مراجعات(23) النخب السورية وتباين الرؤى ( 1961 ـــــ 1963 م )

أ.د.عبد العزيز الحاج مصطفى

مركز أمية للبحوث و الدراسات الإستراتيجية 

 الفترة ما بين 28/09/1961 و 08/03/1963 م هي فترة الانفصال ، وهي التي كانت محور مراجعاتنا السابقة .

 وقيل ما قيل عنها ؛ فهي أشبه باللوحة التذكارية التي تعيد إلى الأذهان مشهداً من مشاهد الحياة التي التي حدثت في حقبة سابقة ، أو كوصلة فيديو تصور فيها أحداث تلك الحقبة . وقد كانت قلقة، ومضطربة، وعلى غاية من الخطورة. ووجه الخطر فيها: يأتي من كونها غير منسجمة، وغير متوافقة، ولا تصدر عن مصدر واحد. ولذلك تباينت تبايناً كبيراً، واختلفت في بعض تبايناتها اختلاف الأضداد ؛ الأمر الذي أدَى :

أولاـ إلى حالة الشرذمة:

 وبدهي جداً أن يؤدي التباين في الرؤى ـ في مجتمع يعيش حالة من التخلف ، وتسوده الطبقية والعصبية كمجتمع يومئذ ـ إلى الشرذمة ؛ وأن تتوسع دائرتها وأن يزداد انقسامها حتى يصعب التعامل معها ، او حل إشكالاتها التي تصدر عن واقع محكوم بأكثر من عامل والتي يذكرمنها :

أ)تعدد المكونات:

 يعد تعدد المكونات في المجتمع الواحد، من الآفات التي قد تكون أشدَ فتكاً بالمجتمعات، وأكثر إيذاءً لها. والمعروف أن المجتمع السوري بخاصة تتعدد فيه المكونات العرقية والدينية وتكثر فيه إلى درجة كبيرة. وهذه المكونات كانت موضع اعتبار الصهيونية الدولية، والدول الاستعمارية منذ أواخرالقرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين ، وهي التي كانت تسمى يومئذ ب (الأقليات ) وقد شملتها ورقة هرتزل سنة 1897م ، التي رأت فيها أن تخضع منطقة الشرق الأوسط إلى تقسيمات على أساس عرقي وديني ومذهبي. كما شملتها إجراءات غورو الرسمية، التي قسَمت البلاد السورية على أساس من تلك المكونات، ثم عادت فلخصتها في قوات الشرق الخاصة، التي أريد لها أن تكون ذات منهج أقلي يأخذ باعتباره (الأقل) ويستثني (الأكثر). وهذه الفكرة نمت وازدادت حتى أصبحت بحكم المتعارف عليها في مرحلة ما بعد الاستقلال.

ب) التخلف العام:

 مع أن التخلف يعد من الأمراض المستوطنة في ( المنطقة الشرق أوسطية) إلَا أنه في سورية كاد يكون ملحوظاً بالعين المجردة ، وذلك لضعف عام في قطاعي التعليم والصحة ، ولضمور في العلاقات الإجتماعية التي كانت تتأذى من تعدد المكونات ، وللجهل العام الذي كان موروثاً طبيعياً ممتداً من العصور الوسطى إلى مطلع القرن العشرين. وهذا بدوره ساعد على الشرذمة التي تنمو وتزداد نمواً في المجتمعات التي تعد أكثر جهلاً وتخلفاً ، وأكثر انقساماً على ذاتها. وقد لوحظ ذلك بكثرة مع بداية الاستقلال سنة 1946 م . إذ أنه ما لبثت البلاد أن تحولت إلى مذأبة يفتك فيها الأقوى بالأضعف. ثم إن تلك الشراذم التي تكاثرت في فترة الخمسينيات ، وجدت مناخها المناسب بعد الانفصال مباشرة !! وإذ نحن أمام شراذم لا تعد ولا تحصى بعضها يتمحور حول الرجل الواحد وبعضها يتمحور حول الرجلين أو الثلاثة، وبعضها قد يصبح زمرة أو حزباً أو جماعة. والكل من واقع التخلف يخاصم ويجادل وقد أصبح إلباً على وطنيته ، وعلى قوميته ، وعلى دينه ؛ أو حتى على حزبه الناشئ . وكان التياران القومي والاشتراكي هما اللذان شهدا حالات أكثر من الانقسام والتشظي، بسبب مشاربهم المتعددة ، وانتماءاتهم المختلفة ، التي تتباين تباينا كبيراً.

ج) الانقطاع الحضاري:

 يعد الانقطاع الحضاري علة العلل في المجتمعات كافَه ! ذلك أن أية أمة من الأمم من أجل تقدمها ، ونهوضها لا بد أن تجمع بين قديمها وحديثها في ماعون واحد. فتفيد من تجارب الأقدمين ومن خبراتهم، وتعيش حالة من التواصل معهم. سيما أن ما كانوا عليه من حياة حضارية يعد بمثابة نسغ الحياة بالنسبة لهم ـ والكلام يخص السوريين ـ بيد أن الذي حدث أن كان ثمّت ملحوظتان:

 الملحوظة الأولى _ حول أصحاب الفكر الأقلي من بعض المكونات : وهؤلاء تنكروا للتاريخ الحضاري بعامة وعدوه سبة لهم والقول ب ( السكر في جوامع السعودية) يأتي من هذا الباب . وقد كان بعضهم أكثر إلباً على الخط الحضاري العام الذي كان عليه المسلمون في عصورهم الزاهرة ، ولذلك كانت الحداثة عندهم تتوقف عند سنة 1946 م ، ولا تتخطاه إلى ما هو أبعد وهذه هي فلسفة أدونيس وهو من أعيانهم. بل وكانوا أكثر إعجاباً بجدل القرامطة ،وجراءة الزط ، وشجاعة الحشاشين الذين استباحوا القيم الإسلامية. وهذه الحالة انعكست على جدلهم مع الآخر، وقد أخذ الجميع ينظر إليهم بعين الريبة لكثرة مساسهم بالقيم الإسلامية التي يلتقي المسلمون على قدسيتها.

الملحوظة الثانية ـ حول الأكثرية من أهل السنة الذين يختصون باثنتين :

الأولى ـ كونهم اكثرية. وللأكثرية الحق أن تكون هي صاحبة القرار في البلد الذي تعيش فيه. وذلك على وفق مفاهيم القيم الديمقراطية وماعليه صناديق الاقتراع من تقاليد .

والثانية ـ أن الموروث الحضاري ـ الذي هو بمثابة الثروة التي تغنى بها الأمة ـ هو موروثهم الخاص الذي كان عليه آباؤهم وأجدادهم . وفيه فقه الفقهاء ، واجتهاد المجتهدين ، وفلسفة الفلاسفة ، ومجامع الحكمة التي أنتجتها قرائح الأقدمين.

وكان الذي حدث أن كثيراً من النخب المثقفة أخذت طريقها إلى مشارب أخرى، مستوردة ومستحدثة، وهي لا تمت بصلة إلى قديمهم الحضاري. وقد كانواعلى ذلك اشتراكيين و قوميين ، ثم تشرذموا شرذمة ليس أكثر منها ضياعاً، وفي دائرة شرذمتهم اصطدموا بإخوانهم وأبناء جلدتهم من حملة الخزين الحضاري وبالتالي كان التجالد معهم بدلاً من التوافق ، ومن رحم ذلك التجالد ولد مصطلحا (التقدمية) و (الرجعية) وللأسف الشديد كان مصطلح الرجعية عندهم يساوي الإسلام ديناً ومذهباً وحركة حضارة، وكان مصطلح التقدمية يساوي الخروج على القيم الإسلامية قولاً وعملاً وقد كان سب الدين عندهم مقدماً على احترامه ومن هذا الباب كان ردهم بالعراك على من قال : (عربية إسلامية ) . ذلك أنهم كانوا مع تشرذمهم يخوضون معركة مشتركة ضد كل ما هو إسلامي . وهذا هو السرُ في خسارة المعركة مع الطائفيين، وفي ما آل إليه أمر الانفصاليين الذين مثَّلوا حال (المنْبتّ) ولم يتخطوه خطوة واحدة.

ثانياً ـ حالة عدم الاستقلالية :

 يعد عدم الاستقلالية في القرار، ومرادفه الاتباع للآخر والدينونة له مما ابتلي به العالم الثالث، ومنه الدولة السورية الحديثة. ومع أن هذه الدولة كانت أول دولة عربية تنال استقلالها بشكل كامل إلّا أنها كانت تواجه شكلين من أشكال التبعية :

الشكل الأول ـ يتمثّل بصراع القوى الأجنبية على مناطق النفوذ فيها : وصفقة ـ خطوط التابلاين ـ وضلوع حسني الزعيم فيها دليل على ذلك.

والشكل الثاني ـ يتمثّل بصراع القوى الإقليمية على مناطق النفوذ فيها : وعلى جعلها بحكم التابع لها، وعدم السماح لها باستقلالية القرار. وتعد محاولة شراء الذمم من بعضهم قصد التدخل في سياسة البلاد، وحرفها عن مساراتها الوطنية متواترة . وبسبب من ذلك كانت اتفاقية الوحدة بين سورية ومصر، ومن بعدها حدثت واقعة الانفصال. وقد راج الحديث وقتها عن ضابط اسمه خالد قادة كان تلقى مبلغاً من المال من دولة عربية من أجل فصل سورية عن مصر!!!

والذي نحن بصدده أنه ما إن حدث الانفصال حتى أصبحت الدولة السورية غير قادرة على الصمود، وذلك لوجود خطرين ضاغطين عليها :

أ)خطر الطائفيين: الذين كانوا مدعومين من الخارج الإقليمي والدولي وبقوة خشية عودة دولة الوحدة، وسلوكها مسار التصحيح. وقد كان ينظر إليها كنواة للوحدة العربية الشاملة، وفي ذلك ذوبان للأقلية أمام الأكثرية التي مع الوحدة أصبحت خاسرة، وقد تعطلت مشاريعها الطائفية التي كانت تعمل من أجلها. ولذلك عضوا على الانفصال بالنواجذ. ومن هذا المنطلق تحركت الدبابات من حمص إلى حلب، وكانت مجزرتها الكبرى فضلاً عن العسف والإرهاب والقهر الذي فرض ظله في ذلك الوقت.

ب)خطر الانفصاليين: وغالبيتهم من السنة؛ وقد كانوا من اللامنتمين واللاملتزمين فانفرط عقد الأكثرية بسببهم.

فبعد أن كانت الأكثرية سيدة الموقف إبان الانتفاضة الوطنية سنة 1954م وإبان الوحدة سنة 1958 ومابعدها، أدت بها السياسة الانفصالية إلى مزيد من التشرذم . وقد كان من باب الفعل ورد الفعل ظهور التنظيمات الناصرية التي غطت الساحة السورية في ذلك الوقت، وقد ركب مركبها البر والفاجر، وقد كانت على درجة من الخطأ كما كانت على درجة من الصواب. وباختصار خلطت عملاً صالحاً وآخر سيئاً!! وهذا ما جعلها الأضعف بالرغم من كثرتها الكاثرة!!!!

ثالثاً ـ حالة مركب النقص:

يعرّف مركب النقص بأنه (علة الأقليات) التي وجدت نفسها تعيش في خانق من علاقاتها مع الآخر؛ بسبب نشازها الفكري، وسلوكياتها غير المنسجمة، وعاداتها وتقاليدها، التي توصف من قبل المؤمنين بها بأنها مقطوعة الجذور مع المجتمع الذي تعيش فيه وتشكل بعضاً من مكوناته. ولذلك سلكت منهجاً مغايراً بالنسبة لها اتسم بالمؤامرة والمداورة، وبالتلون والاصطباغ بأكثر من صبغة وبالتقية السياسية والفكرية. وهذا المنهج هو منهج اللجنة العسكرية وقد وفرَ لهم من عناصر القوة ما جعلهم سادة الموقف ـ حقيقة ـ إبان الانفصال وبعده. ومؤتمر حمص سنة 1962م وما تمخض عنه من قرارات يدل على ذلك. لقد عرفوا كيف يركبون مركب الانفصاليين أولاً، ثم يعملون على طردهم ومعاداتهم واتهامهم بأقذع التهم، وعدم السماح لهم بالعودة إلى الجيش ثانية،أما الأكثرية من غير الانفصاليين، وهذا هو واقع حالها، فقد كانت مبتلاة بعاهات ثلاث:

العاهة الأولى ـ تتمثّل ب (شتات الرؤى) وقد كانت عرضة للغزو الفكري الذي لم يتوقف لحظة عن الكيد لها منذ القرن الثامن عشر وإلى العصر الحاضر، وكانت المدارس التبشيرية ـ وهي طليعة ذلك الغزو ـ قد أصابت مقتلاً من الأكثرية ؛ و استحواذها على عقول النخب المثقفة الذين تتلمذ واعلى أيديها ؛ و على عقول رجال مؤتمر باريس و رجال الحركة العربية منذ مطلع القرن العشرين أكبر شاهد على ذلك . والذي كان بعد أن هؤلاء قدموا أفكارهم لمن جاء بعدهم من منظور تلمذتهم عليهم ـ وليس المقاس بالمقاس ـ فاصطدموا مع الثقافة الإسلامية التي كانت ثقافة الأغلبية فأدى الاصطدام إلى الشتات والتشرذم . إنهم باختصار كانوا أشبه بصفحة عريضة من الزجاج اصطدمت باخرى فتشظت وتكسرت، ولم تعد إلى حالة من اللحمة التي كانت عليها ، وقد أصبحت بعد حجر عثرة في طريق المتقدمين من حملة الأفكار الشريفة والنظيفة، التي تبحث عن طريق خلاص لها.

العاهة الثانية ـ تتمثّل ب ( اللامبالاة)، وهي عبارة عن حركة (رد الفعل) ضد (الفعل) الذي كان طاغياً وجائراً في ذلك الوقت. فحركة الانقلابات بعامة و الوحدة والانفصال فضلا عن طرح الشعارات المتضادة كشعارات (العروبة) و (الإسلام) و (التقدمية) و (الرجعية) كل ذلك قد جعل النخب في حيرة من أمرها وقد وجدت نفسها تصارع على فرشة مقطعة الخيوط، وفي دائرة مفرغة عديمة المخارج والمداخل؛ فشكل ذلك عندها حالة من الإحباط أدت بكثير منها إلى اللامبالاة التي نتحدث عنها. ولذلك ليس غريباً وقد خرجوا في تظاهرة صاخبة أن نجد من يهتف (سقط المطر من السماء) ومن يردد (يسقط يسقط يسقط) أو أن يدوي الهتاف (فليسقط واحد من فوق) فيكون الرد (يسقط يسقط يسقط) ذلك بأنهم لا يؤمنون بالذي هو فوق أو الذي هو تحت ، أو بمن مات أو عاش. وهذا هو سر المصيبة !!

العاهة الثالثة ـ تتمثّل ب ( عدم الصدق ) . وعدم الصدق ينبع من عدم الإيمان بالقضية، وطالما أنهم لا يؤمنون بقضيتهم فماذا يريدون ؟ بالتأكيد لقد أدخلتهم حالتهم هذه في ـ حيص بيص ـ من أمرهم، بعد أن عدموا الرؤية الصحيحة، ولم يعودوا يفرقوا بين الأسود والأبيض أو الصالح والطالح، أو ما هو نافع وما هو ضار.

وقد كان كثير منهم غير جاد إلا بما يتوافق مع مصالحه الشخصية أو الحزبية، أو ولاءاته أو علاقاته، أو ما يراه بعينه المجردة.!!! أما جماهير النخب بعامة ــ وهي مظلومة ومهضومة ــ فقد آثارت بينها جدلاً عريضاً، وكانت مجالسها مليئة بالطروح الجادة والمتغايرة والمتباينة. وقد أفضت بها ـ والكلام عن الانفصال ـ إلى حالات ثلاث:

الحالة الأولى ـ حالة الشتات والفوضى : وسببها أن بعضهم كان قد كفر بما آمن به من قبل من مباديء أو ولاءات فغيَر وبدل تبعاً لرؤيته.

الحالة الثانية ـ حالة التعصب للفكرة : بصرف النظر عما توصل إليه من قناعات، فحاول أ ن يقدم ويؤخر، وأن يعلل ويبرهن ، وأن يضيف ويحذف؛ فكثرت طروحاته ولم يخرج عن دائرة الشرذمة التي ارتمى في داخلها.

الحالة الثالثة ـ حالة البحث عن الجديد والعمل من أجله : على ضوء التجارب السابقة، وبما يتوافق مع رسالة الأمة الحضارية، ومع قيمها وتراثها.

وأنصار هذه الفكرة لم يكونوا قلة في ذلك الوقت . وهم: أمس واليوم وكل يوم، لا يزالوان يبشرون بالمستقبل القريب الذي تعود فيه العربة إلى مسارها الصحيح ؛ بعد أن أخطأت مسارها ،وبعد أن تقاذفتها رياح التغيير بين جهاتها الأربع

وسوم: العدد 781