فلسفة مبسطة: أرسطو والروطوريكا (البلاغة الخطابية)

(وقصة تعبيرية ساخرة)

الفيلسوف اليوناني (اغريقي) أرسطو (ولد عام 384 قبل الميلاد وتُوفي عام 322 قبل الميلاد) كان تلميذا لأفلاطون، أحد أشهر فلاسفة اليونان القديمة، وارسطو هو أيضا معلم الاسكندر الأكبر. شملت مؤلفات ارسطو العديد من المجالات عدا الفلسفة، مثل المنطق، علم الأخلاق والفكر السياسي والعلوم رغم انه لم يكن يعتبر من العلماء.

تميزت فلسفة أرسطو بالتحليل المنطقي للوصول إلى مفهوم علمي يسمح للإنسان بتعلم أي شيء يلاحظه حوله، واستخدام مبدأ الاستنتاج ليصل إلى المعلومة، هذا المبدأ كان أساس فكرة القياس المنطقي التي وضعها الفلاسفة لاحقاً والتي تقول إن أي حالة يوجد بها الجسم هي نتيجة مجموعة أسباب منطقية أدت للوصول إليها.

كتابات أرسطو كانت على شكل مسودات. صيغ ما يقارب مئتي عمل أغلبهم على شكل مسودات لملاحظاته وأعماله المنهجية. حُفظت أعماله وتم تناقلها بين طلابه إلى أن نقلت إلى روما ليستفيد منها الباحثون، ومن أصل أعماله المئتين لم يصلنا الا واحد وثلاثون عملا فقط.

ارسطو وفن الخطابة:

اعتمد أرسطو على ثلاثة مركبات خطابية مثيرة للفضول:

أ -عبر خطاب يعتمد على المشاعر.

ب -عبر استعارة قصة أو مجموعة أسئلة مثيرة للفضول.

جـ -طرح تجربة حسية، مثلا معاناة مؤثرة، تخلق جوا مؤثرا بخطاب موجه لمشاعر الجمهور الذي يوجه له الحديث أو الخطاب ..

الخطاب (جـ) نجده اليوم في الخطابين السياسي والديني، لكننا لا نجده بنفس القوة والتأثير في الخطاب العلمي أو الثقافي .. الا في الشعر، والشعر حالة خطابية تطورت كوسيلة تأثير مميزة في الثقافة العربية، نلحظ ذلك بقوة فيما يعرف بالشعر المنبري أو المهرجاني، وهو شعر عرفناه في شعرنا أيضا بقوة طابعه السياسي.

من ناحية أخرى عرفت الفلسفة الإغريقية البلاغة الخطابية خاصة في فلسفة أرسطو. أطلق الإغريق على البلاغة الخطابية تعبير "روطوريكا" ويمكن تسميتها أيضا ب "علم الخطابة" وتعني القدرة على الإقناع بواسطة اللغة.

من أهم متطلبات "الروطوريكا" حرية التعبير والتنظيم في مجتمع مفتوح، وهي تعتمد وسيلتان:

أ-الإقناع باعتماد المنطق والعلم ونماذج تثبت الفكرة التي يطرحها المتحدث. هذه حالة قريبة جدا من أسلوب مرافعة المحامي في المحكمة. أو من أسلوب الباحث العلمي الذي يورد إثباتات ملموسة ومؤثرة عبر نماذج علمية لا يمكن دحضها .. إلا من عقول فاتها التطور وبقيت في مرحلة ما قبل التاريخ من حيث قدرتها على التمييز بين الحقيقة والوهم!!

ب -الإغراء -هنا تجري مخاطبة المشاعر بلغة منمقة فخمة بمفرداتها وتركيب جملها، وعبر استعمال الخطيب مؤثراته الصوتية، وبذلك يفرض سيادة شعور جماعي وقناعة جماعية للمجموعة، وهي حالة يعرفها علم النفس الاجتماعي ب "روح القطيع" – أي تسود المجموعة مشاعر وتصرفات وقناعات مبنية على روح التأثر الجماعي وهو بالضبط تصرف يفتقد للوعي الذاتي وتسوده حالة فقدان للوعي الشخصي .. والاندماج بلا وعي مع رد الفعل الجماعي.

أرسى اليونانيين في تراثهم الفكري والفلسفي فن الخطابة. اهتمام اليونانيين بالخطابة كان بسبب ارتباطها بطبيعة الحياة اليونانية التي غلبت عليها المجادلات الفلسفية والسياسية ومساحة الحرية الفردية وإمكانية التعبير عن الرأي الشخصي.

ظهر في اليونان القديمة مجموعة من المتكلمين الذين عُرفوا بالسفسطائيين (Sophos) لتميزهم بالقدرة على الخطابة وقدرتهم على جذب الجمهور لخطبهم والتأثير عليهم وتطور أسلوبهم الخطابي، كل هذا ساهم في تطور الخطابة اليونانية وجعلها مهنة لمن يريد التقدم الاجتماعي.

يعتبر كتاب ارسطو عن الخطابة أول مؤلَّف شامل لعلم الخطابة.

في عصرنا الحديث تطورت "الروطوريكا" نحو الاعتماد على المضمون أو اللامضمون. "الروطوريكا" التي تعتمد على اللامضمون، أي غيبيات وقصص خرافية، هي التي تسود النسبة الأعظم في المجتمعات البشرية بدرجات متفاوتة من القوة .. وبعضها يسيطر بالعنف والإرهاب أيضا ..أو بشرطة دينية كما هو الحال في السعودية ودول جعلت القانون كرباجا على التفكير والإبداع.. تحافظ على المنقول والموروث الخرافي وتعتبره حقيقة مطلقة .. بينما المجتمعات الأكثر رقيا حضاريا هي مجتمعات منفتحة لحرية الرأي والتعددية الثقافية والفكرية .. وبالتالي هي منتجة الحضارة الإنسانية في عصرنا.

فن الخطابة في التراث العربي

عندما عين الخليفة الوليد بن عبد الملك الحجاج بن يوسف الثَّقّفي واليا على الكوفة، اشتهر بخطبة مطلعها:

أَنَا ابنُ جَلَا وطَلَّاعُ الثَّنَايَا

متَى أضَعِ العِمامَةَ تَعرِفُوني

يا أهل الكوفة أما والله إني لأحمل الشر بحمله وأحذوه بنعله وأجزيه بمثله وإني لأري أبصارا طامحة وأعناقا متطاولة ورؤوسا قد أينعت وحان قطافها وإني لصاحبها وكأني أنظر إلى الدماء بين العمائم واللحى تترقرق.

هذا أوان الشد فاشتدي زيم قد لفها الليل بسواق حطم.

هذا هو المقطع الأول من تلك الخطبة المشهورة.

لكن تبين ان السطرين الأولين إقتبسهم الحجاج من مطلع قصيدة شاعر اسمه سُحَيْم بن وَثيل، أنشدها ردا على من سخروا منه ومن شعره والقصيدة تتميز بفن الخطابة والاثارة:

أَنَا ابنُ جَلَا وطَلَّاعُ الثَّنَايَا

متَى أضَعِ العِمامَةَ تَعرِفُوني

وَإِنَّ مَكَانَنَا مِنْ حِمْيَرَيٍّ

مَكَانُ اللَّيْثِ مِنْ وَسَطِ الْعَرِينِ

وَإِنِّي لا يَعُودُ إِلَيَّ قِرْنِي

غَدَاةَ الْغِبِّ إِلَّا فِي قَرِينِ

وَمَاذَا يَدَّرِي الشُّعَرَاءُ مِنِّي

وَقَدْ جَاوَزْتُ حدَّ الأَرْبَعِينِ

أَخُو خَمْسِينَ مُجْتَمِعًا أَشُدِّي

وَنَجَّذَّنِي مُدَاوَرَةُ الشُّئُونِ

طبعا لا يمكن تجاهل تطور الخطابة الذي رافق ظهور الإسلام، فقد اعتمدت الدعوة الاسلامية على الخَطابة في نشر الاسلام والدفاع عنه وعن مبادئه، وجعلها ضمن الشعائر الدينية، اذ لا تصح الصلاة يوم الجمعة بدون خطبة الجمعة!!

طبعا لا يمكن تجاهل تطور الخطابة مع تطور المجتمعات البشرية ونشوء التنظيمات المختلفة وخاصة الأحزاب السياسية. أيضا نجد ان تطور النظام القانوني، دفع الى تطور الخطاب القانوني، اتهاما او دفاعا. حتى التعليم الجامعي (والثانوي) أضحى يعتمد الى حد كبير على تطوير فن الخطابة (فن عرض المواضيع الدراسية) لجذب اهتمام الطلاب، من هنا نجد معلمين مطلوبين ومعلمين أقل طلبا .. وهذا يؤثر بالتأكيد على نسبة النجاح للطلاب ..

قصة: اسرار كرسي الاعتراف

من المعروف ان رجال الدين من جميع الطوائف، هم خطباء مؤدلجون ويعرفون كيف يثيرون الاهتمام بخطبهم الدينية او خطب المناسبات الاجتماعية.

الأب جبرائيل أنهى عمله الذي استمر أربعة عقود كاملة ككاهن، وحان الوقت ليخرج للتقاعد.

كان كاهنا محبوبا من الجميع، لا يفوت مناسبة عائلية، فرحا او حزنا دون ان يشارك ويلقي خطبة تشد الاهتمام، بل والكثير من عباراته أضحت مستعملة كأمثال حكيمة.

حين علمت طائفته انه قرر الخروج للتقاعد، قرروا ان ينظموا له حفل وداع وتكريم.

دعيت كل شخصيات البلد للمشاركة في تكريم الأب جبرائيل ووداعه، طبعا اكتظت القاعة بالحضور.

الذي حدث اثناء الاحتفال ان قائد سياسي مرموق من البلد تعوق عن الحضور، وكان من المتفق عليه ان يلقي كلمة في حفل التكريم والوداع، ومنعا من الثرثرة حول أسباب تعوقه، التي كانت ظاهرة معروفة، ربما هي تقليد لمن يصير زعيما سياسيا، قرر الأب جبرائيل ان يلقي خطبة تمهيدية حتى يمنع القيل والقال حول تعوق الزعيم السياسي. وقف على المنصة وأجال نظره بالحضور، وبعد ان هدأ التصفيق العاصف قال:

حين وصلت هذه البلدة قبل اربعة عقود، اول انطباع لي كان من اول شخص دخل ليعترف وما زلت اذكر اعترافه حتى اليوم ..

اعترف ذلك الشخص بانه كان يسرق النقود من والدية بشكل دائم خلال سنين طويلة ويريد من الله ان يغفر له خطيئته لأن والدية على شفا الموت ولا يرد دفنهما قبل ان يعترف ويتلقى الغفران من الله. وبعد تردد قليلا اضاف انه يخاف ان لا يغر له الله اذا لم يعترف بكل ما ارتكبه من أخطاء أخرى في حياته، فهو سرق أيضا أموالا من مشغله وانه مارس الجنس ايضا مع زوجة مشغله، وانه باع السموم لطلاب المدراس من اجل المال الذي كان همه الأول والأخير في الحياة، وانه سبب إصابة زوجة مشغله بمرض جنسي، وبذلك أصيب مشغله أيضا بنفس المرض .. لذلك يشعر بتأنيب ضميرـ وجاء ليعترف ويطلب الغفران من الله.

هذا الشخص المعترف الأول، كما قال الكاهن جبرائيل، من الصعب ان ينسى اعترافه ولكني عرفت فيما بعد اخرين مستقيمين وانقياء...

عند هذا المقطع دخل الزعيم السياسي للقاعة فوقف الحضور مصفقين له بل والبعض اطلق هتافات تمجيد لحضرته ..

وزع الزعيم ابتساماته على الحضور ملوحا لهم بيديه، وجاء يعانق الكاهن، الذي اخلى له المنصة بقوله ان سيد الخطابة قد وصل وهو شرف عظيم لي ان يشارك سعادته بكلمة في حفل تكريمي بمناسبة انهائي أربعة عقود من العمل الكنسي في هذه البلدة الكريمة.

 افتتح الزعيم كالعادة كلمته بالاعتذار عن تأخره بسبب قضية هامة كان يعالجها، وهي جملة ربما كررها بدون انتباه في عشرات اللقاءات التي شارك فيها سابقا. ثم قال وهو يحيط كتف الكاهن بذراعه: اريد اليوم ان اكشف لكم سرا، إني كنت الشخص الأول الذي اعترف لأبونا الخوري بأخطائه..."

وضجت القاعة بالضحك...

وسوم: العدد 771