الربيع العربي تحت المَجْهر 5
الحلقة الخامسة
لماذا يعادي الغربيون الإخوان المسلمين ؟
لا شكّ أن هذا السؤال الكبير يساهم في تسليط الضوء على أسباب التكالب الدولي على الربيع العربي بحكم أن الإخوان المسلمين هم الفصيل الأكثر امتدادا في تشكيلة سواء من الناحية الأفقية أو الرأسية بحكم تواجدهم القوي في كل بلد من تلك البلدان التي احتضنت الثورات، وسنحاول إيجاز الإجابة عنه من خلال النقاط الآتية:
1- اتسام حركتهم بالفكر الوسطي والتنظيم الدقيق:
يحمل الإخوان المسلمون فكرا وسطيا معتدلا يجمع بين أصالة الثوابت وعصرانية المتغيرات، وتتسم حركتهم بالديناميكية المؤثرة والفاعلية القوية، والتي مكنتهم من اكتساب قواعد عريضة في وسط الصفوة والنخبة وإن لم ينجحوا بذات القدر بعد في امتلاك مقاليد الجماهير وعامة الناس، حيث يمتلكون حضورا عميقا وسط الأطباء والمهندسين والمحامين وأساتذة الجامعات والمدرسين والطلاب، ثم إنهم في تقدم دائم رغم الضربات الموجعة التي يتلقونها بين حين وآخر، من قبل الأنظمة الحاكمة والمتحالفة مع النخب العلمانية من الليبراليين واليساريين بل وحتى مجاميع عريضة من الإسلاميين التقليديين الممثلين بالصوفيين وخريجي الجامعات التأريخية كالأزهر والزيتونة والقرويين، نتيجة تنظيمهم الدقيق ومصابرتهم القوية، بجانب أنهم شديدو التماسك ولا ينجروا للفتن والخلافات ولا يسهل استفزازهم للرد بالعنف على العنف الممارس حقهم، كما يحدث الآن في مصر مثلاً، حيث لم يردوا بالعنف على العسكر الذين انقلبوا عليهم رغم انتخابهم من الشعب في انتخابات حرة نزيهة بشهادة العالم، ورغم العنف الشديد ضدهم حيث سيق ما يزيد عن ثلاثين ألف إلى السجون وعامتهم من الأطباء والمهندسين والمحامين وأساتذة الجامعات، وحوكم الآلاف بطريقة هزلية وحكم على المئات بأحكام تعسفية شديدة وصلت إلى حد الإعدام، وفُصل عشرات الآلاف من وظائفهم ولم تصدر منهم حادثة عنف واحدة ! وباختصار فإنهم يمتلكون الوصفة التي يمكن أن توقظ المارد الجبار الذي نام طويلاً، إذ بحسب سنة المداولة فإن هذا المارد يحاول الآن الاستيقاظ ليعيد الأمة المسلمة إلى خارطة الفاعلية وصناعة التوازن الدولي.
وفي هذا السياق فإنهم يمتلكون مئات المفكرين الذي أغنوا المكتبة الإسلامية بكتبهم ودراساتهم الشاملة والتي ساعدت في تشذيب التدين وترقية الفهم، وفي توسيع مدارك الفكر ومساحات الوعي، ومهما قيل عن النواقص وأوجه القصور في هذه المدرسة فإنها تظل النموذج الأقل عرضة لآثار التخلف التي تسكن في أعماق المجتمعات الإسلامية، والأكثر إشراقاً والأقرب إلى المثال المطلوب والنموج المنشود.
2 - امتلاك القدرة على صهر كافة التباينات في بوتقة الاتلاف والوحدة:
يعيش المجتمع العربي واحدة من أسوأ العهود في تأريخه الطويل، حيث يمتلئ بكل أسباب الكراهية والتشظي حتى أن رئيس الوزراء الأردني الأسبق سعد جمعة قد اندفع إلى تسجيل وثيقة احتجاج على هذه الظاهرة في كتابه المعروف(مجتمع الكراهية)، حيث شرح هذه الظاهرة وسجل مئات الأمثلة للأنظمة والمنظمات والأحزاب والجماعات التي تكره بعضها وتحارب بعضها، وما تزال مظاهر هذا التمزق بادية للعيان في كافة التيارات الفكرية والسياسية العربية في هذا العصر، من طائفية ومذهبية وقومية وقبلية ومناطقية وحزبية.
ورغم أن الإخوان المسلمين لم يكونوا نموذجاً مثاليا للائتلاف والتوحد، لكنهم ظلوا استثناء مقارنة بغيرهم، فهم الأكثر تماسكا وتآلفا والأقوى وحدة ومتانةً ليس على مستوى كل قطر على حدة ولكن على مستوى كل الأقطار، مما يجعلهم في نظر الغرب القالب المثالي الممكن لتحقيق وحدة أوطانهم المعرضة لأخطار التجزئة، وإنجاز وحدة أمتهم التي أصبحت خرافة عند التيارات العلمانية أو شعاراً أجوف عند التيارات التقليدية التي تنخرها الانقسامات الصغيرة مع كونها ترفع راية الوحدة وتدعو إلى إعادة الخلافة الإسلامية!
إن الاستعمار الغربي يخشى من وحدة المسلمين أشد الخشية كما يتضح من تصريحات أعلامهم وكتابات مفكريهم، وفلتات ألسنة سياسييهم، والاخوان المسلمون هم التيار الأقدر على تحقيق هذه الوحدة، وقد حققوا ذلك في أنفسهم من خلال ما كان يسمى بالتنظيم العالمي للإخوان المسلمين، بل إنهم قد نجحوا في نقل اهتمامات كثير من المسلمين من أوطانهم إلى أمتهم عامة، حيث جَرّوا الجماهير إلى مربع الاهتمام بالأمة ذات الجسد الواحد من إندونيسيا إلى المغرب ومن سيبيريا إلى جنوب إفريقيا، وذلك من خلال إحياء مفهوم الأمة كما ورد في الأدبيات الإسلامية وإيقاظ حس التضامن مع الشعوب والأقليات المسلمة التي تعرضت للحرب كما حدث في أفغانستان والشيشان والبوسنة والهرسك وبورما وفلسطين.
3 - الدور التأريخي المعادي للاستعمار والصهيونية:
من يقرأ تأريخ الإخوان المسلمين يجد أن لهم تأريخا مشرفا في مقارعة الاستعمار ومواجهة الصهيونية في المنطقة العربية والعالم الاسلامي عامة، ولو أخذنا دور الإخوان المسلمين المصريين في نهاية الأربعينات من القرن المنصرم كمثال لوجدنا الكثير من المواقف التي جعلت الغربيين يَعُدّون الإخوان عدوهم الاستراتيجي في البلدان الإسلامية!
ولقد تسلطت مجاهر الغرب على هذه الحركة ووُضعت تحت الدراسة والبحث وتحت سكاكين التشريح، منذ الدور الذي لعبته في سنة 1948 في فلسطين، فبعد أن أعلن الصهاينة عن قيام كيانهم اللقيط تداعى الإخوان المسلمون لإرسال متطوعيهم للجهاد في فلسطين، وكان حسن البنا قد أرسل من مصر وحدها عشرة ألف شاب للجهاد غير الذين جاؤوا من بلدان أخرى وعلى رأسها سوريا والأردن ولبنان، وقد ثبت أنهم أذاقوا اليهود المرارات وجرعوهم الويلات، في ذات الوقت الذي كانت فيه الجيوش النظامية تندحر وتتقهقر أمام عصابات اليهود وتصنع بخياناتها أسطورة (جيش إسرائيل الذي لا يُقهر)!
وفي ذات الوقت كان شباب آخرون من الاخوان يستعدون عبر ما سموه ب(النظام الخاص) من أجل مواجهة الإنجليز في بلادهم وقد ثبت أنهم كانوا شوكة في حلق الاستعمار البريطاني ونشروا ثقافة المقاومة والجهاد، وقاموا بأدوار بطولية في حرب العصابات التي تمت في قناة السويس، ولعبوا الدور الأساسي في تأسيس تنظيم الضباط الإخوان والذي نجح جمال عبدالناصر في إقناعهم بأن يسميه بتنظيم الضباط الأحرار، مما دفع بالإنجليز في الأخير إلى الرضوخ والرحيل، ولكنهم كانوا يحملون حقدا شديدا على الوطنيين المصريين وعلى رأسهم الإخوان الذين لم يواجهوهم في مصر فقط بل في فلسطين وفي غيرها من المستعمرات، وكان حسن البنا قد عرض على ثوار سوريا والجزائر إرسال كتائب من متطوعي حركته للقتال بجانب الثوار هناك، وفي ذات الزمن وبالتحديد في فبراير 1948 نجح الإخوان في إقناع الأحرار اليمنيين بالثورة على النظام الإمامي الكهنوتي بعد أن فشلت كل الجهود في إصلاحه من الداخل، حتى أن فشل الثورة الدستورية في اليمن جر على الإخوان تداعيات سلبية عديدة مما اضطر حسن البنا إلى إصدار بيان طويل بهذا الشأن يتكون من قرابة الخمسين صفحة! وكان المركز العام للإخوان المسلمين في القاهرة في تلك الفترة يستقطب كل دعاة الثورة والاستقلال من كل البلدان العربية، وهناك مذكرات لكثير ممن عاشوا تلك الفترة يؤكدون على سبيل المثال أن الحبيب بورقيبة التونسي ومحمد محمود الزبيري اليمني والفضيل الورتلاني الجزائري وفي ما بعد ياسر عرفات الفلسطيني، وأضرابهم من قادة الثورات قد خرجوا من مشكاة الاخوان المسلمين. ومن المعروف أن الغربيين يبنون سياساتهم على معلومات دقيقة تقوم بها مراكز الدراسات والأبحاث المتخصصة وأجهزة الاستخبارات، ولا يجهل هؤلاء أن تنظيم الضباط الأحرار في مصر هو فكرة إخوانية وأن حركة فتح الفلسطينية قد خرجت من رحم حركة الإخوان، وعندما نجحت جهود الزعماء العرب والغربيين في إبعادها عن خط الجهاد جاءت حركة حماس التي نشأت في أحضان الإخوان المسلمين، هذا بجانب أنهم كانوا حاضرين في كل الأدوار الجهادية المشرفة التي خاضتها الأمة في هذا الزمان
4 - الصورة الشوهاء للإخوان المسلمين في الغرب:
تحمل مجاميع من الغربيين صورة قاتمة عن حركة الإخوان المسلمين، وهذه الصورة ثمرة لعدد من العوامل، وأهمها في رأيي:
- الصورة النمطية السيئة الموروثة عن الإسلام والمسلمين:
تسكن العقل الغربي منذ عصور الحروب الصليبية وما قبلها صورة نمطية قاتمة عن الإسلام، فقد حاول البابوات حماية شباب أوروبا من الغزو الثقافي الإسلامي الذين كان يندفع من بلاد الأندلس وجزائر البحر المتوسط نتيجة الفارق الحضاري الكبير بين الطرفين، فتعاقدوا مع عدد من علمائهم لتأليف كتب ودراسات تقدم صورة نكراء عن الإسلام والمسلمين، وتعززت هذه الصورة على يد المستشرقين الذين كانوا طلائع الحروب الصليبية والاستعمار الحديث الذي اكتسح بلدان المسلمين ولم تسلم منه إلا ثلاث بلدان إسلامية!
هذه الصورة الشوهاء تزداد قتامتها عندما يتعلق الأمر بحركة إسلامية تحاول إعادة المسلمين إلى أحضان دينهم وتحمل راية الجهاد ضد الغزاة المحتلين. وفي العصر الحديث لا توجد حركة تعرضت للدراسة والتشريح مثل حركة الإخوان المسلمين، فقد أُنجزت حولها مئات الدراسات في الثمانينات وحدها في كل البلدان الغربية، ويمكن العودة على سبيل المثال إلى كتابي المفكر الأردني د. زياد أبو غنيمة:
(الإخوان المسلمون في كتابات الغربيين)، (عداء اليهود للحركة الإسلامية)، حيث رصد عشرات الكتب والدراسات والأبحاث الصادرة عن جهات غربية ومن إسرائيل ضد هذه الحركة، والتي تنسب لها كل قبيح في الفكر والفعل. - الدور الصهيوني:
وبجانب دور مراكز الأبحاث والدراسات في صناعة هذه الصورة القبيحة عن الإخوان المسلمين، هناك دور كبير للإعلام الغربي المعادي ولاسيما الصهيوني منه بشقيه اليهودي والمسيحي، فاليهود كما هو معلوم يسعون للايقاع بين الأمم وخاصة المسلمين والمسيحيين لكونهم أكبر أمتين في الأرض، وبسبب تحالف اليهود مع الغرب في العصر الحديث ولكونهم مسيطرين على كثير من مراكز صناعة القرار وصناعة الوعي والرأي العام في الغرب، فإنهم يعملون وفق خطط محكمة وأساليب علمية من أجل تسويد صورة المسلمين عامة والإخوان خاصة في العقل الغربي.
- تقارير أجهزة الاستخبارات:
من المعلوم أن كل بلدان الغرب تمتلك أجهزة استخبارت لا تنشغل بالتجسس على مواطنيها وإنما تسلط كل طاقاتها على من تعتقد أنهم أعداء لبلدانهم، وهي تضع الإخوان في صدارة هؤلاء الأعداء ولاسيما بعد سقوط الشيوعية، وزاد الطين بلة أن الاستخبارات الغربية تعتمد في كثير من الأحيان على تقارير مثيلاتها العربية والتي تعد الاخوان أكبر أعدائها ومشاغلها، وفي سياق جهودها لاجتذاب الأنظمة الغربية في معاركها لاستئصال الإخوان فإنها تعمد إلى الكذب وفي أحسن الأحوال تمارس التهويل، حيث تقدمهم كحركة نازية تعادي الغرب جملة وتفصيلاً، وتحمل راية الكراهية لكل ما يجيئ منه، وتمثل خطرا وجوديا على مصالح الغرب! - الأخطاء التي ارتكبها الإخوان في مختلف مراحلهم وبلدانهم: لا شك أن حركة الإخوان مثل كل الحركات لها صوابها وخطأها ولاسيما أنها تعمل في جو مسموم بالحرب عليها وموبوء بالتخلف، ومن ثم فقد كانت للإخوان أخطاء سواء كحركات إصلاحية معارضة أو عندما شاركوا بالحكم في بعض البلدان أو حكموا منفردين، كما حدث في السودان على سبيل المثال، فقد حُمِّلوا أخطاء التجربة النميرية في تطبيق أحكام الشريعة لأنهم كانوا مشاركين في الحكم، وحَمَّلوهم بالطبع كافة الأخطاء التي حدثت بعد ثورة الإنقاذ، متجاهلين الظروف الموضوعية، حيث تم تضخيم الأخطاء الموجودة بالفعل وتم افتعالها عندما لا توجد، بل إن الآلة الإعلامية الجبارة كفيلة بإحالة نقاط القوة إلى نقاط ضعف وتقديمها بصورة تعزز الصورة النمطية الشوهاء عن الإسلام والإسلاميين كما حدث بالنسبة للتجربة التركية التي قدمت نموذجا ممتازا في تحقيق النجاح الاقتصادي والاستقرار السياسي والانسجام الاجتماعي والتطور الثقافي والتقدم الحضاري الشامل، ومع ذلك لم تسلم من الدّس والتشويه، بل إنني أجزم بأن نجاح النموذج التركي أذكى العداء للإخوان المسلمين في دوائر الغربيين ومَثَّل عاملاً إضافياً مهماً من عوامل العداء الغربي المزمن ضد المسلمين ، حيث تأكد الغربيون أنه لولا خيانات الانظمة العربية لنهضت الشعوب العربية في أوقات قياسية، حيث تمتلك الكثير من شروط التقدم ولا سيما في الجانب النظري والفكري. لهذه الأسباب وغيرها فإن الغرب يحمل عداء مستحكما ضد الإخوان المسلمين وإن لم يصرحوا بذلك في كثير من الأحيان، حتى لا يزيد التحام الشعوب العربية بهذه الحركة، وقد زاد هذا العداء بعد نجاح الربيع العربي في إسقاط عدد من الحكومات والأنظمة التي تربت على عين الغرب وكانت حارسا أمينا لثقافته ومصالحه، حيث اتضح أن هذه الحركة كانت العمود الفقري لهذه الثورات، ولذلك فقد حصدت أصوات الجماهير، وبدأ حلم الحرية بالتحقق بينما يلوح في الأفق حلم الوحدة بعد نجاح فصائل عديدة ذات منهل واحد في الوصول إلى الحكم، ولو تركت تتحرك بحرية فلربما حققت الوحدة التي تمثل كابوسا للدوائر الاستعمارية في الغرب، سواء كانت الوحدة الوطنية داخل كل بلد كما حدث من حركة النهضة في تونس وإصلاح اليمن من تقديم تنازلات كبيرة من أجل تحقيق تلك الوحدة، أو الوحدة القومية على مستوى الوطن العربي، أو الإسلامية على مستوى الأمة كلها.
ولهذا فقد تم التآمر على الربيع العربي برمته وفي القلب منه حركة الإخوان المسلمين التي رماها أعداء الداخل والخارج عن قوس واحدة.
وسوم: العدد 774