حوار مع فقير صار غنياً
قلت: أراك حزيناً يا صاحبي
قال: ألا يُحزنني أن أقرأ وأسمع عن رجال ونساء يملكون آلاف الملايين أو مئات الملايين أو عشرات الملايين أو حتى ملايين وأنا لا أملك سوى بضع مئات من الدنانير؟!
قلت: وهل تراهم أغنى منك؟
قال: كيف لا أراهم أغنى مني وهم يملكون ما يملكون؟!
قلت : حين يسعون إلى مضاعفة أموالهم فهم فقراء، وحين ترضى بالمئات التي عندك فأنت غني.
قال: ماذا تقول؟ فقراء وهم يملكون الملايين؟!
قلت: نعم، لأن الغِنَى ليس في ما نملك من مال؛ بل هو في غِنى قلوبنا عمّا في الدنيا كلها.
قال: من أين أتيت بهذا؟ أرجو ألا تكون مجرد شعارات وعبارات رنّانة.
قلت: بل هو قول النبي (ﷺ).
قال: هل قال النبي (ﷺ) هذا؟
قلت: نعم، قال رسول الله (ﷺ): (ليس الغنى عن كثرة العَرَض؛ ولكن الغِنى غِنى النفس).
قال: هل هذا الحديث صحيح؟
قلت: نعم، الحديث متفق عليه، أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما.
قال: وهل (العَرَض) هو المال؟
قلت: هو ما يُصيبه الإنسان من الدنيا، ويشمل المال وغيره، ولقد ذمَّه الله تعالى في أكثر من آية، وذمَّ من يحرص عليه فقال سبحانه: "تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ". الأنفال 67،
وقال عزّ و جلّ: "فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَٰذَا الْأَدْنَىٰ وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ ". الأعراف 169،
وقوله سبحانه: "لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَّاتَّبَعُوكَ وَلَٰكِن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ". التوبة 42
قال: الله أكبر.. أقرأ القرآن كثيراً، لكن جمعك الآيات التي وَرَد فيها ذِكْر (العَرَض) وبيان هَوَانِه على الله جعلني أشعر وكأنني أسمعها للمرة الأولى.
قلت: وعليه فإن معنى (العَرَض) في حديث النبي (ﷺ): (ليس الغِنى عن كثرة العَرَض) بات واضحاً، وهو كما قال النووي في شرح الحديث: الغِنى المحمود غِنى النفس وشبعها وقلة حرصها.. لا كثرة المال مع الحرص على الزيادة، لأن من كان طالباً للزيادة لم يستغنِ بما معه، فليس له غِنى.
قال: ألا يمكن أن نُضيف إلى هذا أن إمساكه المال وعدم إنفاقه على نفسه وأهله والمحتاجين يؤكِّد فقره لأنه لايستغني عن هذا المال؟
قلت: قريباً مما قلتَ ذَكَره ابن حجر في (فتح الباري) الذي شرح فيه صحيح البخاري، فقد قال: صاحب المال الكثير ليس غنيَّاً لذاته؛ بل بحسب تصرُّفه فيه؛ فإن كان في نفسه غنيَّاً لم يتوقف في صرفه في الواجبات والمستحبات من وجوه البرّ والقربات؛ وإن كان في نفسه فقيراً أمسكه وامتنع عن بذله فيما أُمِر به خشية من نفاده؛ فهو في الحقيقة فقير صورةً ومعنى وإن كان المال تحت يده لكونه لاينتفع به لا في الدنيا ولا في الأخرى؛ بل ربما كان وبالاً عليه.
قال: صاحب المال إذن فقير ما دام يسعى لزيادته ويبخل به فلا يُنفقه.
قلت: أحسنت، وهذا ما ذكره ابن بطال في شرحه حديث النبي (ﷺ) إذ قال: ليس حقيقة الغِنى كثرة المال لأن كثيراً ممن وسَّع الله عليه في المال لايقنع بما أُوتي فهو يجتهد في الازدياد ولايُبالي من أين يأتيه؛ فكأنه فقير لشدة حرصه.
وإنما حقيقة الغِنى غِنى النفس وهو من استغنى بما أُوتي، وقنِع به، ورضي، ولم يحرص على الازدياد، ولاألحَّ في الطلب؛ فكأنه غَنِيّ.
قال: على هذا فإن الثراء لاينبغي أن يكون شيئاً نطمح إليه ونحرص عليه؛ فقد يكون سبباً في طغياننا أو فسادنا؟
قلت: نعم، فكم طغى أثرياء وفسدت أخلاقهم بسبب كثرة أموالهم؛ كما ذَكَر القرطبي الذي قال في شرحه الحديث: معناه أن الغِنَى النافع أو العظيم أو الممدوح هو غِنَى النفس؛ وبيانه أنه إذا استغنت نفسه كفَّتْ عن المطامع فعزَّتْ وعظُمَتْ وحصل لها الحظوة والنزاهة والشرف والمدح أكثر من الغِنى الذي يناله مَن يكون فقير النفس لحِرصه؛ فإنه يورطه في رذائل الأمور وخسائس الأفعال؛ لدناءة همته وبخله، ويكثر من يذمّه من الناس، ويصغُر قدره عندهم، فيكون أحقر من كل حقير وأذلّ من كل ذليل.
قال: ما أجمل كلام هؤلاء العلماء الكرام وما أحسن ما قالوه في بيان حقيقة الفقر وحقيقة الغِنى.
قلت: بل ماأجمل كلام النبي (ﷺ) وما أحسنه فما كلامهم إلا قبس من نور حديثه (ﷺ).
قال: هل تصدق أنني صرت أُشفِق على الأثرياء بعد أن كنت أحسدهم؟!
قلت: بارك الله فيك، فكثرة أموالهم تعني كثرة حسابهم يوم القيامة.
قال: تريد حديثه (ﷺ): (لاتزول قَدَمَا عبد يوم القيامة....)؟
قلت: أجل، ونص الحديث كما في صحيح الجامع، عن أبي برزة رضي الله عنه قال: قال النبي (ﷺ): (لاتزول قَدَمَا عبد يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع: عن عمره فيمَ أفناه، وعن علمه ما فعل فيه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن جسده فيمَ أبلاه).
قال: يا ويلتاه.. سنُسأل عن مالنا مرتين وليس مرة واحدة: من أين اكتسبناه وفيم أنفقناه؟
قلت: ومع زيادة المال يزيد الحساب والسؤال!
قال: صرت أخشى كثرة المال.
قلت: ولذا قال (ﷺ): ( ما قلَّ وكفى خيرٌ ممَّا كثُر وألهى). صحيح الجامع.
قال: ما أبلغ كلامه وما أجمل بيانه (ﷺ)، فقليل المال يكفي لتلبية حاجاتنا؛ بينما كثيره يشغلنا عن ذكره تعالى حين نهتم بحفظه، ونسعى لزيادته، وننشغل بجمعه وعدِّه.
قلت: ولقد ذمَّ الله العملَيْن الأخيرين اللذين ذكرتَهما وهما جمع المال وعدُّه.
قال: تريد قوله تعالى: "الَّذِي جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ * يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ". في سورة الهُمزة؟
قلت: أجل، إنه يتلهَّى بجمع المال في النهار، ويعدّه في الليل، حتى ينشغل بهذا وذاك عن ذِكر الله تعالى وعبادته، وعن إنفاق ماله في مصارف الخير. قال ابن كثير: ألهاه ماله بالنهار: هذا إلى هذا؛ فإذا كان الليل نام كأنه جيفة.
قال: كما قال سبحانه في سورة التكاثر: "أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ* حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ"، ألا يعني هذا أنهم انشغلوا بتكثير المال حتى جاءهم الموت؟
قلت: قال الطبري: ألهاكم أيها الناس المباهاة بكثرة المال والعدّ عن طاعة ربكم وعمّا ينجيكم من سخطه عليكم. وأورد قول قتادة: كانوا يقولون: نحن أكثر من بني فلان، ونحن أعدُّ من بني فلان، وهم كل يوم يتساقطون إلى آخرهم، ووالله مازالوا كذلك حتى صاروا من أهل القبور كلهم.
قال: صدِّقني لقد صرتُ أكره كثرة المال! فماذا أفعل بما يزيد عن حاجتي؟ سأتركه لورثتي وأُحاسب عليه أنا؟!
قلت: ذكَّرتني بقول يحيى بن معاذ: مصيبتان في مال العبد حين موته: يُؤخذ منه كله ويُسأل عنه كله.
قال: على هذا فإن أموال الأثرياء ليست لهم!
قلت: ليس لهم منها إلا ما أكلوا ولبسوا وتصدقوا.. وما يزيد سيتركونه ويحاسبون عليه، ولقد بيَّن النبي (ﷺ) هذا خير بيان في حديثه الشريف: (يقول العبد: مالي.. مالي، وإن له من ماله ثلاثاً: ما أكل فأفنى، أو لَبِس فأبلى، أو أعطى فأقنى، وما سوى ذلك فهو ذاهب وتاركه للناس). صحيح مسلم.
قال: سبحان الله! كم يغيب هذا الحديث عن كثيرين؛ إنهم ينسون أو يتناسون أو يغفلون عمّا جاء فيه من حقيقة: (وما سوى ذلك فهو ذاهب وتاركه للناس)، إنهم يحسبون أنهم يجمعون لأنفسهم؛ بينما هم يجمعون لغيرهم.
قلت: رغم أن النبي (ﷺ) أرشدهم إلى ما يجعلهم يجمعون أموالهم لأنفسهم.
قال: في أي حديث أرشد (ﷺ) إلى هذا؟
قلت: في الحديث نفسه، أما قال (ﷺ): (أو أعطى فأقنى)؟
قال: (أقنى) تعني (أبقى)؟
قلت: قال النووي: (أقنى): ادخره لآخرته؛ أي ادخر ثوابه.
قال: و (أعطى) معناها (تصدق)؟
قلت: نعم، وتوضحه رواية أخرى للحديث في صحيح مسلم أيضاً: (أو تصدقت فأمضيت).
قال: آه... ليت الناس يذكرون أنهم لن يأخذوا معهم إلى قبورهم فلساً واحداً.
قلت: رغم أن النبي (ﷺ) ذكّرنا بهذا في حديثه الشريف.
قال: أي حديث؟
قلت: عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال النبي (ﷺ): (يتبع الميت ثلاث؛ فيرجع اثنان ويبقى معه واحد: يتبعه أهله وماله وعمله؛ فيرجع أهله وماله، ويبقى عمله) صحيح البخاري وصحيح مسلم.
قال: جزاك الله عني كل خير؛ فبعد أن كنتُ حزيناً صرت سعيداً، وبعد أن كنت أحسب نفسي فقيراً تيَّقنت أنني غني.
قلت: الحمد لله الذي شرح صدرك.
قال: لكن يبقى في صدري شيء!
قلت: ما هو؟
قال: هذا كله يجعلني أتوقف عن حسد الأثرياء الذين يجمعون ولاينفقون ولايتصدقون، فقد صرت أراهم فقراء وأرى نفسي أغنى منهم، لكن كيف أفعل وأنا أرى أثرياء يتصدقون فيثابون ويؤجرون وكان يمكنني أن أتصدق فأُثاب وأؤجر مثلهم إذا كان عندي أموال كأموالهم؟
قلت: هل تنوي ذلك حقاً؟
قال: ماذا تقصد؟ ألا تصدقني؟
قلت: بلى، لكني أردت أن أبشِّرك بأنك تنال أجراً مثل أجرهم بنيِّتك هذه وإن لم تملك مثل أموالهم!
قال: كيف؟
قلت: هاك بشارته (ﷺ) في حديثه الشريف الذي قال فيه: (إنما الدنيا لأربعة نفر : عبد رزقه الله مالاً وعلمًا فهو يتقي فيه ربه ويصِلُ فيه رحمه ويعلم لله فيه حقًّا، فهذا بأفضل المنازل، وعبد رزقه الله علمًا ولم يرزقه مالاً فهو صادق النية يقول لو أن لي مالاً لعملت بعمل فلان، فهو بنيَّتِه، فأجرهما سواء، وعبد رزقه الله مالاً ولم يرزقه علمًا فهو يخبِط في ماله بغير علم لا يتقي فيه ربه ولا يصل فيه رحمه ولا يعلم لله فيه حقا، فهذا بأخبث المنازل، وعبد لم يرزقه الله مالاً ولا علمًا فهو يقول لو أن لي مالاً لعملت فيه بعمل فلان، فهو بنيته، فوزرهما سواء). صحيح الجامع.
قال: إذن فإن نيَّتي الصادقة هذه تجعلني أنال أجر الثري الذي يتصدق بماله.
قلت: كما قال (ﷺ): (فأجرهما سواء).
قال: الحمدلله الذي لايظلم الناس شيئاً.
قلت: ولكن الناس أنفسهم يظلمون.
قال: أشكرك جزيل الشكر.. لقد بدَّدْتَ بكلامك الحزن الذي كان يملأ قلبي وحلَّت مكانه طمأنينة وسعادة.
قلت: هل مازلت ترى نفسك فقيراً؟
قال: بل أنا الآن غنيٌّ بالله الغنيّ الحميد. وبعد أن كنت أحسد الذين يكنزون الذهب، ويجمعون الملايين، صرت أشفق عليهم وأرثي لحالهم.
قلت: الحمدلله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.
قال: ليتك تنشر مادار بيننا من حوار ليستفيد مما جاء فيه كثيرون يغيب عنهم هذا الذي كان غائباً عني .
قلت: هل أجعل عنوانه : حوار مع فقير ؟
قال : ليتك تضيف إليه كلمتين ليكون : حوار مع فقير صار غنياً .
وسوم: العدد 772