فنكوش تدمير المُدمّر!
في ديسمبر 1988م قامت الولايات الأميركية المتحدة بغزو دولة بنما. قاوم الرئيس البنمي مانويل نورييجا ( 1934 - 2017)، وهو عسكري سابق يحمل رتبة فريق وحكم بنما من 12 أغسطس 1983 إلى 3 يناير1990حتى استسلم للقوات الأمريكية. وتم نقله إلى الولايات المتحدة ليحاكم بتهم الإتجار بالمخدرات والابتزاز وغسيل الأموال فضلا عن ارتكاب جرائم ضد الإنسانية، وحكم عليه بالسجن 20 عامًا، وبعد انقضاء محكوميته سُلّم في 27 أبريل 2010 إلى فرنسا التي كانت قد حاكمته غيابيًا في عام 1999 بتهمه غسيل الأموال.
نورييجا كان عميلا صريحا لأميركا، وكانت ثقافته أميركية حتى النخاع. ولكنه حين أبدى بعض التمرد عليها، انقلبت عليه، وجاءت بقواتها لتحمله إلى محاكمها، ثم تسلمه بعد عشرين عاما في سجونها إلى حليفتها فرنسا حتى قضى.
الشاهد في الأمر أن الدول الكبرى حين تريد التخلص من عملائها، لا تلجأ إلى التهويش، أو افتعال مواقف باسم الإنسانية، والدفاع عن الأطفال، وقصف العميل بطريقة صوتية لا تؤثر عليه بل ترسخه وتثبته، وكأنها تقول له: افعل المزيد، وستكافأ في النهاية بالجلوس على جثث شعبك وأطلال مدنك وبلادك.
لم تكن أميركا في يوم ما مع كل البيانات والإدانات ضد بشار الأسد، مهما قتل من شعبه، ومهما سجن وأعدم وعذب، ودمر واستخدم من براميل متفجرة وغازات كيماوية: ساريد وكلور وغيرهما. أميركا كانت على ثقة أن السفاح يخدمها خدمة جليلة في توفير أمن الدولة الصهيونية الغاصبة (مهجة قلبها)، وتأمين مصالحها، وقد وافقت ضمنا على أن يقوم الروس بمهمة قتل الشعب السوري بعشرات الآلاف من الطلعات الجوية على مدى ثلاث سنوات ومازالت، وراحت تغمض عينيها عن عمليات التهجير القسري، والتغيير الديمغرافي لصالح الطائفة الخائنة التي يحكم السفاح باسمها. فهناك معزوفة سخيفة اسمها مكافحة الإرهاب تبيح قتل الشعوب!
ضربات فجر السبت 14/4/2018م التي قام بها تحالف أميركا وبريطانيا وفرنسا، لم تكن إلا فنكوشا لا قيمة له، لأن روسيا عرفت به قبل تنفيذه، ولأنه توجه إلى مناطق محددة مدمّرة جزئيا أو كليا كما أفصحت تصريحات المحتلين الروس، ثم إن السفاح جمع طائراته وأسلحته وقادته إلى قاعدة حميميم التي أقامها المحتلون الروس. فأسفرت الضربات الجوية والصاروخية التي استمرت خمسين دقيقة عن تدمير المدمر، وتفتيت المفتت، ومنحت الطاغية فرصة الظهور في صورة البطل الذي تحالف عليه المعتدون، ولم يستطيعوا النيل منه، وبقي شامخا يهدد بسحق ما تبقى من شعبه في إدلب وحماة وحلب !
الضربات الفنكوشية المحددة في ثلاث مناطق مهجورة إلا من معمل أبحاث كيميائي مدمر، دفعت من يسمون أنفسهم بالقوميين العرب وأشباههم إلى الاستنكار والاستهجان للفنكوش الغربي الأميركي، وتحدثوا عن المقاومة والممانعة، وانطلقوا يتكلمون عن الإرهاب والإرهابيين الذين تمولهم الدول المعادية، ومن المفارقات أن تلفزيون البي بي سي أفسح مجالا رحبا لنظام السفاح كي يصول ويجول ويدعي المظلومية والبطولة، ويتباكى على شاشته "بشار الجعفري" مندوب السفاح في الأمم المتحدة على ما أصاب بلاده من عدوان، بينما ملايين السوريين المهجرين لا يذكرهم أحد، والشهداء بمئات الآلاف لا يتكلم عنهم أحد، بل يسمونهم بالإرهابيين: الأطفال إرهابيون. النساء إرهابيون، الشيوخ والمرضى والعجزة إرهابيون! ونحن نعلم اليوم المقصود من الوصف بالإرهاب- أي الإسلام. ليس من حقك وفقا للتصور الأميركي الصهيوني الروسي الوثني أن تكون مسلما، وإلا فأنت إرهابي يجب مكافحتك وقتلك بلا رحمة، وهو ما توافق عليه السفاح مع الدول والميليشيات الطائفية الوثنية التي تحتل سورية المدمّرة في مخاطبة العالم.
لو أرادت هذه الجهات أن تكون رئيفة بالشعب السوري المقهور المذبوح، لفعلت بالسفاح مثلما فعلت بنورييجا يوم 3 من يناير سنة 1990م. وحاكمته بتهم نورييجا، وعاقبته بما يجعله عبرة لغيره، ولكنها على اختلاف أهدافها وأوضاعها تفيد من وجود السفاح الذي يحقق لها فوائد ثمينة، فالروس يمتلكون السيطرة على النظام وأقاموا قواعدهم العسكرية على أرض الشام، وصدروا له السلاح الخردة الذي يستنزف كل ما تبقي في الخزانة السورية وما تنتجه في بعض الأماكن التي لم يصل إليها الدمار بعد. والأميركان يحرصون أن يضعوا أقدامهم في شرق سورية من أجل البترول المبشر والواعد. والطائفيون وأتباعهم يعملون من أجل فتح الطريق عبر ما يسمى الهلال الشيعي إلى البحر المتوسط.
من حق هؤلاء جميعا أن يعملوا من أجل مصالحهم ولا لوم عليهم، ولكن اللوم كل اللوم والإدانة كل الإدانة لمن يقتل شعبه ويقدم وطنه مجانا للذئاب المفترسة، وللأمة التي تعيش عصرا صليبيا جديدا ولم تتعظ بالتاريخ والجغرافيا، وصالحت أعداءها وخاصمت شعوبها، ولم تعمل من أجل بناء القوة الذاتية ومقاومة الأعداء والخصوم، مع أن الله حباها بعناصر القوة المتنوعة، ولكنها نامت واستغرقت في النوم، ومنحت نفسها مجانا للصليبيين والوثنيين، وراحت تولول بكلام ماسخ وسمج، وبيانات لا تساوي ثمن الحبر الذي كتبت به، ووقفت على أبواب مجلس الأمن الذي تحول مصطبة للكلام الفارغ الأجوف، والقرارات التي تطبق على الضحايا ولا يعترف بها القتلة المجرمون!
ما يدمي القلب أن يختلف المعارضون للنظام الدموي النصيري الطائفي، وأن يتقاتلوا فيما بينهم، وأن يقدموا للعالم صورة كريهة للمسلمين في تعاملاتهم وسلوكهم، ويظنون أن العالم الصليبي سيقف إلى جانبهم ويدافع عنهم. لقد أشعل ترامب عملية الفنكوش ليغطي على أزماته في واشنطن، وشاركه الآخرون من أجل مصالحهم، والعدو الصهيوني يزغرد على قمة جبل الشيخ، وينطلق من حين لآخر، ليضرب موقعا سوريا أو أسلحة ذاهبة إلى الميليشيات، والسفاح يعلن عن احتفاظه بحق الرد ، الذي لا يحققه أبدا!
قالت وكالة الأنباء الإيطالية "آكي"، إن النظام السوري، يُفعّل آلية تهدد العاصمة دمشق بالفوضى، وذلك ردًا على أي اعتداءات غربية على قواته. وأنه "عمم على كافة الميليشيات الموالية له والعاملة في دمشق وريفها ضرورة التمسك بعدم مغادرة العاصمة حتى في حال توجيه ضربة أمريكية عسكرية لوحداته العسكرية فيها"، كما "طالبهم جميعا استخدام كل القوة الممكنة للتمسك بالسيطرة على المكان"، أي على العاصمة دمشق. و"السماح باستخدام القوة دون عودة للترتيب الهرمي في حال برز ما يُهدد أي منطقة من مناطق دمشق، أو أوحى باحتمال قيام احتجاجات جديدة في العاصمة"، و"هذه الأوامر تشمل ضمنًا حاملي السلاح الفردي والثقيل".
السفاح لا يهمه الحفاظ على سلامة الناس، ولا يمانع من استمرار تدفق الدم، فشعبه كله صار إرهابيا فيما يبدو!
الله مولانا. اللهم فرج كرب المظلومين. اللهم عليك بالظالمين وأعوانهم!
وسوم: العدد 768