عدت أيّها الشّقيّ

صباح الخامس من حزيران-يونيو- ٢٠١٨ أدخل عتبة عامي السبعين كما تقول شهادة ميلادي غير الدّقيقة، فعلى الأغلب  أنّني ولدت في الثلث الأوّل من شهر آذار-مارس- ١٩٤٩، فرواية والديّ –رحمهما الله- تقول أنّ شقيقي ابراهيم الذي يكبرني بأحد عشر شهرا قد ولد في ٨ نيسان –ابريل-١٩٤٨، وهذا التّاريخ مقرون في ذاكرتيهما باستشهاد البيك-عبدالقادر الحسيني.-

ما علينا فلم يعد هناك فرق لثلاثة أشهر ما دامت القدس قد أمضت واحدا وخمسين عاما تحت احتلال أهلك البشر والشّجر والحجر دون أن يدرك العربان عواقب ذلك، والله أعلم كم عدد السنين التي ستتوالى على القدس وهي تئن من ثقل بساطير الغزاة، الذين لن يختلف مصيرهم عن مصير سابقيهم الذين احتلوا الصّدارة في مزابل التّاريخ، وما المحتلون إلا كما قال الرّاحل درويش"عابرون في كلام عابر".

لكن الذي ما زال يحيّرني هو طبيب الصّحّة في القدس، الذي اصطحبني إليه المرحوم أبي، كي يقدّر تاريخ ميلادي لأدخل المدرسة وعمري ست سنوات، فلماذا اختار ذاك الطّبيب هذا التّاريخ تحديدا؟ فهل كان يعي أنّ هذا التاريخ باليوم والشّهر سيكون لاحقا لعنة على كلّ من يزعم أنّه عربيّ؟ أم أنّه جاء محض صدفة ليكون لعنة مزدوجة عليّ أنا دون غيري، ومع أنّني عشت في بيئة لا تنتبه لذكرى ميلاد أيّ من أبنائها، إلا أنّني لم أستطع الاحتفال بيوم مولدي الذي يأتي في ذكرى حرب حزيران-يونيو-١٩٦٧ وما تركته من نتائج كارثيّة على شعبي الفلسطينيّ وأمّتي التي كانت عربيّة، عدا عن وقوع أراض عربيّة وفي مقدّمتها القدس مجبولة بدماء الآباء والأجداد تحت احتلال بغيض.

لن  أبتعد كثيرا عن يوم مولدي، فها هي تسع وستّون حجّة من عمري قد طويت بما لها وما عليها، وما خلت نفسي يوما أنّني سأعيش كلّ هذه السّنوات، هذه السّنوات التي يراها الجيل الشّابّ طويلة، مع أنّها مرّت مرّ السّحاب لمن عاش بجرها وعجرها مثلي، فتأكّد لي من جديد أنّ الحياة مجرّد رحلة قصيرة شاقّة وممتعة. ومتعة الحياة لي أنّني أفنيت هذا العمر في جنّة السّماوات والأرض، أفنيته في القدس الشّريف التي لا يشبهها مكان آخر على هذه البسيطة. ومشقّة الحياة أنّني وأبناء شعبي عشنا ونعيش حياتنا كمعذّبي الأرض، في زمن عاهر ارتضى فيه الأقوياء أنّ يغتصبوا حقّنا الطّبيعيّ في الحياة الكريمة الحرّة على أرض وطننا، وأن يواصلوا طغيانهم بحرمان شعبنا من حقه في تقرير مصيره وإقامة دولته المستقلة بعاصمتها القدس الشّريف، وما كانوا ليفعلوا ذلك لولا ظلم ذوي القربى الذين ارتضوا الذّلّ والمهانة، وارتضوا أن يكونوا وكلاء لأعداء الأمّة التي استطابت الهزائم، ولا تدري أنّها تسير مختارة في طريقها إلى الفناء؛ ليكتب تاريخ قادم الأيّام أنّه كانت من ذلك المحيط إلى ذلك الخليج أمّة طواها التّاريخ فلحقت بعاد وثمود!

عشت ما مضى من سنوات عمري، عشتها بخيباتها وانكساراتها ونجاحاتها، وهذا ديدن الحياة التي تقوم على الصّراع، لكنّني أزعم أنّني عشتها بكرامة رغم المآسي الخاصّة والعامّة التي مرّت بي، فالاحتلال الذي حرمنا الحرّيّة ، لم يترك للفرح مكانا في قلوبنا، تسانده في ذلك قوى الشّرّ والطّغيان التي امتهنت كرامة أمّتنا بفضل كنوزها الاستراتيجيّة التي تتحكم برقابنا في المنطقة، ومع ذلك فإنّني على قناعة بأنّ"على هذه الأرض ما يستحق الحياة" وأنّنا شعب" يعشق الحياة ما استطاع إليها سبيلا".

وها أنا  أدخل عامي السّبعين لأكمل ما تبقى لي من عمر، وأنا على قناعة تامّة بأن ّ ليل الظّلم قصير وسيمحوه الفجر القادم لا محالة.

وسوم: العدد 775