المواجهة مع الصنم والحرب على التمثال

حملوا المعاول وباشروا التحطيم. حرصوا على توثيق الفعلة بمشاهد مصوّرة دفعوا بها إلى العالم ليَرَى صنيعَهم. برّرت "داعش" ما أقدمت عليه في متحف الموصل (2015) بأنه امتثال لمسؤوليتها الشرعية في "تحطيم الأصنام". أثارت المشاهد فزعا عبر العالم الذي أبصر كنوزا أثرية من الحقبة الآشورية لا تُقدّر بثمن وهي تستحيل فتاتا متناثرا في برهة، رغم تقارير متضاربة عن أنها أو بعضها كانت نسخا مزيفة عن أصول محفوظة في أماكن آمنة.

لكنّ تمثاليْن ضخميْن منحوتيْن من جبال باميان الواقعة إلى الشمال الغربي من كابول، لم يكونا نسختيْن مقلدتيْن، فقد انتصبا صامتيْن في موضعهما هذا منذ القرن السادس الميلادي. ثارت قضية التمثاليْن فجأة، عندما قامت "الإمارة الإسلامية" بنسفهما في سنة 2001، وكأنّ تاريخ الإسلام في أفغانستان ظلّ بانتظار الألفية الميلادية الثالثة لتصفية حساب متراكم مع نحتٍ مُنزَوٍ بين الجبال.

ذرائع مفتعلة من باميان إلى الموصل

تمّ تبرير تفجير باميان بدوافع "شرعية إسلامية"، لكنّ حجّة "طالبان" بدت واهية للغاية، فما أقدمت على نسف التمثاليْن اللذيْن أُدرجا لاحقاً (2003) على لائحة التراث العالمي لليونيسكو؛ إلا عندما اندلعت أزمتها مع الولايات المتحدة والدول الغربية. حمَل النسفُ رسالة إغاظة إلى المجتمع الدولي بقيادته الغربية، وأفصح عن قنوط واضطراب وتشنّج، رغم أنّ أمير البلاد وقتها، الملا عمر، أصدر مرسوما حكيما في سنة 1999 يقضي بالحفاظ عليهما لأنهما ما عادا يُعبَدان أساسا في البلاد لانتفاء البوذية منها. لكنّ نسفهما اللاحق في سياق التوتّرات لم يقوِّضهما في الوعي العام؛ بل ابتناهما بالأحرى في الإدراك الجماهيري وعَمْلَقهما بهذه الفعلة الطائشة.

لم يكن تمثالا باميان معروفيْن تقريبا للجمهور حتى حينه، ولعلّ معظم الأفغان جهِلوا وجودهما أساسا في بلادهم. وما إن وقع تدميرهما حتى انتصبا في الإدراك العام محطّا للتعاطف وعنوانا لتاريخ أفغانستان المديد؛ فاسترجعت جمهرة الأمم منذ تلك اللحظة حقبةً بوذية منسيّة. حظي تمثالا بوذا من يومها بوفرة غير مسبوقة من التقارير والتحقيقات الإعلامية المصوّرة، لأنّ واقعة النسف أزاحتهما إلى دائرة الضوء، وأيقظت مشروعات تنادت إلى إعادة تشييدهما ولو بصفة رمزية أو بمواد بديلة، فانشغل آثاريون ومهندسون من بلدان عدّة بالتخطيط لذلك.

أمّا سلوك "داعش" مع الآثار، أو ما فعلته معاولها بالنسخ المزيّفة منها؛ فلم يقتصر على أنه رسالة إغاظة للمجتمع الدولي؛ بل جاء تعبيرا مرئيا عن نهجها المسطور في أدلّة توجيهية تقضي باقتراف ما يندرج تحت مفهوم "التوحّش"، علاوة على أنها لم تقتصر على استهداف التماثيل القديمة؛ بل طاردت الآثار عموما ضمن اندفاعتها التي طاردت البشر والحجر.

أمعنت "داعش" في المروق من المبادئ والالتزامات والأخلاقيات والمعايير المتعارف عليها في بلادها وأمّتها والعالم، فجعلت للقتل فنونا وللفتك ألوانا، وحرصت على تصوير ما ترتكبه بغية تعظيم الوعي بأفعالها المفزعة، مع إتقانٍ في إخراج المشاهد يُحاكي أساليب هوليوود خلال حرق الأحياء أو حزّ رؤوسهم أو التلويح بسكين فتّاكة في مواجهة جمهور الشاشات بفرائصه المرتعدة.

مَن بوسعه أن يصدِّق "داعش" عندما أعلنت أنها باشرت سحق شواهد التاريخ امتثالا لتعاليم الإسلام؟ والحقيقة أنّ ما أقدمت عليه كان من مقتضيات دعاية السطوة والترهيب وبسط الهيمنة، التي تطلب رؤوسا حجرية منحوتة لتفتك بها المعاول بلا تأنيب ضمير؛ بعد أن استسهلت سكاكين تنظيم "الدولة" فصل الرؤوس عن الجذوع في إعدامات جماعية علنية على الأرصفة؛ بحجج متعددة تم استحضار التوثيق المصوّر فيها أيضا.

أعمل هؤلاء العقابَ المغلّظ في قومهم، لأنّ العقاب عندهم هو صنو راياتٍ يرفعونها؛ تمنحهم رشفة السلطة التي تعلو بأحلامهم فوق أعناق البشر، بِوَهْمِ القرب من السماء. انتحلوا قشرةَ الدين بأفعالهم المارقة من روحه ومقاصده وتعاليمه، ولو سنّوا حدّ مقصلة أو نصبوا عود مشنقة لظلّ بعضهم حائراً يترقّب إن تراخى أوانُ تجريبهما في الرقاب، ثم سيعلو هتافهم إن أفلحوا في المباعدة بين رأس وجذعها، وستسري بالمشهد المروِّع الرُّكبان، ويعودون إلى قومهم فرحين؛ أن بُشراكم اليوم؛ ها قد أُقيمت للدين قائمة وللشرع دولة!

تُراهِن حالات مارقة من الدين والأخلاق كهذه على مصادرة رمزية للشرعية الدينية والقيمية والمبدئية من أمّة الإسلام، التي يقع التوسّع في وصم مجتمعاتها بالردّة والكفر والنفاق والضلال؛ بما اقتضى منها "استتابة" المسلمين لأنّ بعضهم ليسوا مسلمين في عُرفها أساسا. ومن مرامي هذا النهج أنه يَعرِض "داعش" وأخواتها على المشهد بصفتها الأمين على الإسلام والأصدق بمباشرة تطبيقه "على منهاج النبوّة"؛ كما تزعم. لكنها ليست سوى محاكاة زائفة ومضللة، ومشبوهة أيضا، لادِّعاء الشرعية الدينية أسوة باختطافها الخاتم النبوي في رايتها السوداء، التي باتت في وعي المسلمين وأمم الأرض مقرونة بالفظائع والترويع. إنه "تأثير داعش" في التشويه الذاتي؛ لأمّتها وللدين الحنيف الذي تزعم الانبثاق عنه زيفاً وتضليلا.

ما سعت إليه "داعش" من استعمال المعاول ومباشرة التحطيم كان الإمعان في فرض سطوتها على البشر وإحكام قبضتها عليهم، أي إخضاعهم وليس تحريرهم. إنها نسخة متوحشة من نظم فاشية وحالة بدائية من تجارب شمولية، فقد أعادت تحت رايتها السوداء إنتاج القسوة المنهجية المديدة التي عانت منها شعوب العرب تحت حكومات وصفت نفسها بأنها "علمانية". إنها نسختها "الشرعية" المزعومة من القتل والسحق والتدمير، المستوحاة من خبرات أنظمة متوحِّشة ومن أدبيات جماعات شيوعية متطرفة تمّ استيحاء مضامينها و"شرعنتها" باجتزاء مُخِلّ من آيات وأحاديث وبانتقاء تعسفي من أقوال منسوبة إلى علماء الإسلام. لكنّ هؤلاء الفاعلين الجدد من حَمَلة المعاول لم يُربِّهم علماء الإسلام أساسا؛ بل ترعرعوا في أكناف نظُم احترفت إخضاع الإنسان وسحق كرامته، وامتهنت الفتك الفيزيائي بألوف مؤلّفة من صفوة الناس وعامّتهم.

أي مواجهة مع أي صنم؟

لا تنفكّ المواجهة الشرعية مع الصنم عن مغزاها، وهو ما نجده في مثال تحطيم الأصنام من حول الكعبة المشرّفة في مشهد فتح مكّة، أو في مثال تحطيم إبراهيم عليه السلام للأصنام بعد جولات مديدة من محاولته إيقاظ الوعي المجتمعي.

جاء تحطيمُ الأصنام يوم الفتح لحظةَ تحريرٍ للبشر الذين هَيْمن الصنم على أذهانهم واستبدّ بوجدانهم وأخضَع سلوكَهم. لا يكمن جوهر المعضلة في تمثال أو حجارة منحوتة؛ بل في التصوّر البشري المُسقَط عليهما؛ والذي قد يكون الباعث على النحت ابتداءً؛ أو قد يكون تصوّرا نشأ من بعد النحت وتفاقم. يكتسب الصنم معنى متجاوزا لأصل مادّته، فيُهيْمن بهذا على وعي الإنسان الذي يباشر الخضوع للمادّة وخَفْض الرأس لها وقد يمنحها سلطة تحكّم متخيّلة في الوجود أو يحمِّلها تأويلات أسطورية تساعده على تعبئة فراغات جهله بالكون، رغم أنها في حقيقة ذاتها أعجز عن أن تنفعه أو تضرّه.

لا يتوقف الأمر عند هذا الحدّ؛ بل يتسيّد الصنمُ المشهدَ رغم أنه قد يُفهَم في الأصل واسطةً لما فوقه؛ كأن يُراد منه التقرّب إلى الله زُلْفَى، أو قد يُنحَت في منشئه تعبيرا عن قيمة أعلى منه؛ مثل الصلاح والاستقامة والأسوة الحسنة والوفاء للتقاليد واكتساب الهوية القومية الجامعة، وهي ضمن المبرِّرات المبكِّرة لنحت الأصنام في الماضي والحاضر.

بهذا؛ ينشأ مع الصنم ومِن حوله نظامٌ اجتماعي ذو رُتَب خاصة مستمدّة من المفهوم المُسبَغ على النحت أو الصورة أو ما في حكمهما. تتشكّل بمقتضى هذا النظام طبقاتٌ وأوساط من الكهنة والسدنة وحاملي المباخر، وتتوزّع أدوار اجتماعية تبعا لمنسوب الولاء إلى الصنم والتزلّف إليه بالقرابين التي تغدو وفرتُها معيارا للحظوة والجاه والنفوذ.

جاء تحطيم الأصنام يوم فتح مكة تحريرا للناس وإعتاقا لرقابهم من هذه السطوة التي انبثقت عن المفهوم. إنه ضرورة إصلاحية أظهرت بالمثال العملي المرئي عجزَ الصنم بعد أن جاء الحق وزهق الباطل، وتم إفراغ مادّته من شحنة السطوة المُشبّع بها.

تحرّر الإنسان من حول الكعبة واستعاد علاقته الخطية المباشرة مع السماء، وقد لا يلحظ البشر أنّ هتاف "الله أكبر" هو نداء التحرّر الأوضح والأعمق في عالمنا بلا منازع، وأنّ لحظة السجود لله تعالى، التي يكون فيها العبد أقرب إلى ربِّه؛ بانقطاعه عن الدنيا وزينتها وسطوتها؛ هي لحظة ارتقاء على ما يُهَيْمن على وعي البشر؛ فهي لحظة علوّ على شواغل الأرض؛ وهو ما يتأكّد بلفظ التسبيح: "سبحان ربي الأعلى"، علاوة على أنها لحظة تقطع نوازع الاستكبار والغطرسة.

المواجهة الإبراهيمية مع الصنم

كانت لحظة المواجهة مع الصنم التي خاضها إبراهيم عليه السلام حاسمة أيضا، بعد جولات من الحوار والبيان والنصح، فأحدث إتيانه على الأصنام بالمعول وَقْعَه المزلزل على قومه؛ فتنادَوا إلى الفتك به على رؤوس الأشهاد. ما سعى إليه إبراهيم عليه السلام جاهدا هو تخليص وعي قومه من الثقافة الصنمية الراسخة، التي تتذرّع بتماثيل عاجزة كما رآها عليه السلام، بينما رأوها هم أصناما ذات شأن عظيم تستحقّ أن يعكفوا لها ويسخِّروا لها إمكاناتهم ويقرِّبوا إليها القرابين.

لم يكن التحطيم الفيزيائي هو المغزى الجوهري لما أقدم عليه النبي إبراهيم عليه السلام، وإلاّ لكان مِعْوَله قد أتى على الصنم الأكبر أيضا ولم يكتفِ بالأصنام المنتصبة من حوله. فقد جاء تحطيم الأصنام حيلةً لتشغيل العقول واستثارة الحسّ النقدي من داخل النظام الرمزي لمجتمع الكهنة والسدنة وحاملي المباخر والجمهرة الخاضعة لسطوة الأوثان على الأذهان والوجدان، وهذا من أمارات الرشد النبوي الذي أشار إليه تعالى بقوله (وَلَقَدْ آَتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ) سورة الأنبياء 51.

لو أدرك فنّانو الحاضر موقف التحطيم هذا وحيلة الإبقاء على الصنم الأكبر لإنعاش المساءلة النقدية؛ لعدّه بعضهم عملا بارعا في النقد الاجتماعي، فهو يضرب الثقافة الصنمية الملفّقة في صميمها وينقضها بمنطق نظامها الرمزي ذاته. اعترف الملأ من قوم إبراهيم في قرارة أنفسهم أنّ الصنم الأكبر عاجز عن الفعل رغم تعظيمهم له، فاستدرجتهم الحيلة إلى تناقض ذاتي ملّكهم مفاتيح التحرّر من ضيق الوثنية إلى رحابة الإيمان.

لكنّ لحظة سطوح الحق على الملأ وانقشاع دعاية الزيْف وانكشاف تناقض سردية الطغيان؛ هي ذاتها لحظة التهديد الوجودية للنظام الاجتماعي الجائر القائم من حول الصنم بطبقاته وأدواره وامتيازاته وتعبيراته وتقاليده. إنها لحظة تكشِّر فيها السطوة القيادية المهيمنة أو التضافر الجمعي الساذج عن الأنياب لحماية النظام المتضعضع وحراسة المكاسب المتذرِّعة بالصنم، فتقع المكابرة الفجّة في رفض الحق؛ مع الانهماك في تحضير عرائض الإدانة بالمروق؛ تمهيدا للإجهاز الفيزيائي الأهوج على دعوة الحق. إنها لحظة تهديد ووعيد بحق إبراهيم عليه السلام، ومثلها ما كان من النظام الفرعوني بعد انبلاج الحقّ على رؤوس الأشهاد يوم الزينة، وهي لحظة دار الندوة التي أعقبت الحِيَل التي تضافرت لعزل الدعوة النبوية عن مكة المكرمة وزائريها بلا جدوى.

ظلّ حمْلُ المعاول في سير الأنبياء تدخّلا محسوبا لتحرير أقوامهم من ضيق العبودية للصنم، ولإقامة الحجّة وقطع دابر هيْمنة الوثَن على الأذهان والوجدان، ولدفع الظلم وإبطال الاستغلال، ولمساعدة المجتمعات على تقويض أنظمة رمزية ساذجة وجائرة تفرض عليها الخضوع وتقودها إلى الخسران.

من السّفه اعتبار مواجهة الصنمية معركةً متشنِّجة مع نحت أو حربا طائشة على تمثال أو مطاردةً عابثة لصورة، على النحو الذي حاولت دعاية "داعش" تجسيده بأفعالها الخرقاء. إنّ مواجهة الصنمية هي مسيرة كفاح مفاهيمي وتحرير معنوي له تأثيراته المباشرة في واقع البشر وقيَمهم العليا ومصالحهم المباشرة؛ علاوة على موقعهم من الحياة الدنيا والآخرة. ولم ينعقد هذا الكفاح الإصلاحي، بمساره الثوري أحيانا، ضد الأصنام المنحوتة وحدها؛ بل تصدّى لثقافة التضليل بأنظمتها الرمزية المتعددة؛ سواء استعملت أوثانا منحوتة أو نصبت أصناما معنوية؛ تهيْمن بتصوّراتها على وعي البشر بما تفرضه من أدوار نفعية واستغلالية منسوجة من حولها. وقد كانت سطوة فرعون الذي علا في الأرض وادّعى الألوهية هي الصنم الذي وكزه موسى عليه السلام على رؤوس الأشهاد يوم الزينة؛ فانقشعت هالته الزائفة على الملأ في موقف عظيم تقدّم فيه السحرة كراما وأحرارا إلى دفع ضريبة الموقف الشجاع بطيب خاطر؛ بعد أن استعلَوا بإيمانهم على فرعون ونظامه.

صنمية الحاضر

ليست المواجهة مع الصنمية مطاردةً شكلية لنحت أو حربا طائشة على تمثال، بل هي تحرير للإنسان وتخليص لوعيه واستنقاذ لكرامته. وتبقى هذه المواجهة ضرورة إصلاحية متواصلة عبر الاجتماع الإنساني في مراحله التاريخية المتعددة إلى أن يرث الله الأرض ومَن عليها. ولا تنهض الصنمية بالوجوه والأبدان أو بالأحجار والهياكل على نحو مجرّد؛ بل بالتصوّرات المُسبَغة على كل منها؛ بما يعيد تعريف هذه الأشكال والصوَر في وعي البشر المُفتَتنين بها والمتحلِّقين من حولها لتكتسب قيمةً متجاوزة لمرتبتها، وقد تشغل في هذا شيئا من مساحة المُقدّس في الوعي الجمعي أو الفردي.

وتتوزّع أصنام الحاضر، كما نظيرتها في الماضي، على أحجام وقياسات متعددة، وتتّخذ لها صوَرا وألوانا وتمظهرات شتى. قد يكون الصنم على هيئة البشر، أو على هيئة كائتات ومنجزات وحالات وهالات، وقد يكون على هيئة شعارات مجيدة أو آلة تعذيب تقليدية أُعيد تعريفها في المعتقد، وقد يتحرّك الصنم حيّا بين الناس فيخرج على قومه في الشاشات والشبكات مستحوذا على الأذهان ومُهيْمنا على الوجدان؛ فتدركه الأبصار وتعمى البصائر.

ومن يقلِّب النظر من حوله قد يعثر على الصنمية من حيث لم يحتسب، فأوثان العصر كما الماضي لا تنفكّ عن ناسها ومجتمعها وجمهورها، ممّن أُشربوا في قلوبهم الصنم بِغَيِّهم، وخضعوا لسطوته على أذهانهم، وملّكوه زمام وجدانهم، وتزاحموا من حوله، وصفّقوا له بحرارة، ودفعوا إليه بالقرابين من كرامتهم وأقواتهم وعقائدهم.

يواجه إنسان الحاضر مأزقَه مع الصنمية بأشكال متعددة لم يحتسب لها؛ منها صور الزعماء البارزة بمواصفات صنمية مشفوعة بأقوالهم التي تُعرَض في هيئة توحي بالقداسة؛ وقد يجري الخضوع لها وتقديسها حقا ولو بصفة غير صريحة. ومن يواظب على مشاهدة قنوات مخصوصة مشرقا ومغربا قد يمسّه طائف من زعيم يبزغ له كلّ حين في هيئة متعالية على البشر؛ وكأنه هو عينه من صنع التاريخ وباشر تشكيل المستقبل.

من بوسعه أن يتصوّر "الزعيم" وقد استبدّ به النُّعاس مثلا، طالما أنه في الدعاية الرسمية يبلغ من التعظيم حدا يمنح الانطباع المضلِّل بأنه لا يغفو ولا يرقد، خلافا لسنّة الله في البشر، وأنّ البلاد ما وُجدت إلاّ به، وأنّ التاريخ ما كان إلاّ معه، فله تُرفَع الرايات ولأجله تُنشَد الأناشيد وفيه تُقال القصائد، وفي سبيله يصطفّ ملايين التلاميذ في طابور الصباح وتَضُخّ المطابع سيولا من صورَه بشتى القياسات.

ما الذي يبقى لبلوغ مواصفات الصنمية؛ عندما تباشر الأبواق إسباغَ مفهومٍ متجاوز للبشر على هذا الكائن القابع في قصره، إلى درجة بلغت ببعض المتملِّقين أن يستعملوا من تعبيرات الإشادة ما يوحي بتجاوز اعتقاديّ يمنح الزعيم بعضاً من صفات الله تعالى، كما جاء في صحف ومواقع وحسابات شبكية تُحسَب اليوم على بلاد العرب؟

إنها الصنمية ذاتها، أو قبس مضلِّل منها، وفيها ينتظم كهنة جدد، وسدنة وحاملو مباخر، وتتوزّع معها أدوار اجتماعية متجددة تبعا لمنسوب الولاء إلى الزعيم والتزلّف إليه بالمبايعة والتأييد الجارف والوقوف بخشوع إزاءه كلما سنحت فرصة، فيغدو ذلك معيارا للحظوة والجاه.

صحيح أنّ الدعاية الرسمية في بعض الدول تتورّع عن نحت التماثيل للزعماء، حتى الآن، بدعوى التحريم الديني، لكنها تمنحهم المواصفات الصنمية عينها في زوايا الالتقاط كما تبدو ماثلة في صور الترويج الدعائي. في هذا المسلك النمطي المتفاقم مدعاة للتحقّق ممّا يفترش الميادين ويكتسح وسائل الإعلام من صور، هي صنمية الطابع، لزعماء يقع رفعهم فوق البشر وإسباغ قدرات خارقة عليهم، وتمكِّنهم هذه الدعاية الدؤوبة من الهيمنة على الأذهان والوجدان. إنها إيذانٌ بانتظامِ طبقات من الكهنة والسدنة وحاملي المباخر من حول هؤلاء الذين يُرَوْن أفذاذا، ولأجلهم تلتئم جوقة من المُتباهين بتقديم قرابين الولاء والخضوع؛ من ذوي المال والجاه وبعض من سحرة الأدب والشاشات والشبكات. ألا يبدو صادما للحسّ السويّ أن يتباهى دعاةٌ إلى توحيد الله تعالى بصور صنمية كهذه للزعيم؛ يرفقونها مع تغريداتهم في مواقع التواصل؟

مع علوّ هذه الثقافة الصنمية عبر العواصم؛ يأتي الردّ على الصنم بصنم آخر يناجزه ضمن دعايات دول متنافسة ومنطق أنظمة متناحرة، أُشرِبَت شعوبُها التعلّقَ بالصنم والتذلّل إليه. وإن بزغ الصنم في هيئة قائد الجيش؛ فسيقع تعظيمه برفع الحذاء العسكري فوق الرؤوس في الميادين على نحو مهين، وقد لا يتوانى بعض المشاهير عن تقبيل الحذاء عينه علنا في الشاشات، وستصدح مغنِّيات هابطات بأهازيج مصوّرة من قبيل "نحن عبيد البيادة"، وهي مشاهد انحطاط مرئية في درك الصنمية؛ تتلاحق في ديار العرب في القرن الحادي والعشرين، وتغفل عنها دروس "التوحيد" العقائدية المنصرفة عمّا يجري من حولها.

أصنام السياسة والفن وما بينهما

تحفل ذاكرة القرن العشرين ببزوغ أصنام في حقول شتى، تبدأ بالسياسة ولا تنتهي بالفنّ. لم يتصوّر الروس وأمم السوفيات، مثلا، أنّ عالمهم ممكن بدون ستالين، وما تحسّبت الجمهرةُ الذاهلة لوفاته أساسا يوم أن فارقها إلى غير رجعة. إنها الخبرة الصادمة التي جرّبها العرب عند رحيل عبد الناصر، وجرّبها الصينيون مع وفاة ماو، وإن تحرّر الكوبيون منها فلأنّ كاسترو قضى في وعيهم تدريجيا على مراحل متعاقبة بمرضه واعتزاله الحكم وصولا إلى انقطاع أنفاسه على التراخي.

قد تبدو الخبراتُ الدعائية التي غمست أجيالَ القرن العشرين وغسَلت أدمغتهم؛ مرعبةً لأجيال الحاضر لو أنهم استحضروها بحذافيرها على النحو الذي كان، وهي خبرة يمكن تجريبها، مثلا، في معرض يجمع أغلفة ذلك الزمان أو باسترجاع مشاهد من مرئيّات ذلك العهد المحفوظة في الشبكات. لكنّ الثقافة الصنمية الجديدة باتت أكثر ذكاء بما استوعبته من دروس الماضي، فهي اليوم مسلّحة بدراسات نفسية واجتماعية متراكمة تمنح إطلالةً ثاقبة على الإنسان وتدرك مداخل استمالته ومفاتيح الهيمنة على وعيه واستثارة مشاعره والتحكّم به وتطويع اختياراته.

وللصنمية فنون لا تنتهي وطرائق لا تنقضي، ومن أمارات اشتغالها أن تأخذ بالألباب كلّ مأخذ، مما يحظى به، مثلا، مشاهير يباشر المفتونون بهم تمجيدهم ورفعهم إلى مراتب القداسة. لا عجب أن يغدو انتحار "المُعجيَبن" من متلازمات الإعلان عن أفول نَجمٍ ساطع في الأذهان والوجدان، فهل تستقيم حياة المفتونين بدون فنّان تتزاحم عنده أقدامُهم وتفترش صورُهُ جدرانَهم؟ إنه عندهم "معبود الجماهير"، وهو وصف يُفصِح عن طرفٍ من الحالة ويشي بوَجهٍ من المعضلة. وتُسفِر الحالة عن ذاتها صريحةً في مواقف استثنائية؛ كالتي أقدمت عليها امرأة عربية، صعدت منصّة "مهرجان الحمامات" الغنائي في أغسطس/ آب 2012، لتقديم باقة ورد للفنان اليوناني ديميس روسوس، ثم خرّت إلى ذقنها لتقبيل أقدامه وسجدت له فجأة على مرأى من الجمهرة، وهو ما أثار سخط الشعب التونسي بحسِّه الإيماني ويقظته الأخلاقية.

الصنمية والافتتان بالمُنجَز

تأتي الصنمية مشفوعةً بحالة افتتان، أو هكذا يُراد لها أن تتشكّل في وعي مجتمعها بصفة قهرية أحيانا. إنها حالة الإشراب القلبيّ التي تُعطِّل الحسّ النقدي وتبدِّد روحَ التمحيص؛ فتصادر الوعي الجمعي وتهيْمن على الأذهان. فَغَرَ أحدهم فاه دهشةً وعجبا وهو يُبصر عِجلا جسدا له خوار؛ فانتهى الموقف به وبقومه إلى طواف خاضع من حول العجل. تُعيدُ حالةُ الإبهار هذه إنتاجَ ذاتها في مجتمعات البشر، فيتّخذ بعضُهم مما يُبهرهم آلهةً تُعبَد في الأرض وإن لم يدركوا ذلك تماما.

وإن كان عجلُ بني إسرائيل منحوتا في الماضي على نحو يبعث بأصواتٍ عجيبة؛ عبر حيلة فنِّية في الصنعة يمكن تخيّلها اليوم بقليل من الذكاء؛ فإنّ أجيالا من البشر في الحاضر استحوذ عليها المُنجَز التقني بما حرّضها على التعالي على خالقها عزّ وجل؛ وهذا بمجرد أن أبصرت من نفسها القدرة على بلوغ الآفاق الأرضية، رغم أنها آفاق مجهرية محدودة لا تُرَى أساسا بمقاييس كونية.

جسّدت لحظة الهبوط على القمر ذروةً خاصة في العُجب الإنساني بالذات، وهي التي تزامنت مع تحليق طائرة "الكونكورد" التي اخترقت حاجز الصوت فأخذت بألباب جيلها الذي عايش فتوحا علمية وتقنية وصناعية؛ كان منها انفلاق الطاقة الهائلة في المفاعلات النووية لتغذية الحواضر الحديثة بالكهرباء.

افتُتِن البشر بالتقنية، وحسِب بعضهم أنها تُؤذِن بالفردوس الموعود في الدنيا دون الآخرة. لكنّ الإنسان ظلّ لصيقا بهمومه، وأورثته التقنية غمّاً بعد همّ، وأدركت الأجيال عجزها من بعدُ وهي تُبصِر مكّوكا ينفجر بعد ثوانٍ من انطلاقه، ومفاعلا يفيض بإشعاعه القاتل على أقاليم بحيالها بما كسبت أيدي الناس، ثم أُسدِل الستار على الافتتان الحالم مع مشهد "الكونكورد" المشتعلة بمن فيها في بواكير الألفية الجديدة.

لم تكن المعضلة في مُجنّحة رشيقة تقل البشر فوق السحاب، ولا في آثار أقدام طبعها الإنسان على سطح القمر؛ بل في التصوّرات المارقة من العقل الرشيد والمنطق السويّ التي أفرغها البشر على هذه المنجزات المنشودة، ربّما بسطوة معنوية استثارتها نزعات كامنة أو حفّزتها جهودٌ دعائية دؤوبة.

لا تعجز الصنمية عن إعادة إنتاج ذاتها إن لم تتحرّر مجتمعاتها من هذه الثقافة الراسخة. وليس من عجب، بالتالي، أن يظهر قوم يُزيحون الأصنام، فيركلونها ويحطِّمونها ويسحقونها بأقدامهم، ثم ينتصبون مكانها ساعين إلى فرض سطوتهم على الأذهان والوجدان بأساليب متجددة. وقد لا يكتمل التحلّق من حول الصنم إلاّ بالمكاء والتصدية، وهكذا يفعلون في تعظيم أصنام العصر أو ما يُخَيَّل إليهم تحت التأثيرات الدعائية أنها منجزات باهرة فيعظّمونها بوصلات التصفيق الحارّ.

الصنمية الذاتية في زمن الصورة

قد تقوم الثقافة الصنمية على الافتتان بمن يُرَى صاحب اقتدار أو إنجاز أو حظوة أو تميّز، فتنشغل بالتقاط الصور له وربما نَحْت التماثيل لهيئته؛ بدل أن تنصرف إلى استلهام شجاعته أو إدراك حصافته أو التعلّم من مواقفه أو التأسي بعلومه؛ إن وّجد شيء من هذا لديه. إنها ثقافة مأخوذة بالتفرّد المزعوم الذي تعزّزه أساطير وتكثِّفه هالات وقد تحفِّزه حكايات عن قدرات خارقة وكرامات مخصوصة؛ يُفهَم منها أن لا سبيل للجمهرة إلى مناهزة شأنه وبلوغ مرتبته.

تمنح الصورة مجالا رحبا لغواية التعبير عن نزعة التعالي والتألّه. تتجلّى هذه النزعة في "الزمن المُصوّر" بإيحاءات "أيقونية" شتى تنتصب فيها وجوه الزعماء والمشاهير في هيئة صنمية متكرِّرة؛ مشفوعة بعبارات ترتفع بهم فوق منسوب مجتمعاتهم وأممهم والبشرية جمعاء.

وقد أذكى ابتكار التصوير الذاتي هوسا جارفا بالتعبيرات النرجسية المصوّرة. يفتعل أحدهم صورته الذاتية المجيدة التي يبدو فيها جميلاً فوق واقعه الاعتيادي، أو مقتدرا ومتمكنا، أو ناجحا ومتفردا، ثم يباشر بعد هذا التصنّع بثّ صورة وجهه المحنّط وإغراق الشبكات وتطبيقات التواصل بها. ولن يكلّ أحدهم عن إمعان النظر في صورته التي انتقاها دون سواها لإعجابه المُفرِط بها، بما يحاكي لحظةً يتأمّل فيها إطلالةً مديدة في المِرآة. قد تُفضي هذه المقدِّمات التصويرية إلى صنمية ذاتية تتضخّم فيها الأنا مع التجريب المتكرِّر لمتعة الالتقاط والبثّ وحصد الإعجابات، فكيف بحال أحدهم إن حظي بالشهرة والذيوع ورآه الناس المفتونون به فوق مكانتهم وأسبغوا عليه هالات تصوّرية؟

ما ينبغي الاعتراف به على أي حال، أنّ تحدِّي الصنمية لم ينته، وأنّ المواجهة معها ستبقى من مقتضيات الرشد في الاجتماع الإنساني في ماضي البشر وحاضرهم ومستقبلهم، هذا إن أراد البشر الفوز بكرامتهم والانعتاق المتحرِّر من وجوه السطوة الرمزية المفتعلة؛ التي قد تفرض وطأتها على قاماتهم وهاماتهم؛ أو قد تُهيْمن على وعيهم وتصوّراتهم من حيث لم يحتسبوا.

وسوم: العدد 775