من دروس الربيع العربي 6
الحلقة السادسة
ضرورةُ الاستفادة من شتى التجارب والخبرات البشرية
صحيحٌ أن البشر متوزعون بين أعراق وألوان متعددة، وأنهم ينتمون إلى ثقافات وديانات متنوعة، وأنهم مبثوثون في جهات الأرض الأربع بما فيها من تباينات جغرافية وخلفيات تأريخية متغايرة، وبما فيها من تنوعات بيئية واختلافات مناخية، إلا أن بينهم الكثير من الطبائع والخلائق المتقاربة كأفراد، وتجمعهم العديد من القواسم الاجتماعية المشتركة، ومن ثم فإن البشر يمكن أن يستفيد بعضهم من تجارب بعض ويمكن أن يقتبسوا من خبرات بعض، ولاسيما في الأمور العابرة للثقافات والأعراق والأعراف، مما يمكن أن يحقق نفس النتائج ولو بشيئ من التكييف والتعديل.
▪ ولقد عرفنا أن الربيع العربي كان قاب قوسين أو أدنى من تحقيق النصر الكبير وتَربُّع ناصية التمكين العريضة، لولا الثغرات التي ظهرت في جدران قواه وتياراته، ولولا الثغور التي بدت بلا حراسة في أسوار بعض حركاته الثورية وبعض تحركاته الجماهيرية، ومن خلالها تمكَّن التآمر الخارجي من تحريك الفتن والعداوات الداخلية القابعة في نفوسنا الأمّارة بالسوء والثاوية في تكويناتنا وبُنانا الثقافية والاجتماعية والسياسية، بعد عصور من الاحتلال المباشر ومن الغزو الفكري والتشريح لأوصال الأمة وإحاطته بكافة الدقائق والتفاصيل ومعرفته من أين تؤكل الكتف!
▪ويمتلك الربيع العربي طاقة هائلة من دوافع النهوض، وذخيرة غنية من التجارب والخبرات الذاتية عبر سنوات من الصراع مع الدول العميقة والثورات المضادة ومن يقف خلفهما من وراء البحار ومن عُتاة الإجرام، لكنه بحاجة إلى مراجعات عميقة لتجاربه ليعرف أين أصاب وأين أخطأ، وهو بحاجة كذلك إلى الاستفادة من تجارب النهوض الحضاري التي أحدثتها مجتمعاته في الماضي وشقيقاته في الحاضر ليقارنها بواقعه؛ حتى يدرك أسباب التراجع ويعزز عوامل التقدم، وحتى يحاصر أسباب الضعف ويُرسي عوامل القوة.
▪ وتزداد الحاجة للاستفادة من تجارب الماضي والحاضر، وللتعلم من تجارب الذات والآخر في مجال الإقلاع الحضاري، إذا علمنا أن المعركة بين الأمة وخصومها معركة حياة أو موت، وأن مستقبل الأمة كله صار في كفّ عفريت، حيث يتعرض هذا الربيع لأعنف هجمة تعرضت لها ثورة قط في تأريخ البشر، فلأول مرة نرى ثورة يتكالب عليها اليمين واليسار، ويتسابق على إطفاء جذوتها الداخل والخارج، وتقف في طريقها التحديات الداخلية والعقبات الخارجية، والتي تمتد بدورها من الأوطان إلى الأقاليم إلى الأمة ثم إلى العالم شرقا وغرباً، حتى كاد أن يصبح ما يتعرض له حربا عالمية ثالثة تريد أن تستأصله من شأفته وتقتلعه من جذوره!
▪وتحكي لنا كتب التأريخ بأن الغرب قد مرّ في القرون الوسطى بمراحل تخلّف وانحطاط لم يعرف لها المسلمون نظيراً في تأريخهم، حيث كان الجهل مخيماً على الشعوب وكان العلم قيمة محتقرة وأهله يتعرضون للزراية والاتهام بالتجديف والهَرْطقة، وصارت العقلانية تهمة خطيرة والتفكير طريقاً يصل بأصحابه إلى المشانق والمقاصل، وظلت العبودية سائدة بين الناس ومستساغة بينما صارت الحرية شرا مستطيرا في نظر كثير من المغلوبين فضلا عن الغالبين، وكانت الانقسامات تتم وفق شتى المعايير العصبوية والغريزية التي عرفها التأريخ الجاهلي للبشر، وحصدت الحروب ملايين الآدميين بعد أن وصل الأمر بالأقوياء إلى حد تفتيش الضمائر ومحاكمة النّيات ومعاقبة القلوب، حيث أُعدم على يد محاكم التفتيش أربعون ألف إنسان حرقاً بالنار كما تتحدث المصادر الأوروبية ذاتها، فضلاً عن مئات الآلاف من الذين تم إعدامهم بالمقاصل والسيوف والحبال وبالغاز والأسلحة النارية الحديثة، ومن الطريف المبكي أن الثورة الفرنسية بدأت جذوتها بالمطالبة بالمساواة في طريقة القتل بين جميع المواطنين، ثم اتسعت دائرة المساواة لتشمل سائر حقوق الإنسان عبر مرور الزمان وتتابع الأحداث!
▪وبالجملة فقد كانت التحديات التي واجهت الأحرار والثوار في الغرب عاملاً من عوامل النهوض الحضاري؛ لأنها فتّقت المواهب الكامنة وفجّرت القدرات المطمورة، ولأنها استفزت المشاعر الإنسانية المكبوتة واستنهضت الطاقات الخاملة، وبسبب حضور صور من التدين الصّحّي في حياة المسلمين أو أعداد منهم؛ فإن تحدي الاستبداد السلطوي والظلم الاجتماعي لم يصل إلى ذروته في مجتمعاتنا الإسلامية ليحقق الانفجار المطلوب، بجانب أن بعض التيارات الإسلامية ظلت تُنفس الطاقات المكبوتة في أرواح الجماهير؛ عبر إشاعة المفهوم الجبري للقدر وبث روح الرضى بالظلم والاستكانة للقهر انتظارا للجزاء الأخروي وهروباً من تبعات ما يسمونها بفتنة الخروج على وليّ الأمر، بل وقامت سائر التيارات الإسلامية بترقيع جلود الأنظمة بقصد أو بدون قصد أو وعي منها؛ من خلال الأعمال الخيرية الضخمة التي قامت وتقوم بها، والتي تقلل من مساحات الفقر والفاقة وتجفف من منابع الكراهية ضد الذين امتصوا دماء الضعفاء واستأثروا بخيراتهم، هذا بينما قادت البراجماتية الغربية الثوار المتخفين داخل أجهزة الأنظمة الحاكمة، دفعتهم نحو تشجيع حكام الجور على مزيد من البطش والقهر حتى تغضب الشعوب وتصل إلى مرحلة الانفجار، بجانب تصريف طاقة الثوار في إشاعة المعرفة وتوسيع مساحات الوعي بدلاً من الاشتغال بالعمل الاجتماعي الذي يخدم الأنظمة الحاكمة بالدرجة الأولى، وبقدر ما يساعد العمل الخيري في تحقيق الخلاص الفردي والفوز الأخروي فإنه يؤخر الخلاص الجماعي ويُعرقل الفوز الدنيوي!
▪إن الاستفادة من خبرات الآخرين في الإقلاع الحضاري ليس أمرا مباحاً أو مستساغاً فحسب، بل هو فريضة إسلامية سماوية وضرورة عقلية واقعية، فالقراءات النظرية وحدها لا تكفي مهما كانت المصادر ثرية ومهما كان أصحابها أذكياء؛ إذ تظل هناك فجوة بين التصورات والوقائع أو بين المثال والواقع، ولا يتم ردمها إلا بالممارسة الطويلة الأمد، وبدلاً من التجريب والبدء من حيث بدأ الآخرون، هناك تجارب يمكن الاستفادة من إنجازاتها في ضمان تحقيق النجاح المطلوب، والاستفادة من إخفاقاتها في تجنب طرائق وعوامل الوقوع فيها وفي التعرف على منابعها لتجفيفها أو التقليل منها، ويمكن الابتداء من حيث انتهى الآخرون، ف(الخبرة إنما هي مشط تعطينا إياه الحياة ولكن بعد بعد أن نفقد الشَّعْر) كما يقول بعض الحكماء، فلماذا لا نستفيد من طرائق الآخرين في النهوض ولاسيما وأننا نمتلك منهجاً متكاملا في الغربلة وفي التفريق بين ما يمكن اقتباسه وما لا يمكن الاستفادة منه؟!
▪وفي هذا الإطار لابد من المَزج الحكيم، وبالمقادير التي تتناسب مع ظروفنا وتحقق مصالحنا، وذلك بين خبرات المسلمين المعاصرين الذين تقدموا في مضمار النهوض الحضاري كما في التجربتين التركية والماليزية، وبين تجارب المجتمعات المعاصرة سواء كانت في الشرق أو في الغرب، كالدول الغربية والنمور الآسيوية واليابان والصين، بجانب الاستئناس بخبرات الأسلاف في هذا المضمار بعد التحقيق والغربلة، وفقاً للقاعدة القرآنية التي تقول عن المؤمنين: {الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه}، حيث أن النظر للقول دون القائل يضمن أن تكون الاستفادة موضوعية بحتة، بعيدا عن عواطف الحب أو انفعالات الكراهية.
▪وفي الطرف الآخر هناك الاستفادة السلبية، من خلال قراءة التجارب السيئة لمعرفة العوامل والأسباب التي أدّت بأصحابها نحو الجنوح والشذوذ ومن ثم نحو الضعف والسقوط أو الهلاك والاستئصال، وهو ما سماه القرآن بالاعتبار، كما في قوله تعالى في مطلع سورة الحشر وهو يتحدث عن قصة بني النضير: {فاعتبروا يا أولي الأبصار}، وللعلم فإن قرابة ثلث القرآن الكريم قد تضمّن قصصا لكثير من الأمم والدعوات السابقة، حيث يتّخذ من هذه القصص أداةً لصناعة الوعي المنشود في عقول المسلمين، إذ تُبرز هذه القصص سنن الله وهي تحصد من وقفوا أمامها سواء كانت سنناً جارية أو سُنناً خارقة، وهذا يؤكد خطورة الاستفادة السلبية من تجارب الأمم والشعوب والحضارات، وينطبق ذلك من باب أولى على العوامل التي أدخلت الحضارة الإسلامية هذا البَيات الشتوي الطويل.
▪وفي ذات الصدد يمكن عمل مقارنات علمية دقيقة وشاملة بين تجارب النهوض الحضاري التي تعاصرت لكنها اختلفت في النتائج والثمار، كتجربة محمد علي باشا في مصر التي تقاربت مع التجربة اليابانية في زمن انطلاقهما، لكن اليابان صارت دولة عظمى بينما ظلت مصر دولة ضعيفة من دول العالم الثالث، وصارت صادرات اليابان تساوي مئات الأضعاف صادرات مصر رغم التقارب السكاني والتفوق المصري في المساحة والموقع الذي يحتل قلب العالم ويطل على أهم بحرين في العالم ويتحكم بأهم مضيق مائي في الكرة الأرضية، فما الذي توفّر في اليابان ولم يوجد في مصر حتى تتباين التجربتان بهذا الشكل الحاد؟! ويمكن مقارنة تجارب النمور الآسيوية غير الإسلامية بتجربة إندونيسيا تلك الدولة الكبرى التي تتمدد على مساحات ضخمة من الأراضي الاستوائية الغنية بالمياه والغابات والأراضي الزراعية الواسعة والغنية بالمعادن وعلى رأسها النفط والغاز والحديد، وفي هذا الإطار لابد من دراسة العوامل التي جعلت سنغافورة تتفوق في دخلها على إندونيسيا رغم التفوق العددي الذي يجعل كل سنغافوري يقابل 55 من الإندونيسيين، أما في المساحة فإن إندونيسيا تفوق سنغافورة بمئات المرات!
▪ويمكن إجراء دراسات معمقة لتجارب بعض البلدان العربية التي حاولت النهوض وامتلكت عوامل القوة لكن محاولاتها لم تُفضِ إلى شيئ ذي بال، وعلى رأس الأقطار العربية الجزائر والعراق، فهما أكثر بلدين عربيين يمتلكان أكبر عدد من مقومات القوة وعوامل النهوض، وبجانب ذلك امتلكا قيادات طموحة في عملية النهوض الحضاري، فقد حاول الرئيس الجزائري هواري بومدين في السبعينات تكرار التجربة اليابانية في الثورة الصناعية حتى سماها البعض بيابان العرب آنذاك، لكن التجربة اضمحلت ولم نرَ لها مخرجات متوائمة مع المدخلات التي تم الحديث عنها! وفي العراق تكررت القصة أيام صدام حسين بصورة أشد سفورا، حيث كان صدام طموحا للارتقاء ببلاده وحاول استغلال إمكانات العراق واستثمار مداخيلها الضخمة من النفط في إحداث ثورة تنموية وصناعية، لكن التجربة لم تفشل فحسب بل انتهت بتدمير العراق والقضاء على جيشه الضخم وإعادة الشعب العراقي إلى الوراء عشرات السنين، فلماذا حدث ذلك؟ وكيف وقع؟ وما هي معامل صناعة الفشل؟ ومن ثم ما هي طرائق الخلاص من هذا الواقع؟ وما هي معادلات النهوض المنشود ؟
▪وتنتصب في العصر الحديث تجارب عالمية عديدة مليئة بالدروس والعبر، مثل تجربة النهوض الألماني السريع بعد الحرب العالمية الأولى التي انهزم فيها الألمان، لكنهم حققوا طفرة تنموية هائلة خلال سنوات قليلة مكنتهم من امتلاك مقاليد القوة التي جعلت هتلر يواجه العالم كله تقريبا، فما هي عوامل القوة التي صنعت تلك الانتصارات؟ وما هي العوامل التي أحالت الانتصارات إلى انكسارات في ما بعد؟ ثم بعد ذلك كيف استطاع الألمان الانبعاث من بين ركام الدمار وأنقاض الهزيمة كالعنقاء، وما هي العوامل التي جعلت هذا الشعب ينهض من كبواته ويتخلص من عثراته خلال فترة وجيزة من الزمن؟ ▪ويبدو أن أكثر التجارب شبهاً بالتجربة الألمانية هي التجربة اليابانية، رغم اختلاف الخلفية الثقافية والموقع الجغرافي بينهما، فقد هُزم الألمان واليابانيون في الحرب العالمية الثانية شر هزيمة، وفُرضت ضدهما شروط مهينة من قبل الدول المنتصرة، لكن الشعبين حققا قفزات تنموية هائلة جعلتهم يتجاوزون من انتصروا عليهم في الحرب وهم الإنجليز والفرنسيون والروس، ولم يتفوق عليهم إلا الأمريكان، وحتى أمريكا فإن تفوقهم يتراجع إذا أخذنا في الحسبان التفوق العددي وضخامة المساحة، بمعنى أن فاعلية اليابانيين والألمان فاقت جميع دول الحلفاء التي انتصرت عليهم بالأمس، فما هي عوامل القوة؟ وكيف صنعها أصحابها؟ وكيف يمكن لثوار الربيع العربي ومن يحملون هَمّ النهوض الحضاري أن يستفيدوا منها؟ ويمكن الاستفادة من خلال طرح هذين السؤالين: ما الذي امتلكه الألمان ولم يمتلكه الجزائريون؟ وما الذي توفّر لليابانيين ولم يتوافر للعراقيين؟
▪ولأهمية الاستفادة من الآخر في المضمار الحضاري، لا يزال القرآن الكريم يُقدّم التجارب ويُقدّر الخبرات، ومن ذلك قوله تعالى: {ولا يُنَبِّئك مِثْلُ خبير} وهو يخاطب أزكى الخلق وأذكى الناس، ويَحُضّ على الاستفادة من الخبرات النافعة للآخرين، فيقول: {فاسألْ به خبيرا} ويقول: {فاسْألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون} وهم أهل التخصُّص والمعرفة وأصحاب الخبرة والدراية، مهما كانوا وأينما حلّوا، ذلك أن (الحكمة ضالّة المؤمن أنّى وجدها فهو أحَقُّ الناس بها)، كما جاء في الأثر الشريف، وكما فعل المجتمع الذهبي الأول، مجتمع {خير أُمَّة أُخْرجَت للناس}، فإنه لم يبدأ من الصفر وإنما استفاد من الأبعاد الإيجابية في كل الحضارات واقتبس سائر الخبرات الثاوية في كل الثقافات، حيث اقتبس من الإغريق والرومان والفرس واستفاد من تجارب الهنود والصينيين، بجانب الاستفادة من التراث الكبير في البلدان التي تمتد ما بين الخليج العربي والمحيط الأطلسي ولاسيما عرب الجزيرة العربية الذين كانوا يمتلكون الكثير من القيم والأخلاق الطيبة، رغم أنهم بالجملة في ضلال مبين، فقد قال صلى الله عايه وسلم: (إنما بُعثتُ لأتَمِّم مكارمَ الأخلاق)، وبهذا المنهج امتلكوا تلك الفاعلية التي أذهلت العلماء وأدهشت الناس.
وسوم: العدد 788