د. حلمي القاعود لـ “رأي اليوم”: إنهم يشيطنون “الإسلام”!
وزارة الثقافة حولت الثقافة الى “سبوبة حرام” والدولة تقصر النشر على من يطبلون لها
دعا الناقد والمفكر د. حلمي القاعود رئيس قسم اللغة العربية الأسبق بكلية الآداب جامعة طنطا الى إلغاء وزارة الثقافة المصرية بعد أن تحولت حسب رأيه الى “سبوبة حرام” لبعض المنتفعين، مشيرا الى أنها لا تقدم أنشطة ذات قيمة، لأن الغالب عليها أنها أنشطة احتفالية الهدف منها التصوير والظهور الإعلامي، ومعظم ما ينشر أو يعرض لا قيمة علمية أو أدبية له، باستثناء مركز الترجمة. وأضاف القاعود في حوار مع ” رأي اليوم ” أن المؤسسات الرسمية تنفذ سياسة معينة؛ فهي تقصر النشر على مؤيدي السلطة أو من “يطبّلون لها”، بل إنها تكرر نشر كتبهم المتواضعة أكثر من مرة، تنشرها مفردة، أو مجموعة باسم الأعمال الكاملة. د. القاعود برغم تجاوزه الثانية والسبعين من العمر، فإنه لا يزال قادرا على تحريك الماء الراكد سياسيا وفكريا وأدبيا . له عشرات المؤلفات تحقيقا وتأليفا، من أشهرها : تطور النثر العربي في العصر الحديث، وتطور الشعر العربي في العصر الحديث، الأدب المقارن : المفهوم والتطبيق، العمامة والثقافة، ثقافة التبعية، الغروب المستحيل، مدرسة البيان في النثر الحديث، وغيرها الكثير . د. حلمي في فمه ماء كثير، سألناه عن واقع الثقافة المصرية والنشر والتأليف واستمعنا إليه، فكان هذا الحوار الذي أجاب عن الأسئلة كلها بأريحية عُرف بها. ما جديد د. القاعود؟ للأسف لم يظهر لي كتب جديدة هذا العام. أعيد طبع كتابي مدرسة البيان في النثر الحديث، عن دار البشير، وهو كتاب ضخم يزيد على خمسمائة صفحة من القطع الكبير، ويتناول أشهر أصحاب الأساليب البيانية في العصر الحديث مثل المنفلوطي والرافعي والزيات والبشري، وخصائصهم الفنية. في العام الماضي صدر كتابي “المآذن العالية” عن دار المقاصد، أترجم فيه، وأعيد الاعتبار كما يقول أهل القانون؛ لمجموعة من الأعلام الكبار الذين أثروا تأثيرا واضحا في ثقافتنا الحديثة، وتجاهلتهم الدراسات الأدبية والنقدية. دور النشر الإسلامية الخاصة في أزمة، ويضطر أغلبها إلى نشر الكتب الخفيفة أو غير الرسالية التي تحقق عائدا ماديا لتواجه التزاماتها، ولهذا تؤجل نشر الكتب ذات الوزن العلمي. ولدي عدد كبير منها ينتظر الظهور إن شاء الله. ولماذا لا تنشر في المؤسسات الرسمية التي تملكها الدولة؟ تعلم أن المؤسسات الرسمية تنفذ سياسة معينة؛ فهي تقصر النشر على مؤيدي السلطة أو من “يطبّلون لها”، بل إنها تكرر نشر كتبهم المتواضعة أكثر من مرة، تنشرها مفردة، أو مجموعة باسم الأعمال الكاملة، وتعيد نشرها في هيئة الكتاب، أو هيئة قصور الثقافة، أو المجلس الأعلى للثقافة، أو دار الكتب والوثاق القومية. وهكذا يعيش المؤيدون والمطبّلون تخمة في النشر، الهدف منها مزيد من المكافآت أو المقابل المادي، بينما غيرهم محروم من النشر تماما، مع أن هذه الهيئة أو تلك ملك للشعب المظلوم. ثم إن القائمين على النشر والثقافة عموما من التيار الإقصائي الذي لا يملك شرف التسامح مع الفكر المغاير، هم ينشرون لاتجاه واحد، وتفكير واحد، ومنهج واحد.. وقد نشرت ما يقرب من ثمانين كتابا في التخصص والقضايا العامة في دور نشر خاصة، باستثناء كتابين نشرتهما في المؤسسة الرسمية قبل ثلاثين عاما نتيجة ظروف تغير القائمين عليها آنئذ، أحد الكتابين ظل رابضا في الأدراج عشر سنوات، ولم ينشر إلا بعد أن تحول إلى قضية عامة في الصحف. هل هذا يفسر مطالبتك بإلغاء وزارة الثقافة؟ كلا! وزارة الثقافة أفسدت الثقافة، حولتها إلى سبّوبة حرام لبعض المنتفعين من خلال نشاطاتها المختلفة وإن كان ذلك يتم بالقانون. ولك أن تقارن حال الثقافة قبل نشوء الوزارة وبعده. قبله كانت حركة الأدب والفكر والفنون التشكيلية والسينما والمسرح والدوريات والنشر والكتب والترجمة وتحقيق التراث… تمور بالنشاط والحيوية والازدهار، وفيه اهتمام قوي بمناقشة القضايا الثقافية مناقشة جادة وثرية. انظر ماذا جرى بعد قيام الوزارة من صراعات حتى داخل التيار الذي فرضته السلطة ليعبر عنها؛ وذلك من أجل المكاسب الخاصة والمنافع الشخصية وإثبات الوجود حتى لو كان المتصارع صاحب موهبة ضحلة، أو ثقافة محدودة، أو فكر هش. قبل الوزارة كان هناك أعلامٌ بارزون في كل مفردات الثقافة ومن كل التيارات. الآن لا تجد أعلاما حقيقيين، ومع الإلحاح المستمر في أجهزة الدعاية على أشخاص بأعينهم فإنك لا تجد لهم حضورا ثقافيا في المجتمع بالمعنى الحضاري أو الأدبي. إنه حضور دعائي يسمى الشهرة، وفي هذا المجال يتفوق عليهم لاعبو الكرة، وبعض المنتسبين إلى الفن في شهرتهم وصيتهم؛ لأنهم لا يملكون ما يمكن تسميته عنصر الأصالة أو الاستقلال الفكري، فمهمتهم الأساسية هي التعبير عن الولاء للسلطة، والتعبير عن إرادتها ولو كانت منافية للحرية والدين وكرامة الإنسان. ماذا تقصد بهذه المهمة؟ تأمل إلحاحهم مثلا على فكرة تجديد الخطاب الديني. إنهم يقصدون الدين الإسلام الحنيف، ولا يجرؤون على الاقتراب من أي دين آخر أو معتقد مختلف، ليطالبوه بما يريدونه من الإسلام. لقد نشروا عشرات الكتب في المؤسسات الرسمية ودور النشر الموالية للسلطة عما يسمونه تجديد الخطاب الديني، وهي كتب غير علمية ومليئة بالأخطاء العلمية الفاضحة، وفي الوقت نفسه لا يسمحون بالرد عليها أو نشر الكتابة المقابلة. ثم انظر إلى قصة الإرهاب التي تتطابق مع ما يروجه الغرب عن الإسلام. إنهم يُشيْطنون الإسلام ويطالبون بحذف آيات الجهاد من القرآن الكريم، وهي الآيات التي تعني مقاومة المعتدين والغزاة، ووصل الأمر ببعضهم إلى وصف الإسلام بالإرهاب، أو اتهامه بأنه مصدر الإرهاب. ولكنهم يتكلمون عن الحرية وحق التعبير والإبداع؟ للأسف، هذا حق يراد به باطل. هم يهبّون عندما يتجاوز أحد من أتباعهم في حق الله أو الدين أو الأخلاق، ويصمتون صمت الحملان عندما تُسرق حرية الشعب ويُقتل الآلاف ظلما وغدرا، ويعتقل عشرات الآلاف من الأبرياء، وتصادر الكتب الإسلامية وتُحرق ويصورها التلفزيون والصحف، وتُغلق دور النشر التي تتبنى الفكر الوطني الحر. لقد سمّموا الحياة الثقافية بالأفكار الشاذة التي تصادم المجتمع ولا تفيده، وركزوا على المنافع والمصالح.. ماذا تقصد بالمنافع والمصالح؟ لعلك تذكر أن الوزير الأسبق فاروق حسني أعلن في بعض كلامة أن المثقفين دخلوا “الحظيرة”. أي خضعوا لسيطرة السلطة ونظامها وصاروا رهن إشارتها، نظير الإغراءات التي تقدمها لهم. هناك بالطبع من استعصى على دخول الحظيرة، واحتفظ باستقلاليته وكرامته، ولكنه في سبيل ذلك يعاني من التعتيم والتهميش والإقصاء وربما الاستئصال. الطريف أن بعضهم راح يسوغ استخدام الوزير لكلمة الحظيرة بأنه ضعيف في اللغة العربية، وأن لغته الأجنبية أقوى!! ماهي الإغراءات التي تقدمها الوزارة للمثقفين؟ الإغراءات كثيرة: الجوائز، الندوات، المحاضرات، السفريات، التفرغ، اللجان، النشر، المناصب الشرفية الكثيرة في قطاعات الوزارة المتعددة. ولكن هذا أمر طبيعي؟ يكون طبيعيا حين يشمل المثقفين جميعا. ولكن حين يكون مرهونا بمهمة ما، وتيار ما، وفكر ما، فالمسألة غير طبيعية. هلا أعطيتنا مثالا على ذلك؟ الأمثلة كثيرة. خذ مثلا موضوع جوائز الدولة التي تمنح سنويا. لمن تمنح؟ تمنح لمن تتوفر فيه شروط الولاء للسلطة، والعداء للإسلام وثقافته ومنهجه، أو على الأقل يكون موقفه باهتا أو غير واضح، ولا يشير إلى الإسلام في مؤلفاته وكتاباته.. انظر إلى جوائز هذا العام. لقد منحت الجائزة الكبرى التي تسمى جائزة مبارك أو النيل لشخص غير مسلم يملأ الصحف الحكومية والخاصة بدعوته لإقصاء الإسلام وإحلال العلمانية مكانه، فهو يكتب مقالات أسبوعية مسلسلة يتجاوز بعضها المائة، ثم تنشرها المؤسسة في كتب ضخمة، وهي مليئة بالأخطاء وتزوير التاريخ، وتشويه الإسلام، ومع ذلك يسمونه أبو الفلاسفة، والرائد الكبير، ويدعى إلى المؤتمرات والندوات ويرأسها، وتسخر له شاشات الفضائيات وموجات الإذاعة، ويقابل المسئولين كبارا وصغارا في الوقت الذي يريد، ثم لا يُسمح لأحد أن يراجعه بكلمة ولو في تعليقات القراء! الجوائز عموما تعد هدية المسئول لمن يطيعه طاعة عمياء، وينفذ إرادته، ويردد مقولاته. وتحجب عمن يحترم نفسه واستقلاله الفكري، ويتمسك بدينه الحنيف. وتستطيع أن تقارن بين من حصلوا على الجوائز، ومن لم يحصلوا عليها في المستوى العلمي والأدبي، وفي الموقف الفكري والاجتماعي. بم تفسر عدم وجود مجلة أدبية مثل “الرسالة” أو “الثقافة” التي كان العرب والمسلمون في كل مكان ينتظرونها أسبوعيا؟ السبب هو الحظيرة! في الماضي كان ناشر الرسالة أو الثقافة يتمتع بالتفوق الأدبي. وكان يحمل قيم الحرية والمحاورة، والجدية والإتقان، وعدم التعصب لشلة أو فكر ما، فكنت ترى على صفحات المجلة رؤى مختلفة، ونماذج غير متشابهة، وحوارا خلاقا بين الأضداد يقوم على النّدية والاحترام المتبادل، هل أذكرك مثلا بمعركة سيد قطب ومحمد مندور حول الشعر المهموس والشعر المجهور؟ كانت الحوارات الجادة مثمرة، ولذا كان القراء يسمونها معارك أدبية أو فكرية، أما اليوم فهناك شتائم وخواء أدبي وصراعات جوفاء تقوم على التعصب وإهدار قيمة الآخر، وهو ما يدفع الناس إلى نسيانها لأنها من لغو الكلام. بالمناسبة أود أن أسألك في ختام حديثنا عن التحقيق. لماذا لا نرى محققين مثل من كانوا في الأجيال السابقة؟ أولا- المسألة ترتبط بانهيار التعليم وضعف الأزهر الذي كان في العادة يقدم أفضل المحققين، لصلة أبنائه القوية بالقرآن الكريم واللغة العربية وآدابها. ثانيا- ضعف المستوى الذي تقدمه الجامعات في هذا المجال، ثم إن لجان الترقيات تهدر النصوص المحققة التي يقدمها طالب الترقية، ولا تعدها جزءا من أعماله موضوع الترقية. فينصرف الباحثون الشباب عن التحقيق، الذي يتطلب عناء مضاعفا، في القراءة والضبط والتوثيق، بعد مراجعة النسخ المتعدة لأصول المخطوط. ثالثا- غلب على معظم ناشري كتب التحقيق شهوة التجارة، فرأينا كتبا رديئة، تشوه التراث، وتحط من قيمته، أو تقدمه في صورة سطحية تفقده أهميته وجدواه. خذ مثلا ما فعله بعضهم بالسيوطي، وتجزئة كتبه لتباع على هيئة كتيبات تناغي المضمون التجاري، حيث لا يبذل من وضع اسمه عليها أي جهد، وهناك من أسرق كتبا محققة فيشوهها بالحذف والاختصار، ثم تحمل اسمه ورسمه، ويجد من الناشرين التجار الذين يهمهم الكسب الحرام ترحيبا كبيرا، وهناك من يكتفي بوضع اسمه على كتب محققه ضخمة، دون أن يضع حرفا أو يحذف حرفا، وأشك أنه طالع الكتاب المحقق، أو قلب صفحاته ليرى ما فيه. هل يمكن الآن أن نلخص الأسباب التي تدعو لإلغاء وزارة الثقافة؟ بالطبع. فهي أولا تضم جيشا ضخما من الموظفين معظمهم لا يعمل، وخاصة فيما يسمى الثقافة الجماهيرية أو قصور الثقافية، وهي ثانيا لا تقدم أنشطة ذات قيمة، فالغالب عليها أنها أنشطة احتفالية الهدف منها التصوير والظهور الإعلامي، ومعظم ما ينشر أو يعرض لا قيمة علمية أو أدبية له، باستثناء مركز الترجمة ولنا عليه ملاحظات عديدة. لقد تحولت الوزارة إلى سبوبة لنفر من الشطار يغترفون ما تبقى من ميزانيتها بعد المرتبات بالقانون. أعتقد أن توزيع الموظفين على الوزارات الأخرى، وإلحاق القطاعات المفيدة مثل الترجمة برئاسة الوزراء أو تحويلها إلى هيئات مستقلة صار أمرا ضروريا، أما النشاطات الأخرى فيمكن أن تلحق بوزارة التعليم. ويمكن تشجيع الأفلام الجيدة والكتب الجيدة والمجلات الجيدة، واللوحات الجيدة تشجيعا ماليا عن طريق لجان تتولاها جهات علمية محايدة
وسوم: العدد 786