فنكلستاين عن غزّة: سيرورة استشهاد دائمة

في كتابه الجديد «غزّة: تحقيق حول استشهادها»، الذي صدر مؤخراً عن منشورات جامعة كاليفورنيا، يذهب المؤرّخ والكاتب السياسي والأكاديمي الأمريكي نورمان فنكلستاين أبعد من أيّ وقت مضى، وأيّ مستوى سابق، في سجاله الشجاع ضدّ دولة الاحتلال الإسرائيلي، وفي تبيان العناصر التي تصنع وتعيد صناعة الركائز البنيوية لهذا الكيان العنصري والاستيطاني والعسكري. والكتاب، يقول فنكلستاين منذ السطور الأولى، ليس عن قطاع غزّة، بل عن الجرائم التي ارتُكبت بحقّ غزّة وأهلها؛ وكيف أنها «سجن مفتوح»، حسب تعبير رئيس الوزراء البريطاني السابق دافيد كاميرون، يتولى سجّانه الإسرائيلي استيلاد أنساق الخنق المختلفة وتشديد وحشيتها. فإذا لم تغرق غزّة بأكملها في البحر (كما تمنى ذات يوم إسحق رابين، الحائز على جائزة نوبل للسلام)؛ أو لم ترضخ لإرادة السجان الإسرائيلي، فتقبل الحنق والذبح والتجويع والحصار؛ فإنّ غزّة مشروع استشهاد دائم ومديد و… مفتوح، بدوره. ليس على يد الاحتلال الإسرائيلي وحده، يشدد فنكلستاين، حتى إذا كان هذا السجان هو المجرم الأوّل؛ إذْ ثمة أشكال شتى من التواطؤ، أو التعاون المستتر، أو التقصير الفاضح، أو سوء الفهم عن سابق عمد أو جهل أو تجاهل (الأطراف هنا يمكن أن تبدأ من نظام عبد الفتاح السيسي، وقد تمرّ بالسلطة الوطنية الفلسطينية ذاتها، ولن تغيب عنها الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي، كما لن تنتهي السلسلة عند منظمات حقوقية كبرى مثل «العفو الدولية» و»هيومان رايتس ووتش»).  كان رجل مثل فردريك دوغلاس، الأمريكي الذي ثار على عبوديته وصار رمزاً للدفاع عن حقوق السود، قادراً على إثبات رجولته عن طريق ردّ اللطمة إلى مستعبِده الأبيض؛ وكذلك كان نلسون مانديلا، أيقونة النضال ضد الأبارتيد في جنوب افريقيا، قادراً على تطوير كرامة شخصية فائقة في قلب السجن ورغم الشروط القاسية. فما الذي في وسع الغزاوي أن يفعله، يتساءل فنكلستاين، وهو ليس فرداً استثنائياً، وسجنه لا يماثل أيّ سجن عرفه التاريخ؛ خاصة وأنّ شروط الخنق والتجويع والحصار أكثر بربرية من أن تتوقف عند صياغات التنكيل المقترنة بها تلقائياً، لأنها ببساطة سيرورة استشهاد مفتوحة… هنا، أيضاً؟  وأقسام الكتاب الأربعة تتناول الجرائم التالية: عملية «الرصاص المصبوب» (أواخر ديسمبر/ كانون الأول 2008)؛ تقرير ريشارد غولدستون حول العملية، بتكليف من الأمم المتحدة، وخلاصاته التي شكّلت «شهادة من صهيوني» حسب رأي فنكلستاين، وكيف تواطأت أطراف شتى لإبقائها محض حبر على ورق؛ اقتحام «أسطول الحرية»، أو سفينة مافي مرمرة، أواخر أيار/ مايو 2010، وما أعقبها من عمليات غسيل للانتهاكات الإسرائيلية الجسيمة؛ وأخيراً، عملية «الحافة الواقية»، تموز/ يوليو وآب/ أغسطس 2014، وخلالها استُشهد أكثر من 3,000، وجُرح ما يزيد على 10,000، وانطوت ــ وفق تشخيص فنكلستاين ــ على خيانات للحقائق الصارخة، ارتكبتها الأمم المتحدة و»العفو الدولية». وخلال استعراضه لهذه الجرائم الأربع، يحشد فنكلستاين كمية هائلة من الوثائق والمستندات والهوامش التي تعيد تفكيك سلوك الاحتلال الإسرائيلي، ثمّ أنماط التواطؤ أو التقصير، وكيف تتجمع استناداً إلى أكثر من منظومة منطقية، ثمّ تتكامل في نهاية المطاف رغم تنافرها الظاهري. وفي خلاصته، ولكي لا يُتهم كالعادة بالانحياز المسبق ضدّ دولة الاحتلال، يقتبس فنكلستاين تقريراً حول القطاع صدر عن «مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية، دورة 2015؛ يقول التالي بين جملة استنتاجات أخرى: «ثلاث عمليات عسكرية إسرائيلية خلال السنوات الستّ الماضية، بالإضافة إلى ثماني سنوات من الحصار الاقتصادي، دمّرت بنية تحتية في غزّة كانت أصلاً متداعية، وقوّضت أساسها الإنتاجي، ولم تترك هامشاً لأية إعادة بناء ذات معنى، وأفقرت السكان الفلسطينيين».  ومع ذلك فإنّ فنكلستاين، في جانب آخر هامّ من خلاصاته، يراهن على المجتمع المدني في غزّة، وعلى حراك مدني ومقاومة غير عنفية، بالنظر إلى أنّ أغنى ما يملك القطاع من ثروة إنما يكمن في المجتمع ذاته، وفي قواه الحية الوفيرة التي تتكئ على خلفية كفاحية طويلة وتجارب متعددة. وكأنه تنبأ بما سيقع من أحداث بعد أسابيع قليلة أعقبت تأليف كتابه، ولهذا فإنّ فنكلستاين نشر سلسلة تغريدات خلال «مسيرة العودة الكبرى» شددت على هذين الجانبين المترابطين: حيوية المجتمع المدني في غزّة، مقابل وحشية الاحتلال الإسرائيلي. كذلك خاض معركة شرسة ضدّ موقع «يوتيوب» الذي حجب، أو أوقف نشر، شرائط مصوّرة تُظهر عمليات استهداف جيش الاحتلال الإسرائيلي للأطفال الفلسطينيين على السياج الفاصل في غزة، بحجة أنها خادشة للمشاعر.  ومن الإنصاف البسيط لشخص فنكلستاين، وتثمين مكانته كباحث ومؤرّخ، أن يُستعاد كتابه الكلاسيكي الهامّ «صناعة الهولوكوست: تأملات في استثمار المعاناة اليهودية». ورغم أنه يُعدّ كرّاساً صغيراً (أقلّ من 150 صفحة)، بالقياس إلى أعمال فنكلستاين السابقة حول القضية الفلسطينية والصراع العربي ـ الإسرائيلي؛ فإنّ أهمية الكتاب تكمن في ربطه البارع بين فضائح أموال هذه الصناعة، وفضح السياسة التي تصنعها تلك الأموال. كذلك فإنّ ما ينشأ عنها وبسببها ليس أقلّ من مؤسسات هائلة تعمل في خدمة دولة الاحتلال أوّلاً، وفي تبييض صفحتها من حيث انتهاك حقوق الإنسان وإعادة إنتاج التقاليد النازية ذاتها ثانياً، إلى جانب دعم المؤسسة الصهيونية أيّاً كـــان القناع الذي ترتديه. ولعلّ الزوابع التي أثارها الكتاب في الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا وفرنسا دارت ضمناً حول هذا التسييس غير المسبوق لقضية لم تكن جوانبها الاستثمارية خافية تماماً في كلّ حال. لائحة الاتهامات التي وُجّهت إلى فنكلستاين بدأت من أنّ الرجل «سُمّ يهودي» و»يهودي كاره لذاته» و»يهودي مُصاب بانفصام الشخصية» و»يهودي مثير للاشمئزاز»، و»تلميذ رديء لليهودي الرديء شومسكي»… وبالطبع، كان لا بدّ أن تنتهي اللائحة الطويلة عند التهمة العتيقة العريقة: «يهودي معادٍ للسامية»! وكيف، في الواقع، لا تتكرّر كلمة «يهودي» في كلّ هذه النعوت، والرجل في نهاية الأمر يهودي الأب والأمّ والجدّ والجدّة، وأهله في عداد الناجين من معسكرات الاعتقال؟ وهل في وسع خصوم فنكلستاين أن يغمضوا الأعين عن هذه الحقيقة السجالية الحاسمة، التي تفاجئهم بين حين وآخر حين تصدر عن ضمائر يهودية منحازة إلى الحقّ البسيط؟ وذات يوم شنّ اللوبي الصهيوني حملة شعواء ضد فنكلستاين، في واحدة من أغرب حلبات الصراع السياسي: حجرة اجتماعات صغيرة، تُتخذ فيها قرارات تثبيت وترفيع الأساتذة العاملين في جامعة دي بول، أضخم الجامعات الكاثوليكية في الولايات المتحدة. لكن الجولة كانت ملحمية في نظر رجالات اللوبي الصهيوني، إذْ بدأت قبل أشهر من تفصيل بسيط وروتيني إداري عابر هو تثبيت فنكلستاين كأستاذ مساعد في كلية العلوم السياسية. كانت سنوات خدمته في الجامعة تؤهله لهذا، وسجلّه الأكاديمي يرشّحه بقوّة، إلى جانب العامل الأهمّ المتمثّل في أنّ زملاءه في القسم صوّتوا لصالحه بنسبة 9 إلى 3، ثمّ أقرّت التصويت لجنةٌ ثانية خاصة منبثقة عن الكلية، وبالإجماع هذه المرّة،. وفي نهاية المطاف صوّتت الهيئة العليا ضدّ التثبيت بنسبة 4 إلى 3، ثمّ أعلن رئيس الجامعة الأب دنيس هولتشنايدر مصادقته على القرار، بل زاد عليه التوصية بإنهاء عمل فنكلستاين في الجامعة! فليس أمراً عابراً أن تكون يهودي الأب والأمّ، ثمّ لا تكتفي بمناهضة سياسات دولة الاحتلال، بل تنحاز أخلاقياً إلى الضحية في غزّة، وتكتب ببلاغة وبراعة عن سيرورة استشهاد دائم… أمام الوحشية القصوى!

كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

وسوم: العدد 776