خاطرة في منظور القيم ضمن الحلقة الأسبوعية مع د. إبراهيم الديب

المجمتعات بين قواعد البناء والهدم 17 

"إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ وَّٱلَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ" 128 سورة النحل

هذه الآية ختام سورة النحل، وحتى يمكننا فهم مغزاها فلا بد من إلقاء نظرة سريعة حول الموضوع الذي تدور حوله السورة.

سورة النحل وإن كانت سورة مكية إلا أنها تعالج قضية مدينة، ولعل ذلك من باب التمهيد والتعليم للإرتقاء بمدركات المسلمين حين انتقالهم إلى مجتمع المدينة.

سورة النحل تتحدث عن قيم بناء المجمتع الصالح أو ما يمكن أن نسميه المدينة الفاضلة - حلم أفلاطون-، فهي تتحدث عن قيم كلية حول في شتى مناحي بناء المجتمع، قيم أخلاقية - اقتصادية - جمالية - تشريعية -؛ قيم إيجابية وأخرى سلبية. 

- فهي تلفت أنظارنا إلى جماليات الخلق وإن كان بهيماً أعجمَ:

"وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6) وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (7) وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (8)".

ومن المعروف بداهة أن تفرغ الذهن للنظر في جماليات الوجود لا يكون إلا بعد الاستقرار، فليس هناك أدب ولا عمران لأمة لم تستقر. 

- كما تذكرنا بقيمة الحرية في أمثلة متتالية، يظهر من خلالها أنها أساس لا يمكن للحياة أن تقوم دون تحقيقه:

"ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (75) ...،،،،،".

- كما تسوق السورة في مواضع أخرى جوامع من القيم المشتركة بين المجتمعات البشرية: 

"إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90).

وفي خضم استعراض القيم الإيجابية تستعرض قيماً سلبية على سبيل التنبيه والتحذير: 

"وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112).

ومدار هلاك هذه القرية الكفر بنعمة الله، وذلك بسوء استخدامها في وجوه الإسراف والتبذير ... 

- وبناء المجمتع السليم يقوم على إنسان سليم، سوي العقل والتقدير،  منضبط الفكرة والتدبير، فضُرب مثال ذلك في ختام السورة، حيث تناولت السورة نبيَّ الله إبراهيم عليه السلام في جملة من القيم الإنسانية والإيمانية يصحّ بها بناء الوجود فرداً كان أو مجتمعاً.

"إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (121).

- وهكذا نجدنا أمام حزمة من القيم المجتمعية التي لا يقوم المجمتع ومن فيه إلا على ثوابتها، وهكذا تأتي الآية الخاتمة في هذا السياق الحكيم  الفكرة، المحكم التفصيل:

"إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ وَّٱلَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ".

والآية تشير إلى نوعي القيم السلبية والإيجابية.

1- القيم السلبية "ٱتَّقَواْ" 

الإتقاء يكون لدفع شر أو ضر، وهو وصف في غاية الروعة حيث يتعامل القرآن مع القيم السلبية بمنظور إيجابي، وليجعل حالة التفاءل هي الغالبة، وهو بهذا يدفع المجمتع نحو التعامل مع محاربة الشر ومواجهة الفساد إلى صورة إيجابية، وهذه عادة الإسلام في تقرير أحكامه، ومنه قوله تعالى: "وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ .... (179) سورة البقرة 

فقد تعامل مع القصاص الذي في حقيقته موت كأنه حياة، لأنه في الحقيقة يقضي على شبح الاعتداء والتهاوش بين الناس. 

وهكذا نجدنا أمام كلمة حكيمة تجعل المجتمع في مواجهة الفساد والعبث والشر مجتمعاً راقيا متحضراً، وهكذا وجّه الأنظار إلى الأثر الإيجابي الذي يترتب على هذا العمل. 

2- القيمة الإيجابية "مُّحْسِنُونَ"

الإحسان هو مظهر الاتقان في العلم والمعرفة والعمل والتعامل وكل وجوه التواصل، إحسان في العبادة وإحسان في الخُلُق وإحسان في الحرفة.

- "وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً" 83 البقرة

- عن شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ قَالَ: ثِنْتَانِ حَفِظْتُهُمَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَالَ: ( إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ ِ) رواه مسلم

- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ إِذَا أَنَا عَمِلْتُ بِهِ دَخَلْتُ الْجَنَّةَ , قَالَ : " كُنَّ مُحْسِنًا " , قَالَ : كَيْفَ أَعْلَمُ أَنِّي مُحْسِنٌ ؟ , قَالَ : " سَلْ جِيرَانَكَ ، فَإِنْ قَالُوا: إِنَّكَ مُحْسِنٌ فَأَنْتَ مُحْسِنٌ ، وَإِنَّ قَالُوا : إِنَّكَ مُسِيءٌ فَأَنْتَ مُسِيءٌ " . هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ ، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ.

- حَدَّثَنِي أَبِي كُلَيْبٍ أَنَّهُ شَهِدَ مَعَ أَبِيهِ جَنَازَةً شَهِدَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا غُلامٌ أَعْقِلُ وَأَفْهَمُ ، فَانْتَهَى بِالْجَنَازَةِ إِلَى الْقَبْرِ وَلَمْ يُمْكِنْ لَهَا ، قَالَ : فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : سَوُّوا لَحْدَ هَذَا حَتَّى ظَنَّ النَّاسُ أَنَّهُ سُنَّةٌ ، فَالْتَفَتَ إِلَيْهِمْ ، فَقَالَ : أَمَا إِنَّ هَذَا لا يَنْفَعُ الْمَيِّتَ وَلا يَضُرُّهُ ، وَلَكِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ مِنَ الْعَامِلِ إِذَا عَمِلَ أَنْ يُحْسِنَ)، أخرجه البيهقي في الشُّعب، 

ولستُ في صدد كتابة بحث أكاديمي حتى أكثر من الشواهد والأدلة، واستقصي البراهين والقرائن، ولكني أردتُ من وراء ذلك إيضاح مسألة مهمة وقضية أساس أنه لا ينبغي قصر مفهوم الإحسان على أداء العبادات، وإنما هو المفهوم العام الذي يشمل ويحيط كل مفردات الحياة، فالطبيب محسن في عمله، والمهندس محسن في عمله، والعامل في مصنعه بسيط في عمله، والجار مع جاره محسن في تعامله وأخلاقه. 

رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ  

وسوم: العدد 775