مراجعات (21) النخب السورية وكارثة الانفصال

أ.د.عبد العزيز الحاج مصطفى

مركز أمية للبحوث و الدراسات الإستراتيجية 

كان البعثيون واليساريّون والوحدويّون بتورّطهم في مشروع الوحدة مع جمال عبد الناصر، التي أُعلن عنها رسميًّا في 22, 02, 1958م قد مثّلوا حال (المستجير من الرمضاء بالنار)، أو كالفراش الذي يجذبه ألق الشعلة ليحترق فيه. وذلك لأسباب ثلاثة:

 السبب الأول: يتمثّل بقبولهم بحلّ أنفسهم حزبيًّا وهو أمر قاد إلى إلغاء الحريات العامة، وتعطيل المؤسسات الدستورية، وإلى حكم الفرد الذي لم يكن قادراً على ممارسة الحكم؛ سيما وقد اجتمعت حوله بطانة (غير صالحة، وغير كفوءة)، ومنهم (عبد الحكيم عامر) الذي أوكل إليه (جمال عبد الناصر) أمر الإشراف على الإقليم الشمالي مما أوغر صدور ضباط الجيش السوري بعامة لعدم كفاءته ولبجاحته. فكان ذلك بمثابة بداية النهاية لدولة الوحدة التي لم تعمّر أكثر من ثلاث سنوات ونيفًا!

 السبب الثاني: يتمثّل بقبولهم شرط عدم الجمع بين العسكرية والسياسة. وهو أمر مع انّه حقّ إلا أنّه قاد إلى تفريغ الجيش من العناصر الوحدوية، ومنهم صانعوا الوحدة ومنظّروها؛ وقد حُوّلوا إلى الوظائف المدنية تبِاعًا! ثم هم بانشغالهم بقضاياهم الشخصية –وقد قدّموا استقالاتهم تباعًا-فتحوا الباب على مصراعيه للوصوليين والانتهازيين والمتآمرين بعامّة، ليكونوا بطانة الحكم وأدواته، وليقوموا بالانفصال فيما بعد!

 السبب الثالث: يتمثّل بعدم إدراكهم طبيعة الموقف المستجدّ بعد الوحدة: وقد تألّب عليهم الداخل والخارج؛ أمّا الداخل فقد تمثّل بأفعى الطائفية التي عبّرت عن نفسها باللجنة العسكرية التي رأسها الثلاثي (محمد عمران، وصلاح جديد، وحافظ الأسد) والتي أخذت تعمل ليل نهار من أجل الانفصال. والخارج الذي ما هدأ حراكه ساعة واحدة، وهو يعمل من أجل الانفصال إقليميًا ودوليًا وعلى كافّة الصعد. وقد جاء الانفصال الذي أعلن عنه رسميّا في 28 , 9 , 1961م ليلبّي مطمحَين:

 المطمح الأول: مطمح الطائفيين الذين أصيبوا بالإحباط لأول أمرهم عندما أعلن عن قيام دولة الوحدة، وقد تحوّلوا إلى مكوّن صغير قد لا يرى حتى بالمجهر! فعاد إليهم ألَقهم وتمايزهم؛ سيما بعد الانقلاب الفاشل الذي قاده النحلاوي في 28 , 3 ,1962م. حيث كان القر ار في الاجتماع الذي عقد في حمص في الأول من نيسان يتمثّل بإبعاد قادة الانفصال عن الجيش والقوات المسلّحة، وبعودة المسرّحين إليه. وقد كان المسرّحون يومئذ يتمثلون بفئات ثلاث:

 الفئة الأولى سرّحها الانفصاليون

 الفئة الثانية سرحها نظام الوحدة

والثالثة سرحها الشيشكليون قبل انقلاب 1954. وغالبهم من الطائفيين.

فوجدت تلك الفئات طريقها إلى الجيش ثانيًا. والذين لم يعودوا في تلك الحقبة عادوا بعد انقلاب الثامن من آذار سنة 1963.وبعودتهم أحكم الطوق الطائفي على العنق السوري منذ ذلك التاريخ وإلى اليوم.

 المطمح الثاني: (مطمح الخارج) الذي يتمثّل بالمصالح الدولية والإقليمية، وأخطرها المصالح الصهيونية التي تقوم سياساتها على تجزئة المنطقة الشرق أوسطية، وجعلها تدور في فلكها. والمعروف أنهم بالانفصال عاودهم الأمل بنجاح سياساتهم؛ فعملوا على شرعنتها سيما بعد انقلاب 1963م. وقد حرصوا على إدخال المنطقة في خانة تصادم السياسات. والخلاف بين البعثين -البعث العراقي والبعث السوري-أكبر دليل على ذلك. وما تقدم يقودنا إلى التعريف بكل من الانفصال والانفصالين.

 أما الانفصال: وهو مالم يخطط له حتى الذين نفذوه. فقد لبّى المطمحين اللذين تحدثنا عنهما آنفًا، وقد تمثلا بالمصالح الطائفية والدولية، وجميعها تعمل خارج دائرة المصلحة السورية! وفضلا عن ذلك فإن الانفصال في دائرة الأمة الواحدة يعدُّ حركةً عبثيةً لا تؤدي إلى نتيجة حتى ولو كانت محقّة! وعلاوة على ذلك فإن الوحدة بمفهومها العام عقدية شرعية. يحكى أنّ القادة الانفصاليين بعد أن نفذوا جريمتهم أرادوا أن يأخذوا موافقة قادة الأحزاب فوقّع لهم زعماء الأحزاب جميعهم ومنهم: مشيل عفلق، وصلاح البيطار، وذلك باستثناء الأستاذ عصام العطار -المراقب العام للإخوان المسلمين–الذي رفض التوقيع بقوله: الوحدة من عقيدتنا-ومعروف أنه بين الإخوان وعبد الناصر في ذلك الوقت ما صنع الحدّاد! وذلك بخلاف البعثيين الذين كانت تجمعهم وعبد الناصر خصوصية المدرسة الواحدة.

 وأما الانفصاليون: فهم من حيث التعريف مجموعة من الضباط الدمشقيين اللامنتمين حزبيا، والبراغماتيين الذين تشغلهم مصالحهم الشخصية عن أيّة مصالح أخرى وطنية كانت أو قومية أو دينية! وقد ركبوا مركب الوصولية الانتهازية، فاستطاعوا أن يكونوا أعوان عبد الناصر وبطانته في حكم سوريا الإقليم وبالتالي أن ينفذوا جريمة الانفصال بدموية غير معهودة. فحسب تقارير الأمن في سوريا سقط صباح 28 , 9 , 1961م في حلب وحدها أكثر من 700قتيل، فضلا عن عدد كبير من الجرحى، ولم يحرك ذلك كله شعرة واحدة من مشاعرهم؛ بل كانوا يتهارفون بعبثية مطلقة كالقطط وظلّوا كذلك لسنة ونصف من الانفصال دون أن يحقّقوا نتيجة تذكر وقد خلت أذهانهم:

من مبادئ عامة يتمثلون بها؛ تحثهم على التضحية أو تعصمهم من الانحراف. من أهداف مرسومة هي موضع نظر الشعب السوري الذي عدّ الانفصال جريمة وعمل على إجهاضها ومقاومتها. من الفهم الواقعي والمعلل لتركيبة الجيش السوري سيما أن نواته من قوّات الشرق الخاصة الفرنسية الطابع، والتي تعدّ أكثر ارتباطا بالأجنبي. وقائدهم الأكبر عبد الكريم زهر الدين من أولئك الذين صنعهم المستعمر على عينه، وقد كان هو وأبوه من المقربين من القائد الفرنسي كارابيه. وكانت علاقة ابن أخته معزّى زهر الدين من الجاسوس الإسرائيلي إيليا كوهين تثير شبهة قوية وقد كان كثير التردد على بيت خاله، وقد كان على قادة الانفصال وقتها أن يحذروا منه وأن يعالجوا المسألة الطائفية في الجيش قبل أي عمل آخر. وأن يشرعوا ببناء سورية قويّة ذات مشروع نهضوي حديث، يخرجها من خانة الضعف، ويجعلها أكثر قوّة في مواجهة الأحداث المستجدة، ويضعها على جادة من الاستقامة؛ تفيد منها بعد أربعة عشر عاما من الصياعة السياسية والفكرية، وقد أصبحت مضرب المثل بالاغتيالات والانقلابات. والمعروف أنه بدلا من أن يحاولوا إخراج سورية مما هي فيه من فساد وفوضى أوغلوا في الفساد والفوضى، وقد نتج عن ذلك نتائج أربع عدّت كل نتيجة مقدمة لسابقتها، وهذه النتائج هي:

 النتيجة الأولى: تتمثل بتفكك البنى الحزبية: والمعروف ان الوحدة السورية المصرية بالنسبة للأحزاب مثلت حال الواقع بين المطرقة والسندان! فلا هي حلت نفسها حقيقة -استجابة لطلب عبد الناصر،

ولا هي أبقت على نفسها، فكان لها موقفها الثابت في عهديّ الوحدة ولانفصال. بل الذي حدث أن تفككت هذه الأحزاب. وكان تفككها بعضه أدركه (الخرف السياسي) وقد باد وانتهى. ومثله حزبي الشعب والوطن. وبعضها الآخر انهار بناؤه الحزبي ولم يصمد بسبب فشل قياداته بالتعامل مع دولة الوحدة، وبسبب تلاحمه مع الانفصاليين، وتوقيعه على وثيقة الانفصال؛ وهو أمر قاد فيما بعد إلى ظهور التيار الناصري العريض، الذي قاد إلى التخبط في الرؤى السياسية والفكرية. وما يقال عن البعث في هذه الحالة يقال عن الأحزاب الأخرى ودون استثناء.

 النتيجة الثانية_ تتمثل بتشظّي النخب المثقفة: ويمكن القول إن هذه النتيجة كانت بسبب سابقتها! وقد كانت ولا تزال النخب المثقفة تعدّ (سداة الأحزاب ولحمتها). وهي نتيجة تفكك البنى الحزبية انفضت انفضاضا عبثيا وذلك لسببين.

 السبب الأول: يتعلق بمفهوم الوحدة، وقد كان يومئذ يحاط بهالة من القدسية وقد عدت الوحدة السورية المصرية عند المثقفين بمثابة الخطوة الأولى من أجل وحدة عربية كبرى.

والسبب الثاني: بسبب غوغائية الانفصال، وقد كان كالمتهم بعرضه بالنسبة لهم. وحركة الجماهير السورية الغاضبة تجاههم كانت أكثر القا فاستطاعت جذب النخب إليها. وهذان السببان حقيقة أوقعا النخب بعامة في حيص بيص من أمرها، وقد عدمت القادة التاريخيين فتشظّت تشظيا عفويا قادها إلى التشرذم الذي كان نتيجة طبيعية لها والذي أوقعها بعد في خانة من الضعف لم تخرج منها!

 النتيجة الثالثة_ تتمثل بما يعرف بالقناعات الخاطئة: من لدن المثقفين بخاصّة. والتي تتمثل بالسلبية البراغماتية وعليها كان يومئذ غالبية المثقفين من عسكريين ومدنيين وقد نكروا تفكك الأحزاب وتشظي الثقافات الأيديولوجية والنظرية، وقد كثر تشظيها، وخروجها على أصولها وتفكك قناعاتها فأصبح من غير المبرر أن يقال: (وحدة حرية اشتراكية و(حرية اشتراكية وحدة) و (وحدة تحرر اشتراكية) وأن يؤدي الاختلاف في تقديم وتأخير البنى إلى الاختلاف في قبول الوحدة ورفضها. وهذا قاد بعد إلى حالة من الملل وإلى الدخول في السلبية البراغماتية، التي طبّعت صاحبها بطابع غير المسؤول، وقد نتج عن ذلك حالة من الانهزامية السياسية قادت بعد إلى الانصراف عن كل ما فيه (وجع الرأس) والابتعاد عن (الشبهة) والقبول ب(الواقع)كل ذلك من أجل (مستقبل آمن) وقد كان ذلك منتهى(السلبية)، ومنتهى (الضعف)، ومنتهى(الانهزامية)!!!

 النتيجة الرابعة_ فتح الباب على مصراعيه للقوى المضادة: التي كان يخطط لها بالنيابة عنها قبل ميلادها! والتي كانت موضع الرعاية في طفولتها وقبل سني نضجها، والتي شبت عن الطوق بعد؛ وهي موضع رعاية، ثم أصبحت جذعة في مرحلتي الوحدة والانفصال، وكان أكثر أعضائها من القوميين السوريين ومن اليساريين البراغماتيين. الذين لم يتوانوا لحظة عن الكيد لدولة الوحدة ولمفهومها العام. كل ذلك بتقنية فنية، وبمخططات للخارج يد فيها، مهدت السبيل لنجاحها ومع أن اللجنة العسكرية التي كانت إحدى مخرجات الحركة الطائفية قد نشأت نشأة متواضعة، إلا أنها بتوسعتها وقد ضمت إليها ممثلين عن الطوائف الأخرى أصبحت أكثر قوّة وأصبح لها حضورها في الجيش السوري بعامة.

 وبسبب منه أصبحت الرقم الذي يصعب التغلب عليه، قياسا على ما عليه الأحزاب والنخب من ضعف وهذا التقرير أثبت صحته في أثناء مؤتمر حمص الذي عقد في نيسان_ ابريل، الذي جاء ردّا على الانقلاب الذي قاده النحلاوي في 28 , 3 ,1962م، والذي نتج عنه أهم قرارين:

قرار طرد قادة الانفصال خارج سوريا. قرار عودة المسرحين من الجيش إلى الجيش، وبهذه الخطوة التي تعدّ طائفية محضة. مهدّ السبيل للانقلاب الكبير في الثامن من آذار 1963م.

وسوم: العدد 773