من العبث الجغرافي إلى العبث الديموغرافي
بين عبثين 100 عام بالكمال والتمام، يوم وضعت الحرب العالمية الأولى أوزارها، فكان من نتائجها القضاء عمليا على الخلافة العثمانية التي تكفلت بجمع شتات البلاد العربية والإسلامية تحت راية واحدة لقرون، فكان المخطط الجهنمي الغربي يقضي بتقسيم المنطقة وتقطيع أوصال المدن والحواضر التاريخية التي كانت مرتبطة بجيرانها، وربطها بحواضن ومدن جديدة بعيدة كل البعد عن عمقها الديموغرافي والتجاري والنفسي ونحوه، فكان أن رأينا تقطيع أوصال حلب المرتبطة سكانياً وتجارياً عبر قرون بالموصل العراقية؛ لكونهما على طريق الحرير التاريخي والتقليدي، ونظراً للحدود الطبيعية التي تجمعهما مع بعضهما بعضاً، فضلاً عن ارتباط حلب بالأناضول التركي أكثر بكثير من ارتباطها بدمشق، تماماً كما حصل حين تم تقطيع أوصال مدينة دمشق المرتبطة روحياً وسكانياً وتجارياً ببيروت والمدن الفلسطينية وإلحاقها بغيرها، بل وبتقزيمها من أجل خلق كيان مشوّه بعيداً كل البعد عن المصالح الشعبية ومتصادم مع الحقائق الجغرافية والتاريخية، ولذلك رأينا بعض السياسيين الحكماء الغربيين ينصحون بعدم فصل سوريا عن فلسطين لارتباطهما العضوي، وكون الانفصال متصادماً مع رغبات الشعوب ومصالحها.
اليوم بعد قرن من الزمن، تبيّن للقوى الغربية والشرقية وعملائها في دمشق أن العبث الجغرافي لم يكن كافياً لوحده في تفتيت وحدة الشعب السوري، ولم يكن كافياً لكبح جماحه عن التطلع إلى حريته وأبعد من أسوار دولته المصطنعة التي حُصر بها، ولذا رأينا العبث الديموغرافي اليوم إلى جانب العبث الجغرافي، تجلى ذلك بتقاسم القوى المحتلة لسوريا حتى على مستوى البلدات والقرى، ووقوفها وجهاً إلى وجه ضد بعضها، وكأنها تصطف لحرب شاملة، فمنها غربي النهر وأخرى شرقية، وثالثة غربي السكة، ورابعة شرقيها، وهكذا، يُضاف إليه ما حدث من عبث ديموغرافي غير مسبوق يجدد سيرة القشتاليين الصليبيين بحق الموريسكيين في الأندلس، ويقذف بملايين السكان خارج مناطقهم وبلداتهم التاريخية التي عجز كل غزاة ومحتلي المنطقة الذين عبروا منها على اجتثاث أهلها واقتلاعهم من أرضهم. لعل مما زاد من خطورة العبث الديموغرافي الذي رأيناه فاضحاً حول دمشق، هو السعي الدؤوب إلى تحويل حزامها إلى حزام طائفي؛ ضماناً لأمن العصابة العميلة مستقبلاً، بعد أن تم تشريد أهلها من الزبداني ومضايا وداريا والغوطة، ومن قبله تشريد أهالي حمص والقصير وغيرهما، وكل ذلك كان يهدف -وبالتحديد في دمشق- إلى إبعاد الحمض النووي الشامي -وهم أهل السنة- عنها، ولذا رأينا المرسوم الأخير لرئيس النظام السوري يقضي بإعادة تنظيم المناطق في سوريا، وتحديداً ما تعرّض للتدمير والعبث الديموغرافي، ليصب في صالح نزع ملكية العقارات من الهاربين والمشردين والمهجرين لصالح العصابات الطائفية القادمة من وراء الحدود، بينما العالم وبعض السذج من العرب والمسلمين لا يزالون يلوكون مصطلحات الإرهاب كمبرر لكل هذا العبث بالشام وأهلها.
همسة أخيرة، وهي أن ثورة الطهارة والنظافة والخير بحجم الثورة الشامية لا يمكن أن تهزمها الحقارة والدناءة واللؤم، وخسارة الثورة لمعركة مسلحة لا يعني خسارتها للحرب، فضلاً عن خسارتها للثورة، هذه الثورة ثورة قيم، وثورة حضارية، ولن تضع أوزارها، ولن يهزمها الاحتلال والعنف والإرهاب الدولي الكيماوي والبرميلي والسكودي والطيراني .. الأهم هو ألا تقبل الثورة وشبابها الهزيمة النفسية، وليس أمامنا إلا الصمود ولو بقي طفل شامي واحد ليرفع علم الثورة على مسجد بني أمية.
وسوم: العدد 767