فقه التوك توك!

في عام 1993م زرت بنجالاديش. ورأيت لأول مرة تلك المركبة الصغيرة المعروفة بالتوك توك. كانوا يسمونها "بيبي تاكسي"، أي التاكسي الصغير. كانت وسيلة النقل للطبقة الوسطى هناك. لم تكن بالكثرة الموجودة الآن في مصر، كان بجانبها يوجد عدد قليل من سيارات الفيات يستخدمها كبار القوم. الحالة الاقتصادية هناك ليست على ما يرام، مع أنها البلد المنتج الرئيس لشاي الليبتون، وبين المصريين والبنغاليين علامات تشابه كثيرة، منها: الفقر والعشوائيات، والاستبداد الحاكم؛ مع أن هناك انتخابات ديمقراطية فالطبقة الحاكمة علمانية وتكره الإسلام وتسحق أغلبية الشعب بحذائها الطبقي الثقيل، وقد أعدمت في العام الماضي عددا من علماء الدين كبار السن (بعضهم تجاوز التسعين) لأنهم كانوا يدافعون عن الإسلام، والوحدة مع باكستان، والاستقلال عن الهند المتحرشة دوما بالمسلمين والإسلام جميعا.

قبل عقدين أو أكثر؛ في ميت غمر أو زفتى لا أذكر، استطاع الميكانيكية والحدادون تقفيل سيارة صغيرة مكونة من موتور ماكينة ري وهيكل من الصاج مربع الشكل، وعجلات من الكاوتش المستعمل، وصار الفلاحون يستخدمونها داخل الحقول، وخاصة المساحات الواسعة نسبيا، ومن هذه السيارة تولدت فكرة التوك توك في صورته البدائية قبل استيراده من الهند والصين بكميات مهولة استوعبت مئات الآلاف من الخريجين المتعطلين، ثم عشرات الآلاف من المسجلين والأطفال أكثرهم مدمن، ويتعاطون الترامادول والكحول وأدوية السعال وغيرها.

بعد أن كان التوك توك قاصرا على القرى والعمل في داخلها والانتقال بين عشوائياتها، احتل المدن الصغرى فالكبرى فالعاصمة، واخترق تنبيهات المرور الإنشائية، التي تقضي بالعمل في الأطراف، والعشوائيات فحسب، وانطلق إلى قلب القاهرة، والطرق السريعة، وصار من الممكن أن تجد سيارة حديثة، يسابقها توك توك على الزراعي بين القاهرة والإسكندرية، ولا بأس أيضا أن يشارك في الزحام على الطريق السريع مع النقل الثقيل- المقطورة والتريلا، ليلا ونهارا، حيث يتخلف عن ذلك حوادث مرعبة، لا تؤثر بالضرورة في رفاهية القائمين على المرور ولا غيرهم من المسئولين.

يقال في بعض التقديرات إن عدد التكاتك في بلادنا وصل إلى مليونين ونصف مليون. وأضحى استيراده سهلا وبسيطا، حيث تطوي أجزاؤه فيما يشبه الحقيبة، ويمكن تجميعها في نصف ساعة. ويعد سعره متاحا، ولهذا يندر أن تجد بيتا خاليا منه في بعض القرى والأحياء الشعبية.

في تحقيق للمصري اليوم  ٢/ ٨/ ٢٠١٨ قالت: "نعم، التوك توك وسيلة مواصلات باتت ضرورية في هوامش المدن والقرى والعزب والنجوع.. نعم صارت وسيلة رزق وأكل عيش لمئات الآلاف من الأسر وشباب العاطلين.. ولكنها صارت ظاهرة مفزعة مخيفة غريبة الأطوار يخشى منها، وإذا لم تضبط فستتحول إلى وباء يضرب البلد". وأضافت الصحيفة: "ما لا يدرك كله لا يُترك جله.. وما فاتنا من تنظيم استيراد وتراخيص وتسيير «التوك توك» ليس مدعاة أبداً لترك الحبل على الغارب للتوك توك ليرتع ويمرح ويسرق ويغتصب ويقتل فينا أعز ما فينا، كما حدث مؤخراً ويحدث كثيراً وتكراراً ومراراً".

فصّلت الصحيفة ممارسات هذا الكائن وجرائمه التي كسرت كل الإشارات الحمراء، وتعدت الخطوط البيضاء، وأطاحت بالقواعد، وطالبت بضبطه وربطه بقانون فوقى، من فوق، من مجلس النواب، فقد صار إمبراطورية تنتشر وتتوغل حتى صارت غولاً يُخشى منه.

قالت الشعبة العامة للمواد البترولية بالاتحاد العام للغرف التجارية إن مركبات التوك توك والموتوسيكل مسؤولة عن استهلاك نحو ٥٥% من البنزين ٨٠ الذى يتم استهلاكه في مصر، وكان ذلك السبب الرئيسي في وقف مشروع الكارت الذكي للبنزين التي حاولت الحكومة تنفيذه قبل ٣ سنوات.

مشكلة هذه المركبات الصغيرة التي يطلق عليها البعض لفظة صراصير تشبيها لها بالحشرة المزعجة، أن خطرها امتد إلى كل مكان وتعمل خارج القانون وضد القانون. صحيح أن لها أهمية أو ضرورة في بعض المواقع والمواقف، ولكن كثرتها الكاثرة تقود إلى مآس لا يعلم مداها إلا الله، اجتماعيا وأمنيا وثقافيا. الصحف اليومية والمواقع الإلكترونية تنشر يوميا ما يوجع القلب والعقل من حوادث بطلها الأول هذه المركبة، وأعتقد أن المستقبل سيكون مظلما إذا استمر الأمر على ما هو عليه.

إن وجود هذه المركبة بهذه الصورة يمثل فشلا ذريعا للسلطة، ويعبر عن انتقالها إلى عصر الفوضى المظلمة التي تسود فيها شريعة الغاب. من يملك القوة هو الذي يفرض إرادته، ويؤمّن سيادته، ويعلي منطقه ولو كان باطلا وقبحا وفجاجة!

يمكن القول إن فقه التوك توك شريعة وطن، ودستور عصر، وقانون مجتمع، تجد ذلك في المجالات كافة، في الإعلام والصحافة والفتاوى والتعليم العام والجامعات والفنون والآداب والثقافة والعلاقات الاجتماعية والقيم الوطنية، وكل ما يخطر ببالك من أمور وقضايا وأحوال عامة وخاصة. القوة هي الفيصل، وليس الحق، ومثلما يقوم الصبي سائق التوك توك "المبرشم" بضرب الراكب دون أن يخشى من الضرب المقابل، لأن المخدر أفقد جسمه الإحساس بالألم، وكما ينحدر سيل السفالة من فمه دون أن يجد من يوقفه، فالمنهج ذاته يسود في تعامل السلطة مع الشعب، والمسئولين مع المواطنين، والمؤسسات مع الأفراد. من أنت ومن يسندك؟ فليذهب صاحب الحق الضعيف الذي لا يعترف به أحد، إلى القضاء حتى يصل إلى مرحلة الشيخوخة، أو باب القبر بعد أن يخسر القضية! مات الضمير الذي يصنعه الخوف من الله، ليحل مكانه شيء آخر. سمّه الأنانية، سمّه شهوة القوة، سمّه غريزة الغلبة، سمّه باسمه الشعبي: البلطجة. في ظل البلطجة بمستوياتها المختلفة يعيش الناس. علينا إذا أن ننسى القيم التي تسمى العدل والحق والصدق والإنصاف والمروءة والشهامة والتعاون والتفاهم والحوار، ونستسلم لقيم الظلم والباطل والكذب والغبن والنذالة والخسة والأنانية والتباغض والشجار...

فقه التوك توك يقود المجتمع إلى الهاوية، لأنه لا يعترف بالقيم الإنسانية التي أرساها الدين الحنيف، ولا المواثيق الدولية وهيئات حقوق الإنسان العالمية. والدليل هو الإغارة على إرادة الشعب يوم اختار رئيسا ونوابا وقادة نقابات ورؤساء جامعات، وتم التنكيل بكل من اختارهم الناس، وإرغام المعارضين على الصمت، وإلا فصندوق الذخيرة يحسم كل خلاف، وأبواق السفالة حاضرة للتجريح والتشهير والتشويه. فقه التوك توك لا يبني وطنا، ولا يصنع حضارة، ولكنه يقيم تمثالا للظلم والطغيان، وثقافة القوة.

الله مولانا. اللهم فرج كرب المظلومين. اللهم عليك بالظالمين وأعوانهم.

وسوم: العدد 786