيّنة ، أو نحو ذلك ! وقد لجأ الكثيرون ، من حكّام أوروبّا ، إلى حكّام مسلمين ، في الأندلس ، ليحموهم ، من تهديدات حكّام أوروربّيين آخرين ، قد يكونون أقرباء لهم ، أو منافسين ، ينازعونهم ، على الحكم !

كما كان الكثيرون ، من حكّام المسلمين ، في عهود ضعفهم ، يطلبون حماية حكّام ، أعداء لهم ، في الأصل .. من أعداء آخرين ، من بني جلدتهم ، أو من بني ملّتهم ، في الأندلس ، وفي الحروب الصليبية ، في مصر والشام ! وهنا ، أيضاً ، يدخل الجانب السياسي ، مع الجانب الإنساني ، وقد يكون أوضحَ منه ، في المسألة !

وفي العصر الحديث ، ثمّة قوانين دولية، تنصّ ، على حماية الأفراد ، من الظلم ، من قِبل حكّامهم، ومن قبل الآخرين !

كما أنّ ثمّة قوانين دولية ، تحمي الدول الضعيفة ، من عدوان الدول القويّة ، برغم أن الاعتداءات، كثيراً ماتحصل ، بتجاوز هذه القوانين ، من قبل بعض الدول القويّة !

أمّا على المستوى السياسي ، فلم يعد ثمّة خيارللضعفاء ، غير الاحتماء بالأقوياء : على مستوى الجماعات ، والأحزاب ، والدول ! وأيّ حديث عن الاستقلالية ، التي تترك الدولة ، أو القبيلة، عرضة لاضطهاد الأقوياء ، أو ابتزازهم ..إنما يعبّر عن سذاجة ، وضيق أفق ، واستعداد للتفريط ، بمصالح الجهة الضعيفة : جماعة ، وأفراداً ! فإذا كان لكلّ شيء ثمن ، فليس فقدُ الاستقلالية، هو الثمنَ ، دائماً، للحماية؛ فقد يكون تبادلُ المنافع : الحالية ، أوالمستقبلية .. ثمناً مناسباً ، للجميع !  

وسوم: العدد 766