الاختلاف الحضاري في تحديد رمضان
الحمد لله الذي جعل دينه يسرا، وبين لنا سبل الهدى، والصلاة والسلام على نبينا الكريم القائل (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته) [متفق عليه]
وبعد: فإن شهر رمضان المعظم هو شهر الصيام الذي أنزل فيه القرآن وفيه ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، ويمكن تحديد بداية الشهر بطرق شتى منها:
1- رؤية الهلال بالعين المجردة
2- رؤيته بالتلسكوب أو بواسطة المركبات الفضائية
3- أو معرفة ذلك عن طريق العد والحساب
والشريعة الإسلامية شريعة اليسر ورفع الحرج، فلم يلزم ربنا سبحانه وتعالى المسلمين في أنحاء العالم أن يصوموا معا ويفطروا معا لصعوبة ذلك عليهم، وإنما طلب منهم أن يصوموا بناء على الرؤية تخفيفا عليهم، فيمكن لمن رأى أن يصوم، ومن لم ير يكمل عدة شعبان ثلاثين يوما ثم يبدأ بصيام رمضان.
وفي عصرنا هذا هنالك من يلجأ إلى الحساب، أو المناظير الفلكية، معتمدين على أن الحساب مندوب علمه شرعا، كما قال تعالى: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ ۚ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَٰلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ ۚ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (يونس/5).
ولكل وجهة هو موليها، ولا حَجْر على أحد، ولكن يؤخذ على هؤلاء تخطيئهم لمن أراد إثبات الهلال بالرؤية العينية، ونحن هنا لا نخطئ أحدا في منهجه، ولكن نطلب منهم أن يحترموا وجهة الآخرين، ولاسيما في مثل هذه الأمور التعبدية، بل ونرجح أن الرؤية العينية المباشرة هي أصح الطرق لإثبات رمضان، ففي الحديث: (صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، وانسكوا لها فإن غم عليكم فأتموا ثلاثين يوماً، فإن شهد شاهدان مسلمان فصوموا وأفطروا) رواه أحمد.
ولا ضير أن يختلف المسلمون في بدء رمضان، فالقمر في دورانه حول الأرض قد يرى في بعض البلدان ولا يرى في غيرها ليلة أول الشهر، فمن رآه صام ومن لم يره أفطر وكلهم حريصون على اتباع أمر الله.
فلا داعي بعد هذا أن يثور بعض المسلمين وبغضبوا لعدم اتفاق المسلمين حول العالم على البدء في يوم واحد، مدعين أن هذا يشوش صورة أمتنا الحضارية أمام الأخرى، وأنه يجب الأخذ بالحساب فقط... فما يشوش صورتنا الحضارية عدم التزامنا بديننا الحنيف بشكل صحيح من غير غلو ولا تطرف.
لنتعلم من رمضان أن نختلف اختلافا حضاريا، فالمعرفة لها طرق ومذاهب مختلفة، فهنالك من يلتزم بحرفية النص ومعناه الظاهري، وهنالك من يلتزم بمكنونه ومغزاه، وهنالك مدارس مختلفة في النقد الأدبي لتحليل الخطاب، وكل منها له حجته ومنهجه ومدرسته.
والحديث النبوي الشريف في ذروة الفصاحة والبلاغة، وصاحبه أشرف من نطق بالضاد صلوات الله وسلامه عليه، لذلك تجد طرائق مختلفة في شرح الحديث النبوي وفهمه، ولا ضير في ذلك مادامت ضمن الأطر العلمية والمنهجية الصحيحة.
ولا ينبغي العنت وحمل الناس كلهم على رأي واحد في الأحكام الفرعية، فليس هذا مقصود الشرع، ففي الأمر سعة، وشريعتنا تحترم الاجتهاد، وتثق بحواس الإنسان ولذلك جعلت رؤية الهلال شريطة الصيام، كما أنها تثق بالعلم وتدعو إليه، فيمكن معرفة أول الشهر بواسطة الحساب، ولكن الشريعة لم تلزم الناس بذلك، رحمة وتيسيرا عليهم، ومراعاة لظروفهم وأحوالهم فقد جاءت بين قوم أميين.
لنتعلم من رمضان الصبر والتقوى ومحبة الصالحين والتسامح في الآراء، ولا يتشنج البعض من هذا الاختلاف الذي أراده الله رحمة بعباده وعنوانا على سعة هذا الدين ومراعاته للظروف والبيئات المختلفة، وهذا غاية الاحترام للتعددية البيئية والاجتهاد العقلي، فإذا علمنا أن التعددية والانفتاح روح عصرنا الحالي أدركنا كم سبق الإسلام عصره حين يسر على الناس فطلب منهم أن يصوموا أو يفطروا تبعا لرؤيتهم الهلال، لكي يجتهدوا فيتفقوا حينا ويختلفوا حينا آخر؛ ولم يلزمهم أن يتفقوا على حكم واحد في الأرض كلها.
ولكن حين يقتضي الأمر الاتفاق فإن الشريعة تقرر ذلك كما في موضوع الحج، إذ جعل ربنا وقفة عرفة في اليوم التاسع من ذي الحجة؛ فقضى على الاختلاف في مسألة الحج تيسيرا ورحمة بالعباد، وجعل تحديد الشهر منوطا بأهل الحرمين الشريفين فلا خلاف ولا اختلاف.
لنتعلم من رمضان أدب الاختلاف، وأن نختلف بشكل حضاري، ولنجعل صدورنا أكثر رحابة لتقبله، ولنبتعد عن الإقصاء والإلغاء.
وسوم: العدد 773