في ذكرى فيصل الحسيني-العظماء لا يموتون
عندما نستذكر فيصل الحسيني فهذا يعني أنّ علينا الاستفادة من تاريخ هذا الرّجل الذي أحبّ وطنه وشعبه، وبادلوه حبّا بحب. ففيصل الحسيني درس تاريخ من سبقوه واستفاد منه بأن جعل شعبه ملاذه الأوّل والأخير، فالرّاحل الذي استحق بجدارة لقب أمير القدس، خدم مدينته وشعبه بكل ما أوتي من قوّة، وواضح أنّ فيصل الحسيني قد أدرك القوّة الكامنة في الشّعب، فنذر نفسه لخدمة شعبه ووطنه، رمى نفسه في أحضان شعبه، وما خاب ظنّه، فقد التفّ الشّعب حوله، وشكّل له سياجا يحميه، فهل استفاد فيصل الحسيني من تجربة والده الشّهيد الذي رأى أنّ الثورة تنبت في أحضان الشّعب، وآمن بمقولة "اخدم شعبك يحميك"؟ وهكذا فإنّ الشّعب هو من أطلق على فيصل "أمير القدس"، لأنّه رأى فيه القائد الذي يؤثر مصالح وطنه وشعبه على ما دونهما.
لقد نذر فيصل الحسيني نفسه لخدمة مدينته القدس، وخدمة مواطنيها، فكنت تراه في المناسبات جميعها، تراه في أفراح المدينة وأتراحها، لم يتعال على مواطنيه، بل كان واحدا منهم، مع أنّه كان الصدر الحنون لمن حلّت به ضائقة، حتّى ظنّ البعض أنّه قادر على حلّ كلّ الأمور المستعصية، وكان شديد الحرص على وحدة الشعب وعلى الأمن الاجتماعيّ، فما أن تحدث مشكلة ما إلا وتجده قد سارع إلى حلّها، كي لا تتطوّر إلى ما هو أبعد من ذلك، لم يكن ينتظر أنّ تأتيه شكاوي المواطنين إلى مكتبه أو إلى بيته الذي كان مفتوحا للجميع، بل كان هو من يبادر إلى تلمّس مشاكل وهموم النّاس، ويسارع الى احتوائها وحلّها، فالرّجل لم يكن "مناضل" مكاتب، بل كان فارس ميدان.
ومن شدّة قرب الراحل فيصل الحسيني من شعبه، فقد اعتبره الجميع صديقا لهم، أذكر قبل وفاته ببضعة أيّام، أنّه حضر لقاء تكريميّا أقامه اتّحاد المعلّمين في نادي القدس لتكريم بعض المعلمين المتقاعدين، فجاء مرهقا في نهاية يوم عمل، فتحدّث ضاحكا عن ذلك الشّخص الذي واصل الاتّصال بمكتبه طالبا الحديث معه لأمر هامّ، فقطع اجتماعا له بعد أن أخبرته السّكرتيرة بكثرة اتّصال ذلك الشخص من احدى قرى شمال غرب القدس، ولما ردّ عليه قال المتصل:
أبو العبد؟
فأجاب الفيصل: نعم أنا أبو العبد.
فضحك الرّجل مطوّلا وهو يقول: وأنا أبو العبد أيضا.
وردّ الفيصل: ماذا استطيع أن أخدمك ومن أنت؟
فأجاب الرّجل أنا أبو العبد رأيتك من نافذة القاعة في اجتماع في جمعية قريتنا، وابتسمت لي، وانا مشتاق إليك وأريد الاطمئنان على صحّتك.
فشكره فيصل الحسيني وعاد الى الاجتماع. وأنا أسوق هذه الحادثة كدلالة على أنّه حتّى البسطاء من عامّة النّاس اعتبروا فيصل الحسيني قريبا منهم مع أنّه لا يعرفهم شخصيّا.
ومن هنا فإنّ الوفاة الفجائيّة للرّاحل الحسيني كانت صادمة لكلّ من عرفوه، فبكاه شعبه وبكت القدس فراقه، حتّى أنّ شوارع وأسواق القدس غصّت بعشرات الأشخاص الذين جاؤوا لوداع قائدهم، ممّا اضطر الاحتلال أن يخلي المدينة المقدّسة من قوّاته؛ ليرفرف فيها علم فلسطين في وداع الرّاحل الكبير الذي دفن في رواق المسجد الأقصى بجوار والده الشّهيد، لكن الرّاحل الكبير الذي غادرنا جسدا، ترك ارثا نضاليا وانسانيّا سيكتب بماء الذّهب في تاريخ شعبه.
إنّ مسيرة فيصل الحسيني جديرة بالدّراسة، لاستخلاص العبر منها، فقد كان الرّحل مدرسة نضاليّة تستحق الدّراسة.
وسوم: العدد 775