الربيع العربي تحت المَجْهر 4

الحلقة الرابعة

كيف نجَحَت الثورات المضادة في عرقلة ثورات الربيع؟

من المؤكد أن هناك جملة من العوامل المسؤولة عما لحق بالربيع العربي من انتكاسات بعد نجاحاته السريعة والمدوية، ولا شك أن هناك عوامل جزئية مختلفة وتحتاج إلى مراجعات داخل كل بلد على حدة، إذ أن ما حدث في مصر ليس هو نفسه ما حدث في الجارة ليبيا، وما حدث في اليمن ليس هو ذات ما حدث في تونس أو سوريا، لكن التمعن في الأحداث وتحليل الوقائع يقود إلى ملاحظة عدد من العوامل المشتركة بين سائر بلدان الربيع العربي، ويمكن إبراز أهمها في النقاط الآتية

أولاً: امتلاك الربيع العربي لإرادة النهوض الحضاري:

اندلعت ثورات الربيع العربي من قلب المعاناة التي تعانيها شعوب المنطقة، وانبعثت من دوامات المعاناة على كل الصعد الثقافية والمادية، حيث

: 1- التغريب الجارف والتبعية المقيتة والتي جعلت حكايات الاستقلال أقرب إلى النكتة السمجة، بعد أن تحقق للغرب في بلدان العرب ما لم يتحقق لهم أيام الاستعمار المباشر، وبدون أي خسائر بشرية أو مسؤولية مادية. 2 - استبداد سياسي ضرب بجذوره في أعماق الشعوب، حيث لا مؤسسات تحكم ولا مراكز تصنع القرار ولا مجالس تُستشار، وإنما تكريس لسلطة الفرعون الجبار والفرد السوبرمان الذي يعرف كل شيئ، ويستطيع أن يعمل أي شيئ، ولا يصح أن يعارضه أي أحد، ومن ثم لا مجال لانتقال السلطة إلا عبر قبضة عزرائيل أو عبر انقلاب عسكري!

3 - فساد اقتصادي ومالي قضى على الطبقة الوسطى وجعل الفقراء أشد فقرا والأغنياء أكثر غنى، حيث استأثرت قلة من الفاسدين بثروات الشعوب بدون أي مُسوّغ سوى اقترابهم من الفرعون الذي يقف على قمة هرم السلطة، سواء كان القرب عشائريا أو حزبيا أو مناطقيا أو حتى مذهبيا وطائفياً، مع اختلاف في التفاصيل من بلد إلى آخر .

4 - تحلّل اجتماعي وأخلاقي أدى إلى تخريب شبكة المجتمع وانقلاب الهرم الاجتماعي، حيث صعد الكذابون والغشاشون إلى مراكز التربية والتوجيه ومؤسسات الإنتاج والمال، واستُبعد الصادقون والأمناء والمخلصون، وحيث استُؤمن الخائنون وخُوِّن الأمناء، مما أدى إلى تقطُّع الأواصر وتمزُّق العلائق، وجعل المجتمع أشبه بتجمع لأعداد من المتناقضين والأضداد، حيث ملأت الكراهيةُ القلوب، وانعدم الولاء الوطني وصار الولاء لدوائر محلية ضيقة أو لجهات خارجية، وبالجملة فإن المجتمعات قد فقدت مناعتها وصارت عرضة لكل العلل والآفات التي وجدت لها بيئة خصبة في هذه المجتمعات.

هذه البيئة الفاسدة هي التي تسببت في ولادة ثورات الربيع العربي، حيث سعى الثوار للقضاء على هذه الآفات التي أفقدت بلدانهم هُويتها واستقلالها، وانتزعت منها حريتها وكرامتها، وأورثتها الفقر والجهل والمرض وكل مفردات التخلف بمعناه العريض، وجعلت شعوبهم بدون فاعلية كأنها غثاء السيل. لقد أراد ثوار الربيع العربي تحقيق الاستقلال الحقيقي لبلدانهم، وهذا واضح من أدبيات كثير منهم حتى قبل الثورة، واتضح أكثر بعد وصول بعضهم إلى السلطة، ففي مصر مثلا ورغم ضخامة التحديات وعدم وجود الإخوان المسلمين وسط الدولة العميقة بأي مقدار، إلا أنهم خلال عام من تسلم مرسي للرئاسة عملوا على تحرير القرار المصري من التبعية الأجنبية وأوقفوا الاتصالات بالاسرائيليين والتي توجبها معاهدة كامب ديفيد، وأمروا بدخول الجيش إلى سيناء بأعداد أكبر وبأسلحة نوعية لا تسمح بها هذه المعاهدة التي انتزعت مصر من الصف العربي. وتمت زراعة أكثر من خمسمائة ألف فدان بالقمح وهو السلعة الاستراتيجية التي يحرص الغرب على أن يتحكم بها مقابل امتلاك العرب لورقة النفط، وحاول مد حبال الأخوة إلى جميع البلدان الإسلامية والتمهيد لإقامة تحالف بين أكبر الدول الإسلامية، حيث زار مرسي السعودية وإيران وباكستان وغيرها، وحاول تحسين أداء الاقتصاد المصري رغم التركة الثقيلة وحدّ من القروض إلا للضرورة القصوى وبشروط ميسرة، ورفع رواتب الموظفين وضاعف الحد الأدنى للرواتب، وعمل على إيجاد تأمين صحي لجميع المصريين، وغير ذلك من السياسات التي هدفت لتجسيد الاستقلال المصري، وتوسيع مساحات الحريات والحقوق، وتحسين الخدمات، وتحقيق استقلالية القضاء، ورفع الإنتاج وزيادة الصادرات، وتعزيز الهوية المصرية ببعديها العروبي والإسلامي، بحانب مد جسور التعاون مع كافة دول العالم ولاسيما في الدائرة الإفريقية التي تنتمي إليها مصر من الناحية الجغرافية

. وجملة القول: إن امتلاك ثورات الربيع العربي لإرادة تغيير حضاري متكامل، قد ايتفز الأعداء حتى لو لم تمتلك هذه الإرادة ما تستحقه من إدارة نتيجة قلة الخبرات وعدم إعطائهم الفرصة الكافية، لقد دفعت تلك الإرادة الأعداء في الداخل والخارج للتكتل والتحالف والتعاون من أجل إسقاط هذه الثورات وسجن الثوار، وهذا يقودنا إلى العامل الثاني.

ثانياً: تدخل الغرب عبر عملائه ضد الثورات:

من يقرأ ما كتبه صُناع الاستراتيجيات الغربيون يجد أنهم يتكلمون كثيرا عن صراع الثقافات وصدام الحضارات، وأنهم يعيدون الرّفاه الذي تعيشه الشعوب الغربية إلى السياسات الاستغلالية التي تقوم بها حكومات الغرب ضد شعوب العالم المختلفة، ويحذر هؤلاء دوماً من أي تغيير في الخارطة العالمية ويؤكدون أن استمرار التقدم الغربي رهين ببقاء الشعوب الأخرى في تخلفها، بحيث تبقى ثرواتها الطبيعية موادا أولية رخيصة للصناعات الغربية، وتبقى شعوبها مستهلكة لمنتجات الغرب، وتبقى كوادرها البشرية أداة رخيصة لإذكاء الإنتاج الغربي الضخم.

وترفع الاستراتيجية الاستعمارية الغربية راية العداء لكل الأمم والشعوب غير البيضاء، لكنهم عندما يُرتبون هؤلاء الأعداء فإنهم يجعلون المسلمين هم العدو الأكبر والأخطر، وذلك لأسباب موضوعية وذاتية، ومن خلال قراءة بعض ما يكتبونه يبدو لي أن أهمها تتلخص في مجموعتين من الأسباب: الأولى: أسباب ثقافية وتأريخية:

لقد حمل كثير من الغربيين راية العداء للإسلام والمسلمين، بحكم أن الإسلام جاء بعد المسيحية ببضعة قرون، واستطاع أن يسحب البساط من تحت أقدام المسيحية وأن ينقل شعوبا كثيرة في الشام ومصر وآسيا الصغرى وشمال إفريقيا إلى الإسلام بعد أن كانت شعوبا مسيحية، بجانب أن الإسلام قضى على الإمبراطورية البيزنطية وانتزع عاصمتها القسطنطينية منها إلى الأبد، ثم تمدّد المسلمون في جنوب غرب أوروبا أيام الأمويين وفي شرق قارة أوروبا أيام العثمانيين، حتى أن بلدانا بلقانية عديدة ظلت تحت السيطرة العثمانية لبضعة قرون بينما استمرت بلاد الأندلس بيد المسلمين لحوالي ثمانية قرون، ولم ينسَ هؤلاء أن جيوش العثمانيين كانت في يوم من الأيام تحاصر فيينا وأنها كانت قد توغلت في جنوب إيطاليا في طريقها لفتح روما! وقد ورث الغربيون صورة مشوهة عن الإسلام، فهو في نظرهم دين الكراهية والقتال، ويبيح لأبنائه الدعة والبطالة والانغماس في اللهو والجنس، وزعموا أنه لا يحضهم على مكارم الأخلاق ولا يدفعهم نحو معالي الشِّيم، وأنه يبيح لأتباعه سلب أموال الآخرين وسبي نساء الأمم المغايرة إن لم يعتنقوا الإسلام ! وبجانب ذلك فإنه، أي الإسلام، في نظر كثير من الغربيين لا يحترم الحريات والحقوق، ولا يهتم بالعلم والفكر، ولا يمكن أن يتعايش مع الديمقراطية، ومن ثم فإنه لا يستطيع التوائم مع التقدم ولا العيش في هذا العصر، بمعنى أنه خطر ماحق على الحضارة الغربية، وأن أبناءه يَتَّسمون بالهمجية ولا يمكن أن يعيشوا إلا في أعماق التخلف وغياهب الماضي!

ومن هنا فإن هؤلاء الغربيين الذين يعتقدون أن ثقافتهم هي مقياس التحضر والتقدم، لا يمكن أن يبقوا مكتوفي الأيدي أمام أمة يعتقدون أنها تهدد الحضارة وتهدف إلى غزو العالم ما وجدت إلى ذلك سبيلا، بجانب حضور البعد الثأري نتيجة هزائمهم التأريخية، فاليهود عندما دخلوا القدس كانوا يرددون: يا لثارات خيبر، والفرنسيون عندما دخلوا دمشق قالوا: ها قد عدنا يا صلاح الدين، والإنجليز عندما دخلوا بيت المقدس صاح قائدهم اللنبي: الآن انتهت الحروب الصليبية، والفرنسيون عندما دخلوا الجزائر قالوا: انتصر الصليب على الهلال، والإنجليز عندما احتلوا مصر قال قائلهم: انتصر الإنجيل على القرآن، وكذلك فعل الصربيون عندما دخلوا العاصمة البوسنية سراييفو، فقد أعلن أحد قادتهم أنهم ثأروا لمعركة بلغراد التي انهزموا فيها أمام الجيش العثماني قبل بضعة قرون!

الثانية: أسباب جغرافية:

فالعالم الإسلامي تمتد حدوده مع معظم العالم المسيحي القديم، حيث تبدأ هذه الحدود من سيبيريا في القطب المتجمد الشمالي وتمر عبر وسط آسيا والقوقاز إلى الأناضول والبحر المتوسط، وصولا إلى غرب إفريقيا حيث يفصل مضيق جبل طارق بين المغرب الإسلامي وأسبانيا المسيحية.

وفي هذا الإطار فإن بعض صُناع الاستراتيجية الغربية يرون أن من يملك البحر المتوسط يملك العالم، ومع أن الغربيين الآن يقعون في شمال هذا البحر والمسلمين في جنوبه، إلا أن السيطرة الحقيقية الكاملة هي للغربيين حتى يمكننا القول بأن البحر المتوسط بحيرة غربية بامتياز، وذلك بسبب تبعية الأنظمة الحاكمة في جنوب البحر لمثيلاتها في شماله، وبسب الأساطيل الغربية التي تمخر عباب البحر بدون منافس، بجانب وجود قواعد أمريكية وفرنسية في بعض دول جنوبي المتوسط!

بل ذهب بعض هؤلاء إلى أن ضفتي البحر المتوسط ككفتي الميزان، وأن أي تقدم في جنوب البحر سيكون بالضرورة على حساب البلدان التي تقع شماله، ولذلك فإن الأنظمة الغربية تحول دون أي تمكين للديمقراطية في البلدان العربية ومنع أي إمكانية للتوحد بين بلدان العرب والمسلمين! فكيف إذن لا يقف الغرب بكل دهائه وأسلحته وإمكاناته ضد الربيع العربي وهو الذي جاء من أجل تحرير الشعوب من أنظمة الاستبداد وتمكينها من حكم نفسها بنفسها؟! مع ما سيحققه ذلك من استقرار يوفر الأرضية المناسبة للاقلاع الحضاري، وما يتطلب ذلك من إطلاق ثورة ثقافية، وتحقيق نهضة اقتصادية، وإنجاز تنمية اجتماعية، وتحقيق تقدم أكيد في كافة العلوم والفنون والآداب، ومن تجهيز منظومة من الأخلاق والقيم والقوانين التي تكفل حرية الأفراد ووحدة المجتمعات؟!

ثالثاً: عدم انسجام فصائل الربيع العربي مع بعضها:

مع اختلاف الخارطة السياسية نسبيا في بلدان الربيع العربي، لكن الملاحظ أن الثورات كانت عامة، حيث اشترك فيها مستقلون وحزبيون من كل التيارات الليبرالية واليسارية والقومية والإسلامية بمختلف اتجاهاتها التقليدية والوسطية والثورية. ولا شك أن هذه الفصائل هي بنت الواقع العربي المتخلف الذي يمتلئ بأسباب الصراع ويكتض بعوامل التآكل، حيث يملك كل تيار رؤية تحتكر الحقيقة المطلقة وتُسفِّه كل من عداها، ومن ثم فإن هذه الفصائل والقوى تمتلك تراثاً كبيرا من الصراع وإرثاً ضخماً من الثارات، وقد كان تَجمُّعها ضد الأنظمة الحاكمة في لحظة تأريخية نادرة يمكن اعتبارها ليلة القدر بالنسبة لهذه الشعوب المصابة بنُخَبها، ولم يكن ذلك الاتحاد نتيجة لوعي فكري أو ثمرة لثورة ثقافية على مخلفات الاستبعاد وتراث الاحتكار، لقد كانت تلك الثورة ردة فعل على كثرة المظالم وشدة الضغوط التي أدت إلى ذلك الانفجار، وعندما سقطت أصنام الفراعنة سرعان ما تذَكّر أغلب الثوار ثاراتهم واستعادوا خلافاتهم، مما أوجد ثقوبا عريضة في جدران الثورات، لتتمكن رياح السموم التي أطلقتها الثورات المضادة من النفاذ إلى الداخل، حيث استثمرت القابلية للتفرق في التحريش بين فصائل الثوار، وتم استخدام عيدان الأخطاء كحطب في إشعال الخلافات وإيقاد العداوات، كما ذكرنا سابقاً.

والغريب أن بعض الفصائل كانت تجتر خلافاتها حتى وهي تواجه العدو المشترك الذي نهضت لمواجهته، والنموذج السوري أسوأ مثال في هذا المضمار، حيث ظهرت عشرات الفصائل المختلفة والجماعات المتباينة، ووصلت المواجهات إلى حد الاقتتال في الوقت الذي كانت مليشيات النصيريين والشيعة القادمة من عدد من البلدان بجانب جيوش سوريا وإيران وروسيا، كلها تدار من غرفة حرب واحدة ويرمون الثوار عن قوس واحدة !

ثالثاً: دور حركة الإخوان المسلمين في هذه الثورات:

رغم مشاركة جميع التيارات في ثورات الربيع العربي بما فيها بعض الفصائل السلفية التي كانت ترى أن منافسة الحاكم في أي انتخابات إنما هي خروج غير مشروع على ولي الأمر، إلا أن أحداث الثورات وما وقع بعد نجاحها من انعطافات، قد أظهر بجلاء أن التيار الإسلامي الوسطي والمحسوب على حركة الإخوان المسلمين هو الذي لعب الدور الأهم وصار المستفيد الأكبر من هذه الثورات، فقد اكتسح الانتخابات في تونس ومصر ولعب دورا محوريا في اليمن وليبيا، وانتقلت أصداء هذه النجاحات إلى بلدان عربية وإسلامية أخرى، كالمغرب الذي احتل الإسلاميون المركز الأول في انتخاباته التشريعية مرتين، وإندونيسيا التي احتلوا فيها المركز الثاني، وكانوا من قبل قد اكتسحوا الانتخابات في عدد آخر من البلدان أهمها تركيا وفلسطين! وبقدر ما كانت مشاركة الإخوان مصدر قوة ونجاح لثورات الربيع العربي، فقد تحولت في ما بعد إلى نقطة ضعف عندما استجمعت الدول العميقة أنفاسها وقواها بدعم لا محدود من الغرب ومن الأنظمة العربية التي لم تسقط. فلقد نجح الإعلام المعادي منذ عقود في إثارة المخاوف من الإخوان المسلمين في ظل غياب إعلامي مطبق لهم، حتى أصبح كثير من العلمانيين يعتقدون أن الإخوان لا يؤمنون بالديمقراطية إلا لمرة واحدة أي حتى يصلوا إلى كراسي الحكم، وأنهم بعدها لن يسمحوا بأي انتخابات وأنهم سيكسرون صناديق الاقتراع ويعلنون الزواج الأبدي من السلطة على الطريقة الكاثوليكية!

ولعب الغرب دورا كبيرا في تربية النخب العلمانية العربية على هذه القناعة، وفي تعبئة الجماهير ضد الإخوان المسلمين، ولذلك فإننا نسأل في هذا المقام سؤالا مهماً وهو:

لماذا كل هذا العداء الغربي للإخوان المسلمين ؟

وسنحاول الإجابة عن هذا السؤال في الحلقة القادمة بإذن الله تعالى حتى تكتمل الرؤية وتتضح الصورة.

وسوم: العدد 774