فشربَ حتى ارتويتُ
كثير من الخلافات تنتهي حين يضع كل واحد نفسه مكان الآخر ، فيشعر بمشاعره ، ويقدر حاله .
ولقد عالج النبي صلى الله عليه وسلم رغبة الفتى الذي جاءه يستأذنه بالزنا ، عبر ذاك الحوار الجميل ، الذي كان يدعوه فيه إلى أن يضع نفسه مكان أقرباء من يريد أن يزني بها : أتحبه لأمك ، أتحبه لابنتك ، أتحبه لأختك ، أتحبه لعمتك ، أتحبه لخالتك ؟
كان الفتى يجيب بالنفي عن جميع أسئلته صلى الله عليه وسلم ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول ( وكذلك الناس لا يحبونه لـ... ) .
إن استحضارنا أحوال الآخرين ، وتقديرنا لهم ، وإحساسنا بأحاسيسهم ، يجعلنا نتوقف ونفكر ونراجع .
وأرجو أن نتأمل ونتدبر الحديث التالي للنبي صلى الله عليه وسلم الذي يقول فيه ( اعبد الله ولا تشرك به شيئاً ، وأقم الصلاة المكتوبة ، وأدِّ الزكاة المفروضة ، وحُجَّ واعتمر ، وصم رمضان وانظر ما تحب للناس أن يأتوه إليك فافعله بهم ، وما تكره أن يأتوه إليك فذرهم منه ) صحيح الجامع 1039.
فبعد أن ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أركان الإسلام ، دعا إلى أن يعامل المسلم الناس بمثل ما يحب أن يعاملوه به ( وانظر ما تحب للناس أن يأتوه إليك فافعله بهم ، وما تكره أن يأتوه إليك فذرهم منه ) .
وفي الحديث المتفق عليه ينفي صلى الله عليه وسلم اكتمال الإيمان في من لا يحب لأخيه ما يحبه لنفسه ( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ) البخاري ومسلم .
والعمل بما يوجه إليه هذا الحديث يقي خلافات كثيرة ، ونزاعات خطيرة ، تنشأ ، وتستمر ، وتتأزم بحب النفس ، والحرص على انتصارها على الآخرين ، واستئثارها بالخير دونهم .
وانظروا في ما قاله حبر الأمة عبدالله بن عباس رضي الله عنهما من كلمات تظهر حبه عدم استئثاره بما آتاه الله من فقه ، بل تمنيه أن يؤتيه الله كل مسلم ( إني لأمر على الآية من كتاب الله ؛ فأود أن الناس كلهم يعلمون منها ما أعلم ) .
ولما وجَّه النبي صلى الله عليه وسلم نصحه لأبي ذر رضي الله عنه قال له ( إني أحب لك ما أحب لنفسي ) وذلك في الحديث الذي أخرجه مسلم في صحيحه وقال فيه لأبي ذر ( يا أبا ذر إني أراك ضعيفاً ، وإني أحب لك ما أحب لنفسي ، لا تأمرن على اثنين ولا تولين مال يتيم ) صحيح مسلم .
وما أجمل كلمات ابن القيم في هذا المعنى إذ يقول : من دلائل رقة قلب المؤمن وإنابته أنه يتوجع لعثرة أخيه المؤمن إذا عثر ؛ كأنه هو الذي عثر بها ، ولا يشمت به .
ولعل أسمى درجات الحب أن تكون راحـة من تحب راحة لك ، وسعادته سعادتك ، وشبعه شبعك ، مثلما قال الصديق أبو بكر رضي الله عنه : كنا في الهجرة وأنا عطشان جداً ، فجئت بمذقة لبن ؛ فناولتها الرسول صلى الله عليه وسلم وقلت له : اشرب يا رسول الله . يقول الصديق : فشرب النبي حتى ارتويت .
شرب النبي صلى الله عليه وسلم ، وارتوى أبو بكر رضي الله عنه ، فما أسمى هذا الحب ، وما أجمل هذا التعبير عنه وما أبلغه : فشربَ حتى ارتويتُ .
وإني لأرجو أن يكون هذا الحب بين الزوجين ، فيؤثر كل منهما صاحبه على نفسه ، ويرجو له الخير ، فيعطف عليه ، ويرحمه ، ويعطيه ، ويقترب منه ، ويصبر عليه ، فإذا فعل الزوجان ذلك سَعِدا ، واستقرا ، ونعِما ، وفازا في الدنيا والآخرة .
ولن يحققا ذلك إذا تعلقا بالدنيا ، وسعيا إليها ، وتنافسا عليها ، بينما يحققانه إذا تعلقا بالآخرة ، وسعيا إليها ، ورأى كل منهما في صاحبه سبباً موصلاً لها ، مقرباً منها .
يحتاج الزوجان كثيراً إلى خلق الإيثار ، والابتعاد عن الأثرة ، فيؤثر كل منهما الآخر على نفسه ، ويقدمه عليها .
إنهما بهذا يقهران الشيطان ، ويحميان نفسيهما منه ، ويحفظان حياتهما الزوجية من نفثه ونزغه ، وتتنزل عليهما رحمات ربهما .
ينبغي أن نربي أبناءنا وبناتنا على ذلك ، فإذا ما تزوجوا وهم متحلون بخلق الإيثار خاصة ، نجحوا في زواجهم ، وأراحوا أنفسهم وأهلهم ، وسعد بهم مجتمعهم ، وكان مجتمعاً سعيداً آمناً .
فلنُسَخِّر أدواتنا ووسائلنا ، من إعلام ومناهج ، للدعوة إلى ذلك ، ونشره بين الناس ، وستكون الثمرات عظيمة بإذن الله .
وسوم: العدد 771