"الشبكة العلمائية الدمشقية".. القصة الكاملة من النشأة حتى التفكك 3

ملخص التحقيق :

في هذا التحقيق، وبالاشتراك مع عبيدة عامر، وبالاعتماد على المقابلات والرصد الميداني بجانب الأدبيات والبيانات يحاول موقع ميدان تحديد العناصر الفاعلة في "الشبكة العلمائية الدمشقية" كياناتٍ وأفرادًا وتفكيك علاقات هذه الشبكة من ناحيتين: خارجية؛ علاقة الكيانات ببعضها، وداخلية؛ علاقة الأفراد داخل الكيان الواحد. ثم رصد ما طرأ على الشبكة من تفرعات وانقسامات، ثم محاولة فهم دينامياتها الداخلية وصولًا لاستشراف مستقبلها المرتبط بالضرورة بمستقبل سوريا اجتماعيًّا وسياسيًّا؛ بما تمثله وتحمله من رمزية دينية وأهمية ومكانة اجتماعية.

*نص التحقيق* 

الحلقة الثالثة والأخيرة 

*إسطنبوليات* 

في معهده وبعمامة ثقيلة وجُبةٍ  يتصدّرُ شيخٌ أربعينيٌّ أمام طاولته محاضرًا بما يزيد عن مئة طالبٍ متحلّقين على الأرض حوله بشكلٍ شبه يوميٍّ محاضراتٍ دعوية وفكرية قوامها يتراوح ما بين تبيان أن مآل عقيدة ابن تيمية الإلحاد وإيضاح أن مقومات الخطاب الديني اللازم للمرحلة الراهنة يجب أن يكون عقليًّا بالدرجة الأولى، على أننا بالرجوع قليلًا في صفحة "محمد باسم دهمان" ابن مجمع أبي النور البار الباحث عن لغة جديدة للخطاب الديني ربما قد يفاجِئُنا وصفه لأهالي الريف الدمشقي بـ: "اللوطيين" والمشتهرين بـ "سُباب الله والدين"، لذلك استحقوا ما نزل بهم من بلاء على رأي دهمان الذي ما فتئ يتهجّم على الثورة السورية مبدأً وأدوات وكل هذا في إسطنبول المعقل الأكبر للمهجّرين من المعارضة السورية!

دهمان بقي وفيًّا لشيخه المقاول الفرعي  "أحمد كفتارو" ولمعهده في دمشق حتى أسس على غراره معهدًا في تركيا/اسطنبول باسم: "مؤسسة الشيخ أحمد كفتارو العلمية والدعوية" وجمعيةً باسم: "جمعية الشيخ أحمد كفتارو للعلوم والثقافة"، يدرّس فيهما المنهجَ العلميَّ الذي يُدرَّس في مجمع أبي النور في دمشق. ولعل أحمد دهمان بمؤسسته وجمعيته يعد الامتداد الديني والجغرافي الأوضح والأوسع لجماعة أبي النور، في ظل خلو الساحة السياسية والعسكرية من شخصيات منتمية للمعهد.

"الوفاء الجلي" عند دهمان للمؤسسة التي انبثق منها، قابله ما يمكن تسميته بـ "الوفاء الخفي" عند أبناء الجماعات الأخرى؛ يتضح ذلك ربما بآلية تعامل مشايخ معهد الفتح الإسلامي مع مدير المعهد الموالي للنظام السوري "عبد الفتاح البزم" عند زيارته لإسطنبول 2015 حيث استضافه أيمن شعباني المدرّس السابق في معهد الفتح والذي يوصف حاليًّا بأنه "قريب من الحكومة التركية" والعضو في المجلس الإسلامي السوري في مكتبه "إعمار الشام"، واستضاف البزم أيضًا أثناء زيارته لإسطنبول عدد من المشايخ سرًّا[28]، في مشهد يوحي ربّما أن الوفاء للمؤسسة أعمق من إمكانية تجذر الخلاف معها مهما كانت أسبابه.

وفي المنطقة ذاتها التي اختارها دهمان مكانًا لمؤسسته والتي تشتهر بأنها معقل التصوف التركي في إسطنبول بدأت معاهد شرعية أخرى تُفتتح لكن هذه المرة كانت المعاهد سليلة معهد الفتح الإسلامي بدمشق؛ حيث أسّس رضوان الكحيل خريج معهد الفتح بعد قدومه إلى تركيا وتركه العمل العسكري في جنوب دمشق معهدَ "الإمام أبي حنيفة النعمان للعلوم الشرعية والعربية"، وكذلك أنشأ "خالد الخرسة" الأستاذ السابق في معهد الفتح مع مجموعة من أساتذة المعهد الوافدين إلى إسطنبول معهدَ "العلامة الشيخ عبد الرزاق الحلبي للعلوم الشرعية والعربية"، وانشق عن خالد الخرسة مكانيًّا وعمليًّا زميله في التدريس بمعهد الفتح وبمعهد عبد الرزاق الحلبي "محمود دحلا" المترشح لعضو مجلس الشعب سابقًا مؤسسًا معهده الخاص باسم "معهد الفاتح للعلوم الشرعية والعربية"، ومفتتحًا أيضًا "دار المهاجرين والأنصار" لتحفيظ القرآن الكريم، وبعيدًا عن النمطية التدريسية المشابهة لمعهد الفتح والتي اتبعتها هذه المعاهد وقريبًا من مدارسة كتب التراث أسس "موفق مرابع" نائب مدير معهد الفتح والذي استشهد ابنه مقاتلًا في صفوف المعارضة "دارَ القرآن الكريم وعلومه" في إسطنبول أيضًا.

وفي المناسبة ذات القدسية العالية عند الطرق الصوفية جهّز دهمان قاعة متوسطة في القسم الآسيوي من اسطنبول للاحتفال بذكرى المولد النبوي عامَ 2016م، داعيًا عددًا لا بأس به من رجال الدعوة  والتصوف الترك والعرب، وفي الصفّ الأول للحضور وعلى يمين دهمان يظهر في الفيديو رجلٌ أربعينيٌّ بهيئة صوفية أضخم من دهمان قليلًا وشريكه في التوجه المعادي للسلفية والإخوان بشكل علنيٍّ والمهاجم للمعارضة السورية من معقلها إسطنبول، إلا أن هذا الأربعيني ليس سليل معهد شرعيّ وإنما كان دكتورَ التفسير في جامعة دمشق عبد القادر الحسين، وكدهمان كان عبد القادر وفيًّا لأستاذيه المباشرين "البوطي" و"علي جمعة" في تبنيه موقفًا معاديًا للثورات، غير أنَّ هذا الموقف لم يمنعه من تبوّء منصب في جامعة "يلوا" التركية.

أما على العكس من الحسين فقد انحاز كثيرٌ من رجالات جامعة دمشق إلى الثورة وبرزوا في أيامها الأولى على الساحة السياسية كنائب عميد كلية الشريعة في جامعة دمشق الصاعد في مجال الفكر الإسلامي "عماد الرين الرشيد" مؤسس "التيار الوطني السوري" والذي تراجع خطوة عن الساحة السياسية وعاد إلى الحياة الأكاديمية عميدًا لجامعة الباشاك شهير أول جامعة تركية تدرّس باللغة العربية بشكل كاملٍ. وعلى خطى الرشيد في التراجع انسحب "أحمد إدريس الطعان" المدرس في كلية الشريعة من العمل العسكري في الشمال السوري عائدًا إلى نشاطه الأكاديمي رئيسًا لجامعة الشام العلمية في شمال سوريا، بينما بقي دكتور الأحوال الشخصية في جامعة دمشق "أسامة الحموي" حبيس النشاط الأكاديمي بين جامعة إسطنبول وباشاك شهير مؤسسًّا: "تجمّع الأكاديميين العرب"[29].

وممن عمل في الحقل الأكاديمي بعد الثورة في تركيا لا امتدادًا لجامعة دمشق فحسب بل لمعهد الفتح الإسلامي كذلك "عدنان درويش" شقيق القيادي والشرعي في جيش الإسلام "سعيد درويش" والمدرس لمادة أصول الفقه بكلية الأدب العربي في جامعة صباح الدين الزعيم التركية حاليًّا؛ الذي يشترك مع دهمان والحسين في العداء العلني للوهابية والإخوان والثورة السورية الذي تجلى واضحًا بمضايقته لنشاطات طلابية في جامعة صباح الدين زعيم معروفين بطابع مؤيد للثورة السورية حسب مصادر لميدان.

بلباسه الدمشقي المعتاد ولكنته الشامية المعتقة ظهر أسامة الرفاعي شيخ جماعة زيد مراتٍ عدة على شاشات تلفزيونية متحدثًا عن تضييق النظام السوري على العلماء في دمشق وملاحقتهم ومراقبتهم، وذلك بعد خروجه منها مع شقيقه "سارية الرفاعي" باتفاق مع النظام ينص على ترحيلهم مقابل إخراج "باسل هيلم" والطبيب "محمد حمزة" معتقلي الصف الثاني من جماعة زيد في سجون النظام السوري إثر مشاركتهم بإعداد مظاهرات ضده وسط العاصمة. التزمت الجماعة بالاتفاق وخرجت مع بعضٍ من صفها الأول إلى مصرَ وأنشؤوا فيها 3 مدارس ومركزًا آخر لجماعة زيد، إلا أن النظام من جانبه لم يفِ ببنود الاتفاقية كاملة؛ حيث أخرج "هيلم" وأبقى "محمد حمزة" طبيب الأسنان وصهر أبو الجود سرميني المنشد المعروف معتقلًا[30].

انتقلت الجماعة بعد مصر إلى إسطنبول مستقدمةً إليها وململمة مَن بقي من أبنائها لإعادة نشاطها وتوسيعه وتنويعه بما تفرضه طبيعة إسطنبول لكونها جامعة أكبر عدد من اللاجئين السوريين، فبدأت الجماعة بتأسيس "مؤسسة زيد بن ثابت الأهلية" (التعليمية، الدعوية، الإغاثية) التي امتدت جغرافيًّا إلى المناطق المحررة في سورية كالغوطة الشرقية ووريف إدلب/حزانو، ثم أنشئت الجماعةُ مؤسسة (SDI) محاولةً للتفرد بالعمل الإغاثي والتنموي باستيفاء شروط "مكتب تنسيق الشروط الإنسانية التابع للأمم المتحدة" المعروف اختصارًا بالـ "OCHA".

كما أنشأت مراكز طبية ودعوية وإعلامية، أزالت جميعا "علم الثورة السورية" من شعاراتها في وقت مبكر نسبيا من عمر الثورة السورية، غيرَ أنَّ بعض هذه المؤسسات المنبثقة عن الجماعة استقلت عنها وبعض منها أغلق بسبب ما قيل إنه "فساد إداري ومالي"، ولعل ذلك يرجع بحسب قريبين من الجماعة إلى العلاقات الشخصية وعلاقات القرابة المؤثرة في القرار والاختيار أثناء عمليات التوظيف وافتتاح مشاريع الجماعة، هذه الآلية التي تعتبر امتدادًا عمليًّا لجملة كانت شائعة في دمشق "ابن الشيخ شيخ".

رغم زجِّ الجماعات طاقتها بالأعمال الدعوية والتربوية والتعليمية والإغاثية إلا أنها لم تترك موطئ قدمها فارغًا في الساحة السياسية؛ حيث بدأ يبرز منها باسل هيلم الذي ترأس "منبر الجمعيات السورية" في إسطنبول، بينما ترأّس "أسامة الرفاعي" المجلس الإسلامي السوري، ورافقه في عضوية المجلس "محمد أبو الخير شكري" إمام مسجد الشافعي، الذي قيل إنه كان قريبًا من جماعة أبو النور ثم من جماعة زيد عشيةَ الثورة وبعدها، لكن حظوة شكري بالساحة السياسية كانت أكبر؛ حيث شغل منصب عضو في "الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة" ورئيسًا "للمجلس السوري للسلم الأهلي"، إضافةً إلى افتتاحه مراكز طبية وجمعيات تعليمية وشركة إعلامية في إسطنبول.

*أجسام موحِّدة* 

بعينٍ تتردد إلى ورقة يمسكها بيده المرتجفة قليلًا لعمره الثمانيني الذي لم يؤثّر على لسانه الخطابيّ الثابت أعلن شيخ قراء الشام كريم راجح من الدوحة 10/ 9/ 2012 إعادةَ تأسيس "رابطة علماء الشام" التي أوقفت 1963م.  على منصة الإعلان وبترتيب مقصود أو غير مقصود جلس على ميمنة كريم راجح مؤسس الحركة السرورية التي تجمع بين الفكر السلفي والنشاط السياسي الإخواني والتي أثرت على الصحوة السلفية بالسعودية "محمد سرور زين العابدين" وعلى يمين زين العابدين جلس الطالب الدمشقي لعبد الكريم الرفاعي الذي نُفي معه إلى جدة ولم يعد إلى دمشق "جمال السيروان" بينما يجلس على ميسرة راجح نائبه في رئاسة الرابطة "أسامة الرفاعي".

غطّت "رابطة علماء الشام" بشكل أساسي على "رابطة العلماء السوريين" المرتبطة بالإخوان المسلمين السوريين في المهجر، والتي تأسست 2006 في السويد ثم ترخّصت في 2013 بتركيا والتي كان يرأسها عالم التفسير المنحدر من أصول حلبية والمنفي عن سوريا منذ الثمانينات "محمد علي الصابوني". كما ركّزت الرابطة جهودها على تشكيل "الائتلاف السوري الوطني لقوى الثورة والمعارضة" الذي يُعد الجسم الأساسيَّ للمعارضة السورية في الخارج، إذ قدّمت الرابطة في تشرين الثاني/نوفمبر 2013 الرئيسَ الأوّلَ للائتلاف: "معاذ الخطيب" [31] خطيب المسجد الأموي ورئيس جمعية التمدن الإسلامي سابقا والتي كان والده أبو الفرج من مؤسسيها. يُصنف الخطيب ضمن ما يصفهم الباحث البلجيكي بـ"الإصلاحيين"[32]، الذين يقصد بهم تيار الإسلاميين السوريين المؤيدين للديموقراطية سواء أكانوا مفكرين يهتمون بالمسائل الدينية والقانونية أم ناشطين يركزون على موضوع التغيير السياسي[33]، ورغم دعم الرابطة لرئاسة "الخطيب" في الائتلاف إلا أنه استقال من منصبه بعد 5 شهور.

كانت "رابطةُ علماء الشام" أيضًا عمادَ "المجلس الإسلامي السوري"بحيازتها ثلثَ مقاعد مجلس الأمانة فيه، ثِقَلٌ ساهم بتمثيل متزايد للشيوخ الحمصيين والدمشقيين الذين باتوا يمثلون أكثر من نصف أعضاء المجلس؛ منهم: "عبد الكريم بكار" "راتب النابلسي" "أبو الخير شكري" "أيمن شعباني" "معاذ الخطيب".

سعى المجلس منذ تأسيسه وعقده اجتماعه الافتتاحي في إسطنبول ١١/ ١٢ أبريل ٢٠١٤ ليصبح المرجعية الدينية المعارضة الكبرى في البلاد. يتكون المجلس من ١٢٨ عضوا، خمسون منهم في الداخل السوري المحرر، ويدعي تمثيله لـ٤٠ رابطة وجمعية دينية انتشرت في البلاد والمهجر منذ عام ٢٠١١. رغم أنه كان من المفترض أن يؤسس المجلس لإظهار وحدة من جانب العلماء، إلا أن المبادرة بدت مسببة للخلاف، وتحديدا بسبب انسحاب أكبر التحالفات الثورية المسلحة في سوريا: "الجبهة الإسلامية"، مما جعل المجلسَ غير قادر على تحقيق الوحدة التي نشدها؛ والسبب في ذلك أن الأجسام العسكرية الكبرى فيه كـ "جيش الإسلام"  و"حركة أحرار الشام" تمتلك مرجعيّتها الشرعية الخاصة التي تكتفي بها وتحاول في الوقت  ذاته فرضها على أماكن سيطرتها منافسةً بها الأجسامَ القضائية المستقلة، وأما السبب الثاني الذي ما عاد خفيًّا على أحد فهو الصراع التقليدي التاريخي "السلفي الأشعري" والذي كان مانعًا دائمًا من توحّد الأجسام السورية الثورية على الصعيدين السياسي والعسكري.

أمّا في دمشق فقد كانت طريقة توحيد الأطياف المختلفة حدّ التناقض في جسم واحدٍ تتخذ منحىً وآلياتٍ أُخرى، بدأ التّعرف على مخاطرها ومحاولتها التغوّل الجذري في نواة المجتمع الدمشقي عندما شدّ وفدٌ من علمائيي دمشق رحالهم إلى طهران وتحلّقوا على الأرض حول الخامنئي بجلسة خاصة سرعان ما انتشرت صورها على منصات التواصل الاجتماعي.

على يمين خامنئي مباشرة يجلس وزير الأوقاف عبد الستار السيد ويجلس على مقربة منه الدكتور في كلية الشريعة بجامعة دمشق وابن المخابرات السورية المدلل حسب مصادر لميدان "حسان عوض" الذي حظي بخطابة مسجد الرفاعي بعد ترحيل جماعة زيد منه، وعلى الأرض يجلس مدير أوقاف دمشق "أحمد سامر القباني" الابن الروحي لحسام الدين الفرفور كما هو مشتهر في معهد الفتح إلى جانب الابن البكر لحسام الدين الفرفور ووراءهم تمامًا توفيق نجل محمد سعيد رمضان البوطي على بعد رجلٍ واحد من "المقاول" حسام الدين الفرفور، وطبعًا مع حضور كوتة نسائية من جماعة القبيسيات.

جاء هذا المشهد بعد عام فقط من حفل الاحتفاء بتخريج نحو 850 طالباً يمثلون الدفعة الرابعة من طلاب "معهد الشام العالي" بفروعه الثلاثة “مجمع الفتح الإسلامي وحوزة السيدة رقية ومجمع الشيخ أحمد كفتارو” كشف وزير الأوقاف محمد عبد الستار السيد خلال الكلمة التي ألقاها في الحفل عن مفاجئة كبرى للحضور ألا وهي موافقة بشار الأسد على تحويل "معهد الشام العالي" إلى "جامعة بلاد الشام للعلوم الشرعية والعربية والبحوث الإسلامية" تحت مظلّة وزارة التعليم العالي.

وبعودة زمانية إلى جذور هذا الإعلان الذي يُمثّل اعترافًا من الدولة بشهاداتٍ لمعاهد شرعيّة مهمشة ومهشّمة ومستقلة عنها نجد أنَّه يلبّي مطمحًا كبيرًا لابن "المقاول الفرعي" صالح الفرفور وخليفته في الإشراف على معهد الفتح منذ 1984 "حسام الدين الفرفور" الذي عُرف عنه أنه منذ مطلع الألفية كان يبحث بشتى الطرق عن اعترافٍ لمعهده المهمّش من النظام، اعترافٌ بدأت إرهاصاته بإصدار بشار الأسد في بدايات الحراك الثوري نيسان 2011  المرسومَ التشريعيَّ رقم (48) لقاضي بإحداث "معهد الشام العالي للعلوم الشرعية واللغة العربية والدراسات والبحوث الإسلامية" مقره مدينة دمشق ويرتبط بوزارة الأوقاف "الخصيم" للمعاهد الشرعية، ويتألف المعهد من ثلاثة أقسام: "مجمع الفتح الإسلامي" و"مجمع الشيخ أحمد كفتارو" و"مجمع السيدة رقية" الشيعي الاثني عشري.

فإن كان هذا الاعتراف المبدئي مع ما تبعه يحقق طموحًا لورثة "المقاول الفرعي" صالح الفرفور إلا أنه لم يحقق طموحًا لورثة المقاول الفرعي الثاني "أحمد كفتارو" الذي شهدت مؤسسته "مجمع أبو النور" انقلابات داخلية إثر هذا الاعتراف.

يأتي هذا الاعتراف بتوقيته كمواصلةٍ للمقايضة بين النظام و"المقاولين"، المقايضة التي لم تتوقّف منذ الشهر الأول للثورة في سوريا وبدأت بتجنبهم وتجنيب دخول طلابهم في الحراك الثوري ثم محاولة الاستمالة إلى جهة النّظام وصولًا إلى دمجهم مع المكوّن الشيعي بطريقة لم يكن يحلم بها يومًا، طريقةٍ تضفي عليه شرعية دينية واجتماعية في سابقة هي الأولى من نوعها على مستوى دمشق، تجلّت بإعلان "التوأمة" بين معهد الفتح الإسلامي ومعهد أبو النور من جهة والسفارة الإيرانية من جهة أخرى في 2016؛ حيث استقبل المعهدان كل على حدة وفدًا من السفارة الإيرانية وسط حماية مشددة من الحرس الثوري.

وبهذا يكون النظام السوري  قد وجد في  "مجمع أبو النور" ومعهد الفتح الإسلامي" شركاء دينيين له في مرحلة ما بعد الثورة، لا لقربهم من الأيديولوجيا البعثية وحسب، وإنما لقوة ولائهم له ومصداقيتهم معه بناء على قربهم من ولائهم للأيديولوجيا البعثية، وتبادل المصالح التي يعدّ النظام طرفها الأقوى ولاعبها الأدهى في استثمار العمامة المصلحية لخدمة بطش الاستبداد السياسي، كما استطاع النّظام إضافة إلى ذلك استدخال مكوّنٍ شيعيّ جديد للهيمنة على الشبكة العلمائية والإضرار بها داخل دمشق، بما سيؤثر في علاقتها مع امتداداتها خارج دمشق وفي ديناميات التعامل داخل كل مكون.

*هل يرجعون؟* 

كانت الثورة السورية انفجارا لكل قطاعات المجتمع، بما فيها العلمائية، التي كانت قطاعا نخبويا محددا، وجد نفسه كأي قطاع معنيا بالدفاع عن وجوده ومصالحه بالدرجة الأولى، مع محاولات للانخراط بالنقاشات العامة حول القضايا السياسية والعسكرية دون سابق تجربة أو خبرة، بما يفسر انقسام مواقف العلماء؛ فالموالون عملوا على تحقيق فوائد قطاعية من الأزمة من خلال تقديم الدعم لنظام الأسد مقابل التمكن من إنشاء معهد جديد للدراسات الإسلامية كما فعل الفرفور وورثة كفتارو، بينما رفض كريم راجح اللعب على حبال المطالب القطاعية وأشاد بالمتظاهرين الذين يخاطرون بحياتهم لاسترداد الحقوق المسروقة من 40 عاما [42]  كامتداد لجماعة الميدان الثائرة، في حين تفرعت جماعة زيد مؤسساتيا وجغرافيا، ليبقى المشترك الوحيد بين كل هذه المكونات للشبكة العلمائية هو تفكك القاعدة، بدرجات متفاوتة باختلاف التيارات، مع الحفاظ على النواة الصلبة للصفوف الأولى في كل جماعة.

ورغم أن السلوك السياسي للعلماء يقع على طرفي النقيض في منعطف ما بعد الثورة فإنهم جميعًا تقريبًا يقبلون، علانية أو ضمنيا، بأن تسمح الدولة وتعزز الواجبات الدينية العملية للمجتمع مقابل أن يكفوا عن الانخراط في السياسة التي لا تروق لغالبيتهم ولا يجيدونها، بما يفسر تحديدًا المواقف الرخوة للعلماء المحسوبين على الثورة السورية تجاه النظام السوري في أشد مواقف الثورة تأزمًا على الصعيد العسكري والسياسي والإنساني، وتفسر ربما سبب انسحابهم من الساحة العسكرية والسياسية وعودتهم إلى العمل الاجتماعي والتربوي والتعليمي الذي يجدون فيه أنفسهم ويعدّونه مضمارهم مما يشرّع السؤال عما لو فتح الأسد أبواب المصالحة مع العلماء المعارضين له والمنفيين خارج سوريا، مع تخفيف شيء من "علمانية" الدولة والسماح بهامش من التديّن الاجتماعي؛ فهل سيرجعون؟!

وسوم: العدد 789