أوائل في العقوبة
من إعجاز الدين ومحاسن الشريعة أنها لم توجب شيئا الا وفيه جلب مصلحة دنيوية وأخروية ولم تحرم شيئا الا وفيه دفع مفسدة دنيوية وأخروية.
ومن ذلك حديث الثلاثة الذين هم أول من يقضى عليه وتُسعر بهم النار يوم القيامة وهم العالم او القارئ والمنفق والمجاهد الذين ابتغوا بعملهم غير وجه الله*.
وقفت أمام هذا الحديث طويلا ...
لماذا هؤلاء الثلاثة يا ترى هم اول من تسعر بهم النار وليس سواهم من الكفار او المنافقين او اهل السرقة والزنا والقتل من اصحاب الكبائر من المسلمين؟!!!
لا شك ان السبب هو لأجل حدوث المفسدة الأخروية جراء الرياء وسوء النية والشرك في العمل وابتغاء الذكر والسمعة وهذا صحيح تماما؟
لكن هل يكفي ذلك أن يقدمهم الله تعالى على الكفار والمنافقين وأصحاب الكبائر في العقوبة؟!!!!!
إن المتأمل للحديث يجد أن المفسدة الدنيوية لفعل هؤلاء الثلاثة ليست بأقل من المفسدة الاخروية في ابتغاء غير وجه الله.
فالقارئ أو العالم الذي يقرأ ليقال قارئ أو عالم قد انحرف بعلمه ليتكسب به من أجل جاه او ذكر او مال أو سلطان فلا يؤتمن والحال هذه على دين وعلم فيكون شرا للخلق وفتنة للناس أكبر من شر وفتنة الكافر او العاصي.
ومن ينفق ابتغاء غير وجه الله وليقال عنه منفق سيتحول الى انسان لا يعطي الا لمصلحة ولا ينفق الا لغرض وسيكون ماله دافعا لابتزاز المحتاجين حتى في دينهم ودنياهم ليكون كتلة من شجع دنيوي.
ومن يقاتل ليقال جريء سوف يخذل قومه حين لا يرى مكافأته من الذكر والثناء وسوف يشح بشجاعته أحوج ما يكون لها الناس وسوف يقاتل لتكون كلمة غير الله هي العليا اذا وفرت له الذكر والسمعة فهل ثمة فساد أكبر من هذا؟!!!
فالقضية ليست قضية رياء ومفسدة أخروية فحسب بل هي مفسدة دنيوية عريضة يرتكبها هؤلاء ولأن مفسدتهم في الدين والدنيا كانت هي الأكبر كانوا اول من تسعر بهم النار وإن انحراف النية هنا ليس انحرافا في التوجه لله بالعمل فحسب بل هو انحراف عن المنهج وإفساد كبير في الارض وفي واقع الحياة ودنيا الناس.
* نص الحديث:
قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن أول الناس يقضى عليه يوم القيامة رجل استشهد ، فأتي به فعرفه نعمته فعرفها ، فقال : فما عملت فيها ؟ قال : قاتلت فيك حتى استشهدت قال : كذبت ، ولكنك قاتلت لأن يقال : جريء ، فقد قيل ، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار ، ورجل تعلم العلم وعلمه ، وقرأ القرآن فأتي به فعرفه نعمه فعرفها . قال : فما عملت فيها ، قال : تعلمت العلم وعلمته ، وقرأت فيك القرآن . قال : كذبت ، ولكنك تعلمت العلم ليقال : إنك عالم ، وقرأت القرآن ليقال : هو قارئ ، فقد قيل ، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار . ورجل وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال كله ، فأتي به فعرفه نعمه فعرفها ، قال : فما عملت فيها ؟ قال : ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك . قال : كذبت ، ولكنك فعلت ليقال : هو جواد ; فقد قيل ، ثم أمر به فسحب على وجهه ثم ألقي في النار . رواه مسلم .
وسوم: العدد 789