البلطجي ونصف الحقيقة

قرر الرئيس الأمريكي قطع المساهمة الأمريكية في ميزانية الأونروا، في مبادرة ضغط بدأت بقطع مساعدة 360 مليون دولار، وستنتهي حسب النظرة الترامبية لقضية اللاجئين بإقفال الوكالة.

والحق يقال، فإن السيد ترامب دقّ ناقوس الخطر، فوكالة غوث وتشغيل اللاجئين نشأت بعد حرب النكبة، كإجراء مؤقت، في انتظار تطبيق قرارات الأمم المتحدة ذات الصلة، والتي تدعو إلى عودة اللاجئين إلى ديارهم أو تعويض من لا يريد العودة.

إن الترجمة القانونية لهذه القرارات تفترض تحميل الدولة المحتلة، أي إسرائيل، المسؤولية المادية والمعنوية عن تطبيق قرار عودة اللاجئين.

واليوم يسود منطق غريب في أوساط اليمين الفاشي الحاكم في إسرائيل والولايات المتحدة، فحين ترد عبارة عودة اللاجئين يُصاب حكام إسرائيل وأمريكا بصدمة، كأنهم لم يسمعوا سوى بعودة واحدة هي عودة الشتات اليهودي بعد ألفي سنة!

المنطق الترامبي يريد أن يكشف كل عناصر اللعبة، لقد سئم الأمريكان وحلفاؤهم الإسرائيليون من سماجة النظام العربي وزئبقيته وجبنه. العرب مع صفقة القرن ولكن… ولم يعترضوا على نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، ولكن… وهم لا يحبون الشعب الفلسطيني، ولكن…

جاءكم رئيس أمريكي يجمع صفات الأزعر والبلطجي، يهرّج فوق حلبة سيرك عالمي، ولا يفهم إلا لغة واحدة: الصفقات والمال.

تنبه ترامب إلى أنه ليس معنيا بالصراع العربي-الإسرائيلي، إذ لا وجود لهذا الصراع إلا في بعض الصحف ومؤسسات الأبحاث المختصة، فلماذا عليه إذا الاستمرار في لعبة مملة، بينما هناك علاقات أكثر من حميمة بين إسرائيل ودول عربية، بهدف مواجهة «الخطر الشيعي الإيراني»؟!

ترامب فهمها على الطاير، وقال إنه سينهي الموضوع، في البداية أخرج القدس من المفاوضات، واليوم يُخرج اللاجئين من اللعبة، وغدا سيُخرج المستوطنات، فلا يبقى شيء للتفاوض عليه.

اخترع ترامب للمسألة الفلسطينية مفهوما جديدا للمفاوضات: المفاوضات بلا مفاوضات، يفاوض الرئيس صهره، فيصلان إلى الاتفاق بسرعة، ويبدأ التنفيذ بلا تردد، وسط تصفيق رئيس الحكومة الإسرائيلية وشلة الفاشيين المحيطين به.

من المرجح أن ترامب أصيب بالذهول من السلاسة التي نجح فيها اليمين الإسرائيلي في إقرار قانون الدولة القومية؛ فاعتراض اليسار الصهيوني كان خافتا وبالغ الحياء، أما الاعتراض الفلسطيني فلم يستطع أن يصل إلى الحد الأدنى عبر إعلان يوم إضراب عام في كل فلسطين، من الجليل إلى غزة ومن نابلس إلى المثلث.

وعلى الرغم من أن الرئيس الأمريكي لا يبيع الفلسطينيين أي وهم، بل يقول لهم بشكل واضح إنهم غرباء في وطنهم، لأن هذا الوطن هو وطن «الشعب اليهودي»، فإن أكثرية القيادات الفلسطينية مصرة على شراء الوهم، تارة من مصر، وطورا من قطر وتركيا. نصدق الأوروبيين الذين لا يصدقون أنفسهم، ونهدد بوقف التنسيق الأمني والذهاب إلى المحاكم الدولية!

لا نعرف متى يأتي موعد وقف التنسيق الأمني مع نظام الأبارتهايد الصهيوني، وماذا ينتظرون؟ لكن ما نعرفه من تجربة الكارثة التي انتهت إليها حرب النكبة عام 1948 هو أن النكبة كانت حصادا لظاهرتين متزامنتين:

الأولى هي فقدان الدول العربية لقرارها بشكل واضح، إذ كانت بريطانيا تقود أغلب الجيوش العربية، وهذا ما أوصلنا إلى تنفيذ قرار التقسيم مشوها، من دون الإعلان عن ذلك، من خلال اتفاقات بين إسرائيل والعرب.

الثانية هي تشرذم القيادات الفلسطينية وانقساماتها وولاءاتها المختلفة، التي أدت إلى إهدار نضالات وتضحيات هائلة.

انظروا إلى واقعنا العربي والفلسطيني اليوم، لا تملك دولة عربية واحدة محاذية لفلسطين قرارها السياسي والعسكري، من سورية إلى الخليج ومن العراق إلى مصر.

أما على المستوى الفلسطيني، فإن التشرذم والانقسامات تخفي مسألة واحدة: هي شعور من هم في السلطة، سواء في رام الله أو في غزة، بأنهم سلطة حقيقية. من هذه النقطة نستطيع أن نقرأ الانقسام الذي تحول أحجية.

هنا أول الكلام.

قال ترامب نصف الحقيقة، فالمؤقت لا يستطيع أن يصير دائما، لكنه حجب نصفها الآخر، فبدلا من أن يدفع المجرم ثمن جريمته، على الضحية أن تدفع هذا الثمن.

ترامب كشف اللعبة، وقال للفلسطينيين إن الهدف من لعبة التنازلات الفلسطينية هو الوصول إلى مزيد من التنازلات.

فالملعب أمريكي إسرائيلي ولا مكان للاعبين آخرين.

عرب الكاز والغاز يمولون فقط.

الفلسطينيون خارج الملعب، ولا مكان لهم.

وبدلا من أن نتساءل لماذا قطع ترامب التمويل الأمريكي عن الأونروا، علينا أن نتساءل نحن ماذا فعلنا من أجل تنفيذ قرارات الأمم المتحدة بشأن عودة اللاجئين والخلاص من ذلّ الإعاشة وذل شعب كامل تحول بفضل أوسلو إلى شعب من الشحاذين؟

انتظرنا سبعين عاما، صار «كرت الإعاشة» جزءا من الأدبين الفلسطيني والعربي، لكننا لم نقل كفى.

فالذي يريد أن يقول كفى عليه أن يمتلك الإرادة والقوة.

لكننا لم نقلها.

فجاء هذا البلطجي الأمريكي ليصفعنا بالحقيقة التي لم نكن على استعداد لسماعها.

وسوم: العدد 788