سطوة المعايير.. حياتنا في عالم معياري!
يختطّ البشر معاييرهم فتفرض سلطانها عليهم، وقد يغفلون عن أنهم مَن صنعوها فتستعلي على النظر وتتمنّع عن المراجعة. ومن سطوة المعيار أن يُنزَل منزلة المقدّس فلا يُجرّد للنقد ولا يَحتمل الردّ. وقد يُحتفَى بالمعايير حتى تُعَدّ بذاتها فضيلة مؤكدة رغم قابليّتها للتعبئة بالمغزى ونقيضه، وجاهزيتها لوجوه متعارضة في الاستعمال والتوظيف. ومع اتجاه الاجتماع البشري إلى عالم معياري تزداد معاييره تمدّداً وعمقاً وصرامة؛ تتأكد الحاجة إلى مراجعة المعايير وفحصها في المجالات كافّة، بما يشمل المعايير المدوّنة والعُرفية والتصوّرية في مجالات شتى، مع الوعي بتخلّل المعايير الواقع من مداخله المتعددة؛ بما يستعصي، عملياً، على الضبط والحصر.
هيمنة المعايير على الحياة
تسطو المعايير على أبعاد الحياة وتتحكّم بتفاصيلها بصفة غير ملحوظة أحياناً؛ بدءاً من تعريف الزمن بمؤشِّرات عددية فُرِضَت للدلالة عليه، حتى نهض المؤشِّر بمقام الزمن ذاته رغم أنه تعبير معياري عنه لا أكثر. وآية ذلك اختزال الزمن في حزمة معيارية تَفرِض الامتثالَ لمنطِقِها حتى في طقوس الرقاد والاستيقاظ، رغم تحرّك مؤشرات الزمن الطبيعي في الواقع عبر فصول أربعة وما يتخللها من انزياحٍ ومرونة في مواصفات الأوقات. صار على الإنسان بالمنطق المعياري هذا أن يرضخ لرنين ساعة مُنبِّهة، وأن ينضبط وَعيُه الداخلي بالزمن لعقاربها الآليّة هي أو لمؤشراتها العددية، فهي الساعة التي تضمن دوران الإنسان بين تروس حياة نظامية قد تُلجِئُه إلى خسران راحة البدن وصفاء الروح واستبشار الصباح.
وقد امتدّت يد المعايير إلى البشر في بواكير خطوط الإنتاج والتجميع التي استحدثوها؛ حتى تماهى الإنسان في بعض تطبيقاتها النظامية الصارمة مع الآلة، كما تطوّرت في خبرة شركة "فورد" للسيارات مثلاً، قبل أن تزيحه الآلة من بعض مواقع العمل في صيرورة إحلالية متصاعدة قد يستشعر معها أنه كان بمثابة عجلة مسنّنة فيها.
وتساوقاً مع روحها المادية؛ تُذكي المعاييرُ رَسْمَلَة الإنسان (ورَقْمَنته أيضاً في الزمن الجديد)، فيُعَدّ بذاته صِنْوَ الموارد اللازمة للتشغيل والإنتاج، حتى تكاثر المتحدثون البارعون عن "الموارد البشرية والمادية" والمنادون بضرورات العناية بـ"رأس المال البشري" وتثميره بفنون "التنمية البشرية". وستتكفّل هذه الأخيرة عبر مساراتها التأهيلية المتفشِّية في المجتمعات بتربية الإنسان على الانتظام وفق منطق معياري مُسبَغ على الزمن وطرائق التفكير وخيارات الاشتغال، كما يأتي في مصادرها الأمريكية غالباً، مع شحن عناصر الجمهرة برشفة فردانية لا تتجاوز قوالب معيارية وإن زعمت إخراج العملاق من قمقمه وبعثه مبدعاً فذّاً أو قائداً عظيماً، فيكون عليه في نهاية المطاف أن يتصرّف وفق طقوس مخصوصة وإن بدت متمرِّدة على النسَق والمألوف، وحبّذا لو أتبعها أحدُهم بدوراتٍ دؤوبة في فنون الحركات والسكنات والإيماءات وطرائق التصرّف وأساليب الحديث ولغة الجسد، كي ينتهي به مسعى التعليب المعياري إلى انضباط تمثيلي نمطي طوعي لمقتضياتها بلا مناقشة نقدية غالباً.
ومن الإنصاف القول إنّ حياة البشر لا تستقيم بلا معيار إليه تحتكم، لكنّ المعايير ليست حيادية، وسطوتها المكثّفة مؤهّلة لمصادرة مسار الحياة والهيمنة على تفاصيلها بما يضبط الإنسان ذاته ويباشر إخضاعه دون مقاومة. فإن جاء التعليم النظامي بديلاً عن وجوه التعليم التقليدية وفكاكاً من أمِّية الحرف المقيتة؛ آلت نظاميةُ التعليم بمحطّاتها الرتيبة ومراحلها المتعاقبة إلى مسار جبري قد يتسبّب في خنق الإبداع والمخاطرة في بعض تطبيقاته بطمس فرص التمايُز التي يمليها تنوّع الحاجات وتعدّد الخصوصيّات. ومما يجدر فحصه، مثلاً، مدى مراعاة بعض وجوه هذا النظام التعليمي المعياري حاجاتِ الإنسان الاجتماعية مثلاً، وإن كان يتوافق في تطبيقاته، حقاً، مع التطوّر النفسي والفسيولوجي ومتطلبات تشكيل أسرة في المحطة الأمثل من حياة الفرد، فضلاً عن انسجامه مع تنوّع الثقافات والخصوصيات في عالمنا.
وإن لجأت تشكيلاتُ البشر، مثل أطر العمل الجماعي والمنظمات والجمعيات، إلى صوْغ معايير للانتساب إليها والارتقاء فيها، لتنظيم الاستيعاب الكمي والكيفي في صفوفها؛ فإنّ مسعاها هذا قد ينزلق إلى فخّ القوْلبة التي لا تحتمل حالاتٍ غير نمطية تفيض بشحنة الإبداع والتطوير. ولا عجب، إذن، أن تحرص بعض التنظيمات والمؤسسات على حشد حفظة النصوص المؤسِّسة و"قيم المؤسسة"، والمواظبين على حضور فعّالياتها وسداد اشتراكاتها؛ زاهدة بمن أثقلتهم المعضلات وأشغلتهم التحدِّيات خلال انهماكهم في مقاربة الواقع وتشوُّف الآتي.
ومن مفارقات الحالة أنّ حشداً من روّاد الحقول وفرسان النجاحات اشتُهروا بمروقهم من المعايير النظامية المخصصة للتأهيل والارتقاء، حتى أنّ بعضهم لم يفلح أساساً في الانضباط المدرسي أو مواصلة تعليمه الجامعي، كما في حالة بيل غيتس مثلاً، لكنّ الحقول العلمية والمعرفية والعملية التي بزغوا فيها والمؤسسات الكبرى التي نهضوا بها، مثل "مايكروسوفت"، لم تتنازل عن معايير الالتحاق المعيارية التي تفرض الانصياع لأنظمة لم يحتمل أعباءَها الروّاد والمؤسِّسون.
أداة ضبط وتحكم
إن برزت المعايير ضمن شروط التحديث الواجبة؛ فإنها تبقى في ذاتها أداة ضبط وتحكّم وهيمنة، وقد تفرض سلطانَها على الإنسان والطبيعة والأشياء والتصوّرات. وقد استعمل الإنسانُ المعاييرَ لكبح الطبيعة ووضَعها في مسارات محسوبة بعد أن كان يخشاها ويشعر بالوحشة في الغابة. هكذا أتت المعايير الإنتاجية الدؤوبة على مساحات غابيّة شاسعة، وفعلت فعلها المشهود بكوكب ظهر الفساد في برِّه وبحره.
كما عبّرت بعض مدارس البَسْتَنة في التجربة الأوروبية عن نزعات متطرِّفة في الإخضاع والضبط والتحكّم تساوَقت مع ميْل جارف لقهر الطبيعة وإخضاعها وتقييدها وفق أنظمة محددة. تتجلّى روح المعايير في مشهد أنيق أنجزه التقليم القسري والتصفيف المُحكَم، لكنه يختزن في ذاته نزعة إخضاع وضبط متطرفة تنسجم مع مجتمعات التدوير الصناعي والمنطق الإداري الحديث. لا يسمَح التنسيق المتطرف لغصن بأن يتفرّع عن نطاق محدّد له، أو بأن تتجاوز الفروع هوامش الضبط المقيّدة، بما يقتضي إخضاع "الزوائد" المتحررة لضبطٍ متواصل ضمن مساحة البستان. إنها حصيلة معركة مُفتعلة حُسِب فيها ابتداءً أنّ الإنسان قد انتصر على الطبيعة وأخضعها بعد أن أخافته في أوروبا حتى العصر الوسيط، فباشر طمس الغابة التي كانت مرتع الأشباح والسحرة والأساطير البائدة، وأقام طبيعته المتصوّرة على أنقاضها مع ميْل لاستعراض مُنجزه البشري الذي كيّفته المعايير الصارمة.
وفي ملابسات شبيهة جرى التوجّه إلى إخضاع البشر وتنميط ثقافاتهم خلال الحقبة الاستعمارية فانتهت بهم إلى معايير نموذجية جسّدها زي نمطي موحّد وقعت عوْلَمته على حساب أزياء شتى ظلّت كناية عن بيئات وثقافات وأوساط وأزمان، وهو زي أوروبي المنشأ تم فرضه بسطوة التصوّر ووهج النموذج ومنطق السوق حتى جبّ غيره من الأزياء التي حُسِبت على ماضٍ متخلِّف. إنّ اقتفاء المعايير على هذا النحو يشي بتبعية كامنة طبعت مرحلة ما بعد إعلانات الاستقلال ولا زالت ظلالها حاضرة، وهي معايير جرت على اللسان والهيئة والسلوك وسِمات الأوساط والطبقات، وأمسكت بخطام التعليم والثقافة والإعلام، وبرزت شاخصةً في البنى التحتية والتشغيل والأنظمة والمقاييس والضوابط. وقد يُرَى أنّ هذه المعايير هي حصيلة تطوّر لا يجوز التنكّر له، دون أن يُلحَظ أنها قامت غالباً على التقليد والمحاكاة المعطِّليْن للابتكار والإبداع، وأنها ضيّقت واسعاً وانغلقت دون خيارات تنوّعت بها تجارب الأمم فجاءت أحادية المصدر تأسيساً على تبعية الأطراف لمركز مُهَيْمن دون سواه.
يصحّ القول، إذن، إنّ القدرة على اجتراح المعايير، المتجددة بطبيعتها، هي سمة استقلالية تغيب عن أمم تُطارِد نسخَ "الإيزو" المتلاحقة بلا مناقشة نقدية؛ دون أن تقوى على اقتراح أي نماذج تُذكَر على ذاتها والعالم. وتبلغ الحالة مبلغها في السنّ الوضعي المتسارع لمعايير تأسيسية في الاجتماع الإنساني وبنيانه، كما في مواصفات الفرد والأسرة والاقتران والأواصر والحقوق الأساسية والحريات العامة والخاصة وما يتفرّع عن هذا كله في مسارب الواقع البشري المُعوْلَم.
ومن شواغل العالم المعياري ما يتخلّل بعض البيئات من تنازع مشهود بين العشوائية والانتظام، أو بين التحرّر والتنظيم، أو بين البداوة والتحديث. من شأن هذا أن يُفسِّر مُشاهدات لا تخطئها العين في بعض البيئات، مثل سيارة الدفع الرباعي التي تنفلت عن طريق مُعَبّدة إلى جانب ترابيّ، للانعتاق عن نهج عبّدته الحكومة وسط الصحراء وفرضت معه معايير مرورية صارمة. إنها نزعة التمرّد على معايير مفروضة، وروح استقلال عن السلطة المركزية؛ يتلبّسها ضعف ظاهر في التهيّؤ المجتمعي للتنظيم الحديث.
يستبطن التنظيمُ ثقافةَ ضبطٍ وقهرٍ رمزي تستعلي عليها الأنفة البدوية بسلوكيات رمزية أيضاً تفرِّغ شحنة التمرّد، كما في ممارسة "التفحيط" مثلا. إنه انعتاق من مسار جبري مفروض أو تجاوز لمعايير محددة، وهذا ضمن بواعث وملابسات أخرى للحالة. يُلحَظ هذا في بيئات تتلبّسها ثقافة البادية التي انفتحت تاريخياً على فضاءات غير مقيّدة ثم أرغمها التحديثُ على الالتزام بمسار محدّد مرسوم وسط الصحراء له معاييره المفروضة بسطوة القانون والجزاء.
ويقع في هذا السياق تضخيم الوعي بالمركوب بصفة تحرِّض على الانطلاق به بلا قيد وهو ما تدغدغه إعلانات السيارات أيضاً، بما يحاكي فروسيةً منطلقة على دابة العصر المسقية بالبنزين. لكنّ روح الانطلاق والتمرّد هذه لا تحتمل الانتظام في خطوط إنتاج ولا تقوى على توزيع أدوارها، فهي عجولة ومُباشِرة وتريد نتاجاً سهلا لجهدها مع ميْل إلى تحييد المعايير أو اختزالها، بما يجعل مجرد الانتظام في طابور، مثلاً، مطلباً شاقاً عليها.
معايير السوق والعيادة والنطف
يسحق المتجر الكبير صغار الباعة بما يعرضه من وَفرةٍ ظاهرةٍ للعيان لا قِبَل لهم بمنافستها، لكنه يحتكر معايير الأصناف لذاته بتحيّزات يُمليها منطق السوق. إنه يتلاعب بالأصناف المعروضة فيبزغ بعضها محلّ آخر، حتى يحنّ الناس إلى بعض ما ارتبطت به طفولتهم ونشأتهم منها وقد فارقتهم أصنافٌ خَلَت دون وداع. وإذ يحتفي المتجر الكبير بتنوّع الوفرة المعروضة لزبائنه؛ فإنه يخلب أنظارهم بأصنافها المتراصّة بانتظامٍ يُتيحه التماثل والتناظر بفضل معايير التصنيع والتغليف والتعبئة الصارمة.
وفي خلفية المشهد المرئي تدابيرُ قسرية يفرضها "السوبرماركت" على ثمار الحقل باستبعاد المتمرِّدة منها على المعايير في شكلها، دون أن تشفع لها الصلاحية الاستهلاكية بدخول المتجر. تضغط هذه السطوة المعيارية على المزارعين فيندفعون إلى طلب بذور مجهّزة في مخابر مختصّة تَعِد أهل الغِراس بمحاصيل متماثلة تتوافق مع أبعاد الصناديق المخصّصة للشحن في حاويات معيارية وتنسجم مع العبوات المتناظرة المكرّسة للعرض.
كما يفرض السوق معاييره على المجتمعات بمنطق الإنتاج بالجملة، فقياسات الملابس تظلّ محدّدة وإن تنوّعت، وهي نمطية في هيئاتها ومواصفاتها وألوانها بالأحرى مهما تزايدات وتنوّعت، وفق ما يقرِّره أرباب السوق بالتواطؤ مع راسمي الأزياء في كل موسم دون استشارة المستهلكين الذين عليهم تقمّصها والقبول بها دون مناقشة. لا تستجيب الخيارات المتعددة من المعروض لما يطلبه البشر جميعاً، فينزوي بعضهم عن المتاجر الكبرى قانطين منها دون أن يجدوا ما يخاطب أذواقهم أو يلائم أبعادهم أو يُراعي خصوصياتهم أو يحترم ثقافاتهم. يُفارِقون المتاجر إلى الهامش، بعيداً عمّا اصطلحت عليه المجتمعات المعيارية بلفظة "مين ستريم"، أي الوسط المجتمعي الرئيس، وهذا لمروقهم من معايير هَيْمن بها السوق على وَعيِهم بألوان العرض وغواية الإعلان.
هي الحال التي تحاكي مَوزةً قذف بها "السوبرماركت" بعيداً لانحناءة زائدة، وقد تُوافِق مصير برتقالة مُستبعَدة من صندوق الشحن لأنّ استدارتها لم تتوافق مع المعايير، وهي مصائر بائسة أتت على ثمار منسيّة في الحقول بعد الشكّ في انسجام شكلها مع معايير السوق. يفرض الانتظامُ المعياري استبعادَ بعض المقاسات من المتاجر وكأنها غير معرّفة أو ليست جديرة بالعرض. إنه مسعى النبذ الذي يُقصي ذوي المقاسات المُستبعَدة ويدفعهم نحو الأطراف بحثاً عن باعة في الهامش المجتمعي أو على أطراف السوق، وقد يتمركز هؤلاء في ضاحية مُهمّشة أو على تخوم المناطق الصناعية ومسالخ الذبح ومرافق القمامة.
تُساهم هذه الحالة بقسطها من التحريض على التلاعب بالهيئة والشكل لضمان البقاء ضمن الوسط المجتمعي المُعترَف به بموجب معايير نمطية، بما يُنعِش صناعات التغيير الشكلي التي تعكف على التقليص والزيادة، والشفط والنفخ، والطمس والتحوير. تعرض عيادات التحوير البشري صوراً ونماذج معيارية في هيئة أدلّة ملوّنة تُرشد زائريها إلى التلفيق الأمثل لهيئاتهم الجديدة المطبوعة في الأذهان، والتي ستجسِّد النموذج المعياري الساطع في تصوّرهم حتى ينتصب شاخصاً لهم في المرآة.
فالبشر ينصاعون لسطوة معايير استولت على أذهانهم، وهي تتشكّل بسلطة الاعتياد والتكرار والتثبيت وضغط الواقع؛ وبتصوّرات ساذجة تعقد ارتباطات شرطية غير مبرّرة بين الشكل والفحوى أو الهيئة والقيمة. هكذا يرى بعضُ العالقين في أمم الجنوب الذابلة أنّ النجاحَ أبيضَ البشرة وقد يلازمه شعرٌ أشقر على الأرجح، بما يُنشئ تحيّزات إلى أنماط شكلية مخصوصة تفرض سلطانها على بعض وجوه التوقّع والتصرّف، مع نزوعٍ إلى الفكاك من هيئة الذات لمحاكاة مثال بازغ في الأذهان، كما تشي بذلك عمليّات التحوير والتغيير في الأشكال والهيئات. إنها ليست تجميلاً، كما تسمّى، سوى في تصوّر أصحابها الحيارى وعناوين عيادات يطرقون أبوابها، فهي تجسيدٌ لمنحى الانتحال الشكلي الخاضع لهيمنة معيارية على الأذهان، غذّتها عُقد حضارية وصناعة ثقافية وتدفّقات إعلامية.
تتدحرج الحالة لتسطو على المعايير الوصفية للأجيال الجديدة. فقد صارت أجنّة الزمن الجديد تُطلَب أيضاً وفق أدلّة معيارية تخلط النُّطَف في مخازن مختصة ببيعها، لتستقرّ في أرحام بلا آصرة إنسانية سابقة عليها. تَعرِض مخازنُ النُّطَف هذه بضاعتها البشرية للمشترين الذين يُقبِلون على هذه "البنوك" لنحت المواليد الجدد حسب رغباتهم. تُعرَض المواصفاتُ المرغوبة وفق الأدلّة المعيارية رجاء أن ينبثق الوليد من الرحم على الهيئة المُعيّنة سلفاً، مع إقصاء غيره من الاحتمالات المنبوذة. تتفاعل في هذا المنحى المارق تحيّزات البشر التي تسعى لتجسيد صور نمطية مستقرّة في الأذهان دون أن تخذل نزعاتٍ عنصرية/ سلالية كامنة تنبذ غيرها في مواصفات الجنين قبل نفخ الروح فيه.
أنسنة المعايير
لا تُذَمّ المعايير في أصلها، فالحاجة إليها تتلبّس العيشَ البشري الذي يجنح بغيابها ويضطرب بضمورها، وهي حقيقة لا تُزَكِّي المعايير في فحواها التي ينبغي تسجيتها على مشرحة النقد بلا هوادة. إنّ العيش في عالم معياري صارم يفرض مراجعات جادّة لفلسفة المعايير المعتمدة فيه ويقتضي جرأةً على فحصها وتقدير جدواها واستشراف عواقبها، مع الحرص على تحييد استعمالاتها في مناحٍ ذات وطأة على البشر. ولا ريب أنّ الاقتدار على مناقشة المعيار المُعولَم الذي تدور الأمم في فلكه هو من أمارات المشاركة الحضارية والانعتاق من التبعية التي تفرض سلطانها المعنوي في عالم المعايير.
وما يقتضي الاحتراس أيضاً؛ أنّ المعايير قابلة لأن تصدر عن أيديولوجيا كامنة وأن تتشبّع بها ظاهراً أو باطناً، حتى وإن تذرّع أصحابها بنبذ الأيديولوجيات ونفي التحيّزات في حيلة متذاكية قد تأتي بمقولات أيديولوجية في لبوس "قيم كونية". غني عن القول أنّ المعايير التي يُراد بها تحقيق الانتظام وتيسير التنظيم قد تفرض سطوتها على الواقع، وقد توجِّه فعلها الإقصائي في خدمة تحيِّزاتها. فالمعيارُ يقتضي الاستبعادَ أساساً، بما يجعل سنّ المعايير خياراً مثالياً لمحاولات التفرقة المنهجية والميْز المؤسسي والأحادية الثقافية؛ وهو ما يتجلّى مثلاً في سنّ القوانين الجائرة والمواثيق غير العادلة.
إنّ طابع القهر الرمزي الذي تقوم عليه أصناف من المعايير التي تبتغي تحقيق الانضباط المجتمعي بسلطان العقاب والثواب، بدءاً من الحياة المدرسية، هي مجال آخر للتحقّق والفحص، درءاً لسوء الاستعمال الذي لابدّ وأن يحصُل، بوعي أو بدون وعي، في واقع الاجتماع البشري. وقد تفتقر المعايير إلى امتياز الأنسنة وإن تذرّعت بالإنسان، وقد تغفل عن القيم التراحمية في ذروة انشغالها بالمعايير التعاقدية؛ التي تفرض في دول أوروبية كيفيات محددة للتخلّص من رفات الموتى بالإحراق مثلاً إن لم تُستوفَ شروط تعاقدية معيّنة.
ومن وجوه المخاطرة أن تتركّز صنعة المعايير المُعولمة في عالمنا في أقاليم دون غيرها، في خذلان لمقتضى التنوّع الثقافي والتعددية والتشاركية، بما لا يبتعد في نهاية المطاف عن تموضع النفوذ والقوة والوفرة والعلوّ. فعلى عالمنا أن يتحرّر من تسخير المعايير في خدمة السطوة والهيمنة، أو اتخاذها أداة تحكّم ناعمة تفعل فعلها في دنيا الناس وحركة التاريخ، خاصة مع إدراك أنّ مجال اشتغالها يتمدّد ويتعمّق باطراد. ورغم ذلك كله؛ ستواصل بعض الأمم والمجتمعات محاولاتها للبرهنة على جدارتها بالامتثال لمعايير في حقول شتى وإن لم تشارك في سنِّها، وستبقى بانتظار ما ينسخها من معايير متجددة تهبط عليها كي تنصاع لها أيضاً بلا نقاش أو تردّد.
وسوم: العدد 785