من دروس الربيع العربي الحلقة الثانية

مركز أمية للبحوث و الدراسات الإستراتيجية 

خطورة الإعلام المَرئي

لكي نعرف الدور المحوري الذي لعبه الإعلام في إيقاد جمور الغضب الذي أدى إلى إسقط عدد من أنظمة الظلم والضلال؛ أطلب منكم أن تتخيلوا معي لو أن حادثة محمد البوعزيزي قد عُرضت في الصحف وتم تناقلها شفويا بين الناس وتحدّث عنها الإعلاميون بدون صورة مرئية حية، هل كانت ستُحدِث ذلك الزلزال وذلك الأثر العريض؟ وهل كانت ستصبح سبباً في اشتعال واحدة من أهم الثورات في تأريخ العالم المعاصر؟ ويُشبِه ذلك ما حدث للطفل الفلسطيني محمد الدُّرّة الذي قتله الجنود الإسرائيليون بدم بارد وهو يحاول الاحتماء بوالده، وصوّر مراسل وكالة الصحافة الفرنسيية آنذاك المشهد بالصوت والصورة، فقد تسبّبت الحادثة في وقوع زلزال كبير في العالم الإسلامي الممتد من طنجة إلى جاكرتا؛ إذ بكته قطاعات عريضة من شعوب الأمة الإسلامية، بل انتفض ملايين المسلمين في طول العالم الإسلامي وعرضه مندّدين بجرائم الصهاينة، مع أن مئات من أطفال فلسطين قد قُتلوا ربما ببشاعة أشدّ في أزمان وأماكن مختلفة، غير أن انعدام الكاميرا جعل الأمر يَمرّ ببساطة ويذهب إلى طيّ النسيان                               !

ومرّة أخرى تخيّلوا معي لو أن كل فعاليات ثورة الياسمين التي حدثت في مدن تونس قد حدثت كما هي بالضبط، ولكن بدون تلك التغطية الإعلامية الضخمة للأحداث التي كانت تُنقل على مدار الساعة وعلى الهواء مباشرة في كثير من الأحيان، مع ما برز في تلك الثورة من صور مُشرِّفة أعادت للشباب ثقتهم بأنفسهم ومنحتهم دفقة معنوية عالية، مثل الانضباط الصارم في سائر الفعاليات الثورية، والحرص الشديد على المال العام، والبعد عن الاصطدام بالجيش والأمن، وظهور ذلك الخطاب الإعلامي الراقي والذي لا يستدعي العداوات أو يُوسِّع المواجهات، ولا يبث الكراهية أو يُحرِّض على الفوضى.

لقد أبرزت ثورة الياسمين نماذج رائعة للشجاعة الباسلة والتضحية المُبهرة عندما يستدعي الأمر ذلك، نماذج رآها الناس بأمّ أعينهم فنفخت فيهم روح العزة ودفعتهم للانضمام إلى أفواج الأحرار وقوافل الثوار، ولكن لو حدث ذلك كله بدون تغطية وسائل الإعلام بالصوت والصورة، هل كان المصريون سيخرجون إلى الشوارع بذلك الكَمّ الهائل من الناس رغم علمهم بما يمتلكه النظام المصري من منظومة قمع هائلة ليس لها نظير في العالم إذا قيس حجمها بحجم الشعب المصري مع احتوائها على كل الخبرات في امتهان آدمية الإنسان في الشرق والغرب؟! وإذا لم يرَ اليمنيون شباب مصر وهم يملأون ميادين مدنهم بالثورة على الظلم والفساد، ويطالبون باستعادة قيم الحرية والعزة والكرامة التي سُلبت منهم سِنِينَ عدداً، وهم بذلك الانضباط الشديد الذي لا يستجيب لاستفزازات الأمن ولا يَردّ على تفاهات أعضاء الحزب الحاكم ومرتزقة السلطة وأجهزتها الأمنية كما حدث في ما سُمّي بموقعة الجَمَل، وفي ذات الوقت فإنهم يَشُقّون عنان السماء بترانيمهم الداعية إلى الحرية والديمقراطية، ولا يتوانون عن مجابهة الأخطار ومقارعة المدرعات والمصفحات التي تحاول شقّ صفوفهم وفضّ اعتصاماتهم، وذلك بصدورهم العارية وهممهم العالية والتي تطاول السماء وتناطح الجبال، مما أجبر الفراعنة على الانحناء للعاصفة والانسحاب من ميادين المواجهة، لو لم يرَ اليمنيون والليبيون هذه المشاهد التي تكررت في تونس ومصر هل كانوا سيَخرجون إلى الشوارع والساحات بتلك الكثافة لكي يواجهوا نظام صالح الأحمق ونظام القذافي الأرعن؟ ولو لم يُقدِّم اليمنيون والليبيون تلك المشاهد المَرئية والتي تَضجُّ بالعشق للحرية وتَشي بالعطش للكرامة، حيث اعتلى كثيرون نواصي الشجاعة وامتطوا صهوات التضحية غير هيّابين من أسلحة القتل ولا خوّافين من الموت، مما اضطرّ الجبابرة للانحاء أمام العاصفة أو الانجراف مع تيارها العظيم، لو لم يحدث ذلك ويراه الشباب السوري على شاشات التليفزيون ووسائل التواصل الاجتماعي بأمّ أعينهم في بث حيّ وبتلك الكثافة والتنوع الإعلامي، هل كانوا سيملكون الجرأة التي تُمكّنهم من التمرد على خوفهم والخروج إلى شوارع درعا ثم شوارع وميادين سائر المدن السورية المسكونة بالخوف والزاخرة بالرعب، بعد أن ضرب النظام النصيري أفظع الأمثلة في العنف الدموي والإرهاب الأعمى، وأثبت بجدارة قدرته على الذهاب بعيدا في القمع والتنكيل، كما حدث في سجن تدمر وفي قمع مطالب مدينة حماة السلمية بالطائرات في يوم جمعة والناس يُصلّون في المساجد، وامتدت يده إلى مئات الآلاف من الأُسَر التي غيّبها الموت في غياهب السجون وابتلعها الأسى في غيابة النسيان، أو تلقّتها فيافي التغرّب واختطفتها رحلات الأوجاع في سائر أقاصي الأرض؟

لقد لعب الإعلام بكل أنواعه التقليدية والحديثة دورا مشهودا في التعبئة والتحريض، وقام بدور شديد التأثير في استجاشة العواطف واستثارة الانفعالات، وقام بدور مشهود في بَثّ أحاسيس الكرامة وبَعْث مشاعر التحدي من بين أركمة الخوف، مما جعل الملايين من الناس يُيَمِّمون وجوهَهم شطرَ ساحات الحرية وميادين التغيير. وكانت بوارقُ هذه الثورات قد وصلت إلى العراق والبحرين وسلطنة عمان والجزائر وموريتانيا وشعرت سائر أنظمة الظلم والضلال العربي بالأرض تهتز من تحت عروشها المَبنية فوق جماجم الشعوب المقهورة، ولكل بلد من هذه البلدان قصة مختلفة في إطفاء أوار الثورة هناك، وكانت سلطنة عمان هي الأكثر حكمةً واستفادةً من هذه الثورة، كأنها قد ورثت الحكمة اليمانية بدلاً عن أصحابها (هذا إن لم يكن أهل عُمان داخلين في الثناء النبوي في الأصل)، حيث حقّق السلطان قابوس جزءاً كبيرا من مطالب الناس بالتي هي أحسن قبل أن يهتفوا: (الشعب يريد تغيير النظام)، وتعامل النظام العماني بمسؤولية عالية مع التحديات التي ظهرت أمامه، مما مكّن سفينة عمان من الوصول إلى شواطئ الخير والرّسو في مرافئ الأمن والسلام! ووصلت رعودُ الربيع العربي إلى سائر البلدان العربية التي اتخذت إجراءات شاملة من أجل امتصاص غضب الجماهير، وتنوّعت تلك الإجراءات بين الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي لبّت بعض مطامح الناس أو ذَرّت الرماد في أعينهم، وبين الإجراءات الأمنية التي أثارت الهلع في القلوب ثم رفعت الأسوار التي تحمي تلك الأنظمة وزادت من تسليح وتمويل الأجهزة الأمنية                   ! ومن يتمعّن في تأثيرات ما حدث على الشعوب العربية الأخرى سيجد على سبيل المثال أن الجزائريين والسعوديين والكويتيين قد استفادوا من الربيع العربي جزئياً؛ عندما حققت سلطات بلادهم بعض مطالبهم المعيشية والمهنية، وعلى المستوى الجَمْعي فقد تواطأت الأنظمة التي اهتزت كراسيها بفعل من زلزال الربيع العربي، وبدا من إجراءاتها العملية كأنها قد اتفقت على أن الربيع العربي هو موسى هذا العصر، وأنهم إن لم ينجحوا في القضاء عليه في مَهْده فإنه سيغرقهم بعصا السلمية في لُجَج الجماهير وستجرفُهم أمواجُ الثوار إلى مزابل التأريخ بعد أن كانوا يصنعون التأريخ كما يوهمهم تنابلتُهم من علماء السوء وإعلاميي النفاق!

وكما كان للإعلام دور مشهود في تصاعد ثورات الربيع العربي، فقد كان دوره أشدّ وأقوى في دعم الثورات المضادة التي اندلعت بعد أن استوعبت الدولُ العميقة ما حدث وامتصّت الصدمة، فقد بدأت الثورات المضادة بقصف إعلامي مكثف وباحترافية عالية من مختلف الزوايا، حيث وُظِّفت فيها العلوم والخبرات والتكنولوجيا الغربية المتراكمة، مما جعل كثيرا من عامة الناس الذين راهنوا على الربيع العربي يُغيّرون قناعاتهم، معتقدين أن ما حدث إنما كان سرابًا خادعاً أو فجرا كاذباً في أحسن الأحوال، حتى أن بعضاً من هؤلاء قد تبنوا نظرية المؤامرة في محاولة فهم ما جرى، مرددين مع دجّالي الأنظمة أن الغرب هو من خطّط لهذه الثورات وموّلها ودفع بها لتفجير أنظمة المنطقة!

وتوالت الحروب على الربيع العربي من كافة الاتجاهات وفي كل الجبهات، لكن ما كان لأيٍ من هذه الجبهات أن تنجح في تحقيق مراميها الشيطانية لولا القصف الاعلامي الذي جمع بين التفوق العددي الكبير وبين التفوق النوعي الرهيب، وعلى سبيل المثال فإن الثورة المضادة في مصر قد نجحت في حشد أكثر من ستين قناة فضائية مصرية ضد الرئيس مرسي وحركة الإخوان المسلمين، الذين لم يكونوا يملكون سوى قناة يتيمة واحدة يعمل فيها عدد من الهواة والمبتدئين الذين لا يحصلون على 5% من المستحقات مقارنةً بمثيلاتها في المعسكر المقابل؛ وذلك نتيجة عدم إعطاء هذا الثغر ما يستحقه من إمكانات بشرية ومادية ومالية من قبل من يفترض أنهم قادة الثورة، ويقاس على ذلك بقية فصائل ودول الربيع العربي، فلقد ظل الإعلام يعاني من تقصير وقصور كبيرين من قبل تيارات الأحرار وفصائل الثوار، حيث تحوّل الإعلام من (ثغر) يجتذب الكثير من الرّماة والقنّاصين الرساليين المَهَرة، إلى (ثغرة) خاوية من الجنود المحترفين إلا من قليل المُضحّين أو الهُواة أو المبتدئين الذين لم يجدوا وسيلة محترمة تستوعبهم كما أسلفنا.

ولعمري إن درس الإعلام درس شديد الأهمية والخطورة، حيث يتطلب الأمر من الأحرار إعطاء الإعلام أهمية فائقة، عبر رفده بالعقول الذكية والمواهب المتميزة وبالأفكار المتنوعة والأجهزة المتطورة، وإمداده بالأموال الوفيرة والخبرات الغزيرة، مع امتلاك خارطة الواقع الاجتماعي بكل ما فيه من علل وأوجاع، وذلك بمعرفة التضاريس الثقافية للشعوب وفهم مناخات طبائعها المختلفة، حتى يتم الدخول عليها من أبواب متفرقة مع التركيز على المَداخل المؤثرة، بحيث يتم الاستحواذ على عقولها وزرع شتلات الوعي في أنحائها، وتحويلها من أصفار أو أكسار عشرية إلى أرقام صحيحة تأخذ دورها في معترك النهوض الحضاري.

وفي الحقيقة فإن الأحرار إذا لم يستفيدوا من هذا الدرس الكبير بعد كل هذه التضحيات وكل هذه الدماء والأشلاء فمتى سيستفيدون؟!

وإذا كان جيش محمد بن عبدالله قد هُزم في موقعة أُحُد لأن الرماة نزلوا من مواقعهم في نهاية المعركة، فكيف بمعارك اليوم التي أصبح الإعلام هو السلاح الفتّاك فيها، حيث ألغى عصرنا الإلكتروني المسافات بين القارات والدول، ونجحت بعض وسائله في اقتحام غرف النوم وجعل العالم كله قرية واحدة ؟! ولقد حَثّ القرآن الكريم على المُماثلة في وسائل المواجهة مع العدو هذا إن لم نستطع تحقيق التفوق عليه، فهو يقول مثلاً: {وقاتِلوا المشركين كافّة كما يقاتلونكم كافة..}، وبعيداً عن المعنى المباشر للوحدة المنشودة فإنه هنا يحث على المماثلة المشار إليها بكلمة {كما}، إذ كيف لأناس متفرقين أن ينجحوا في صدّ أناس متوحدين، وبالمثل فإن من افتقر إلى وسائل الإعلام لا يمكنه أن يتفوق على من يمتلك منظومة ضاربة من هذه الوسائل التي ترفع معنويات الأولياء وتضعف معنويات الأعداء، وتمتلك قدرات خارقة على رفع الهمم ومضاعفة الفاعليات، إذ يمكن لهذه الوسائل أن تحيل قوة الأعداء إلى رماد اشتدّت به الريح في يوم عاصف، إن اقترنت بخطة علمية شاملة!

لقد صار الإعلام في عصرنا قوة خارقة بالفعل، حيث يمكنه أن يسحق قوة الأعداء ويمحق نقاط تفوقهم، إن تم استثمار كافة إمكاناته، وفي المقابل فإنه يقوم بدور خطير على مستوى الداخل، وذلك في التعبئة والتحريض وفي مضاعفة القوة وتكتيل الطاقة.

ولذلك لابد للأحرار من امتلاك مقاليد الإعلام بتنوع وسائله وأجهزته المتطورة، وبمواهب وخبرات القائمين عليه والذين أصبحوا أعظم من سحرة موسى في هذا العصر، ولاسيما أن إعلام الظالمين يعتمد على الهرطقات والأكاذيب، وإذا ألقى الإعلاميون الصادقون عصا الحقيقة ابتلعت ما يأفكون! وما لم يتم ذلك على وجه السرعة فستستمر جهود الأمة في التكسر على صخرات الإعلام المعادي، وسينجح أباليس الاستبداد والفساد في شيطنة الصالحين، وستبقى جموع من عامة المسلمين ضحية للإعلام الفاجر الذي يقلب الحق باطلاً والباطل حقاً، فهل سنستفيد من هذا الدرس؟ وكيف؟ ومتى؟

هذا ما ينبغي أن تجيب عنه رؤى النهوض وخطط الإقلاع الحضاري المنشود، وهو ما سنحاول أن نسلط عليه الضوء في الحلقة القادمة بإذن الله تعالى.

أ.د. فؤاد البنّا،رئيس منتدى الفكر الإسلامي،أستاذ العلوم السياسية جامعة تعز.

وسوم: العدد 781