أين علي؟
أجاب المستوطنون الإسرائيليون الذين ذهبوا إلى قاعة المحكمة في اللد في 20 حزيران/يونيو 2018 عن هذا السؤال وهم يرقصون دفاعًا عن السفّاح الإسرائيلي عميرام بن اوليئل الذي أحرق منزل عائلة الدوابشة في دوما سنة 2015م، ما أدى إلى مقتل الطفل علي الدوابشة (18 شهرًا) وأمه رهام ووالده أحمد، ولم يسلم من الحريق سوى شقيقه أحمد ذي الخمسة أعوام.
وقفت مجموعة من المستوطنين في مواجهة جدّ الطفل القتيل الذي أتى إلى قاعة المحكمة، وبدأوا يهزجون ويغنون أمام أعين رجال الشرطة الإسرائيلية الذين لم ينبسوا.
أنشد المستوطنون بمتعة القتلة الفاشيين: «أين علي؟ علي لم يعد موجودًا، علي احترق، علي على الشوّاية». لم يكتف النازيون الجدد بهذا الغناء، بل أضافوا إليه مقطعًا يشير إلى بقية أفراد العائلة المنكوبة: «أين علي؟ أين رهام؟ أين أحمد؟ من المؤسف أن أحمد لم يحترق هو أيضًاً».
عندما قرأت هذا الخبر سمعت صرخة «يا علي» وبدأت أردد مقاطع من قصيدة الشاعر عباس بيضون التي أنشدها مارسيل خليفة، ولمت نفسي. فقصيدة بيضون تحيل إلى زمن الفعل، حين كانت أحلام جيل كامل ترتسم بالدم والإرادة، يومها كان يحق لنا أن ننشد للحفاة الذين يقتحمون السماء.
علي القصيدة لم يكن ضحية إلا لأنه قرر أن يقاتل من أجل الضحايا، أما اليوم فقد اتخذ علي شكل طفل صغير في قرية فلسطينية محاطة بالمستوطنين اليهود الذين قرروا أن عليهم تقليد السفّاح النازي الذي صنع المحرقة، عبر وضع الطفل علي على الشوّاية وشيّه حتى الموت.
وما يثير الأسى هو أن مصير علي الدوابشة ليس فريدًا أو خاصًا، إذ يمكن وصف المقتلة الفلسطينية المستمرة منذ سبعين عامًا بأنها مقتلة أطفال، من أطفال دير ياسين إلى أطفال اللد، وصولاً إلى أطفال شاتيلا وأطفال الانتفاضة الأولى، الذي قرر إسحق رابين تكسير عظامهم!
كيف ننسى أن الانتفاضة الفلسطينية الثانية افتتحت بذلك المشهد الرهيب لقتل الطفل محمد الدرّة، وهو يحاول الاحتماء بوالده من ذاك القناص الإسرائيلي! وأخيرًا جاءت مذبحة الأطفال في مسيرات العودة أمام بوابات غزة لتعلن أن الصهاينة ليسوا سوى مجموعة من القتلة تتسلى باصطياد الناس وإحراق الأطفال، وسقط الفتى ياسر أمجد أبو النجا (12 سنة) في مسيرة يوم الجمعة 29 حزيران/يونيو 2018م، حين هشّمت رصاصة قنّاص إسرائيلي رأسه.
الموت يبدأ بقتل الأطفال، والمؤسف أن الأطفال العرب لم ينتفضوا بعد إحراق عليّ الفلسطيني، ليس لأنهم لا يكترثون، بل لأنهم كانوا يُقتلون هم أيضًا، وبدل أن تُحرق أجسامهم بقنابل المولوتوف أُحرقت بأعقاب السجائر.
بدأ الموت العربي حين قُتل حمزة الخطيب، الطفل الدرعاوي، الذي رسم الطاغية بأشلاء جسده الممزق تحت التعذيب المصير الذي يعدّه للشعب السوري المنتفض من أجل الكرامة والحرية.
في درعا، وبين سنابل القمح في سهل حوران، بدأ الحلم السوري بالحرية مع الأطفال الذين كتبوا على جدار مدرستهم «الشعب يريد إسقاط النظام». فقام الديكتاتور السوري وحلفاؤه/أعداؤه في نظام النفط والنصب العربي بتحويل الحلم إلى كابوس، فوقعت سوريا تحت مقصلتين، مقصلة نظام الأسد ومقصلة الأصولية الآتية من صحراء الموت، قبل أن تتحول إلى مطية يتلاعب بها اليوم الروس والأمريكان والإسرائيليون إلى جانب بعض صغار اللاعبين.
في درعا التي بدأ بها الحلم، يجري اليوم وأد الحرية في كابوس مرعب، حيث يكشف الرئيس الأمريكي مفهومه للسياسة بصفتها صفقة، والصفقة تبدأ في درعا لتنتهي عند ما يسمى بـ «صفقة القرن» التي تعني موت المشرق العربي ووأد فلسطين، وتعلن أن مصير أطفال العرب يتأرجح بين علي الدوابشة وحمزة الخطيب.
لم نكن نعي معنى الاستبداد إلى أن رموا في وجوهنا جثة حمزة الخطيب التي شوهها التعذيب السادي. صحيح أن الشعب السوري عاش منذ «الحركة التصحيحية» في سجن كبير، وصحيح أيضًا أن أهوال سجن تدمر الرهيب رشحت على أقلام بعض الناجين من «قوقعة» الموت التدمري، لكن جثة حمزة الخطيب أشارت إلى أن كل أطفال سوريا مرشحون لموت كامن في بنية نظام الاستبداد.
أما الاحتلال والوحشية الصهيونية فقد اتخذا شكلاً جديدًا مع رقصة المستوطنين وأهازيجهم، لم يقل المستوطنون ما لا نعرفه، لكنهم كشفوا حقيقتهم التي خبأوها طويلاً تحت ركام لغة الضحية التي صارت أداة قتل في خدمة مشروعهم الذي ليس سوى مشروع استعماري في جوهره.
أما الأمريكي «البشع»، فلم تتغير سياسته الصهيونية التي كانت دائمًا تعتبر إسرائيل امتدادًا للولايات المتحدة، وجزءًا من منظومتها السياسية والعسكرية، ما تغير هو الشكل الذي اتخذ مع ترامب صورة مزيج من التجارة والوقاحة واستغلال رعب أنظمة النفط على سلطاتها المهددة من شعوبها أولاً قبل أن يهددها المدّ الإيراني الذي تنمّر بسبب الفراغ الذي صنعه الأمريكيون بعد غزو العراق.
لا أجد أي جدوى في تحليل شخصية السفّاح الإسرائيلي عميرام بن اوليئل، فهو تكرار صاخب لسفّاح الحرم الإبراهيمي، وهو ليس سوى ظل شاحب لمجرم قبية وشاتيلا أرييل شارون. المسألة لا تكمن في جنون فئة صغيرة من المتطرفين، نحن أمام مجتمع أخذته جرائمه المتراكمة وانتفاخه بالقوة واتكاؤه على ضعف العرب وذلّ حكامهم ونذالة مستبديهم، إلى الرقص على أشلاء الأطفال، والدعوة العلنية إلى تحويل النكبة إلى محرقة.
نكبات العرب بمستبديهم وبالاحتلال الإسرائيلي حولت المشرق العربي بأسره إلى أرض للموت.
لن نناشد أحدًا، لا الضمير العالمي ولا الضمير العربي.
الضمائر ماتت في زمن حمزة الخطيب وعلي الدوابشة.
لكننا نعلم أن الأطفال حين يموتون يتحولون إلى نجوم تضيء السماء التي تغطي أرضنا المكفّنة بالعتمة.
لهؤلاء الأطفال ترنو عيوننا بآخر نبضات الحب لهذه الأرض التي لا ترتوي من شرب دماء أبنائها، ومنهم نتعلم كيف تصهر نيران المآسي إرادة الصمود والتحدي، ومن ظلال عيونهم نلتقط فتات الضوء.
وسوم: العدد 779