( ومهما تكن عند امرىء من خليقة = فإن خالها تخفى على الناس تعلم )
معلقة الشاعر الجاهلي زهير بن أبي سلمى من الشعر الإنساني الخالد الذي لا يخلق أبدا مع مرور الزمن ،لأنه تضمن حكما تلخص تجارب وسلوكات إنسانية تتجاوز الأمكنة والأزمنة ، ولا يخلو منها مجتمع بشري .
ومن ضمن ما حوته هذه المعلقة الخالدة الحكمة المشهورة التي جرت في الناس مجرى المثل وهي بيته الشعري الشهير :
هذا البيت الشعري يتناول موضوع الخلق أو الخليقة ،وهي طبيعة الإنسان أو مجموع صفاته النفسية والأعمال الصادرة عنه والتي توصف إما بالحسن أو بالقبح .
والإنسان منذ كان مجبول على حب إظهار خليقته الحسنة ليجازى ويحمد ، وإخفاء خليقته السيئة حتى لا يحاسب أو يذم .وبالرغم من حرص الإنسان على إخفاء قبيحه ،فإنه يعلم وإن طال الزمان .
وسنعرض بعض النماذج مما يحاول الإنسان إخفاءه من قبح على سبيل التمثيل لا الحصر فيعلمه الناس وإن طال زمان الإخفاء .
ـ خيانة الأمانات : ومن أمثلتها أن بعض الناس يستأمنون على أمانات مادية أو معنوية وهم يتقلدون مسؤوليات، فيخونونها بشكل أو بآخر ، ويبذلون ما في وسعهم للتمويه على ذلك ، وفي اعتقادهم أنه من الصعوبة بمكان أن يفتضح ما يخفون ولا يبدون، لكنهم مع مرور الأيام ينكشف أمرهم ، وقد يكونون هم السبب في ذلك بزلات ألسنتهم أو بسلوك صادر عنهم . وكثيرا ما تنقل لنا الأخبار نماذج من خيانة الأمانات المختلفة ، فنسمع بعمليات سطو المؤتمنين من كبار المسؤولين وصغارهم على ما لا يحق لهم أو نسمع باستفادتهم غير المشروعة من امتيازات لا تحل لهم ،وقد ظلوا ردحا من الزمن يختلسون ويستفيدون وهم يظنون أنهم قد أخذوا كل حيطة كي لا يطلع عليهم أحد، لكن أمره يشيع بالرغم من كل ذلك ، فليحقهم الخزي والعار والشنار ، ومنهم من يواجه العقاب ، ومنهم من يفلت منه ولكنه لا يفلت من الخزي بل يزيده إفلاته من العقاب خزيا خصوصا إذا كان ممن يتستر عنهم من هم من طينتهم خيانة وخزيا ، فيخزى من خان ومن ستره أو كان له خصيما على حد سواء ، ويعلم الناس خليقتهم وقد طنوا أنها ستخفى عليهم وما هي بخافية .
ـ خيانة العلاقات : ومن أمثلتها أن البعض يخونون العلاقات، وهي كثيرة منها القرابة ، والمصاهرة ، والجوار، والصداقة، والزمالة .
ومن نماذج خيانة علاقة القرابة الخيانة بين الأزواج حيث يخون بعضهم بعضا ، وقد يتم ذلك عن طريق محاولة أحد الزوجين أو هما معا إخفاء ما كان من قبيح خلق أو فعل قبل ارتباطهما بعلاقة الزواج ، ويقدم كل منهما نفسه للآخر في أجمل وأنظف وأعف صورة ، وتمضي الأيام بينهما وتطول حتى يظنان أن ما أخفياه قد صار نسيا منسيا، لكنه يظهر فجأة عن طريق صدفة غير متوقعة تجمع بين مطّلع على ما أخفياه من قبيح ، فيحدث به ويكشفه ، وقد كان بإمكانهما التكفير عن هذا القبيح بالاعتراف به قبل الارتباط بعلاقة الزواج ، وذلك من الفضيلة عوض إخفائه وهو رذيلة وعار وشنار . وقد يقع القبيح بين الزوجين بعد ارتباطهما بعلاقة الزواج ، ويجتهد كل منهما بالتستر عليه وإخفائه ، ويمضي على ذلك زمن قد يطول يظنان معه أنه لا سبيل لانكشاف القبيح، لكن تأتي لحظة لا تكون في الحسبان والتقدير، فيسقط القناع ويحصل الاقتناع بوقوع القبيح ، وهذه الحالة أسوأ من السابقة لأن إخفاء القبيح وإن كان قبيحا قبل الارتباط بعلاقة الزواج أهون من القبيح بعد الارتباط وهو أشنع وأدهى وأمر. وعلى غرار خيانة الأمانات نسمع بين الحين والآخر أنباء عن خيانة العلاقات من صنف الخيانة الزوجية ، فيخزى بذلك الأزواج والزيجات ، وتخرب بيوت ، ويفسد الحرث والنسل والله لا يحب الفساد.
ومن نماذج خيانة العلاقات كذلك خيانة علاقة المصاهرة حيث يخون الأصهار بعضهم بعضا ، فتبدأ علاقتهم بإظهارالجميل و المبالغة في الود وفي طيهما إخفاء القبيح والبغض زمنا حتى يأتي يوم مشهود تسقط فيه الأقنعة وتبدو شناعة وبشاعة الوجوه وقبحها ، ويفتضح ما ظنوه سرا مطمورا إلى الأبد ، ويخزى منهم من خان هذه العلاقة التي جعلها الله عز وجل ندة لعلاقة النسب في قوله عز من قائل : (( وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا )).
ومن نماذج خيانة العلاقات أيضا خيانة علاقة الجوار حيث يخون الجيران بعضهم بعضا بالسطو على ما لا يحل لهم من أعراض أو متاع ، ويظهرون لبعضهم البعض بالغ المحبة والاحترام لإخفاء الخيانة التي يمضي عليه الأمد الطويل حتى يحين حين يكشف عنها النقاب بشكل أو، بآخر فيخزى منهم من خان هذه العلاقة التي لا تقل قدسية عن علاقة القرابة .
ومن نماذج خيانة العلاقات أيضا خيانة علاقة الصداقة والزمالة حيث يخون الأصدقاء والزملاء بعضهم بعضا بالغدر والخداع والكيد والوشاية الكاذبة ... فيخفون ذلك بإظهار المحبة الكاذبة زمنا طويلا حتى يأتي يوم يفصح الغدر،والكيد ، والخداع ،والوشاية عن زيف المحبة الزائفة بينهم خلال لحظة غير متوقعة ، وبخزى منهم من يخزى بخيانة علاقة من أشرف العلاقات أيضا.
ـ خيانة المعاملات : ومن أمثلتها أن البعض ممن ليسوا أقارب، ولا أصهار، ولا جيران ،ولا أصدقاء ،ولا زملاء يعتمدون في معاملاته الغش والتدليس ، ويظهرون لبعضهم البعض صفاء المعاملة ، ولا يدخرون جهدا في التظاهر بها كلما جمعتهم معاملة من المعاملات ، ويمضي على ذلك وقت طويل حتى يأذن الله عز وجل بلحظة ينكشف فيها الغش والتدليس بالرغم مما أحيطا بهما من كتمان ، فيخزى الغاش والمدلس منهم . ومعلوم أن الغش والتدليس قد ينقلبان على أصحابهم انقلاب السحر على السحرة كما يقال ، ومما يروى من ذلك أن تاجرا غشاشا باع بضاعة ناقصة في المكيال لفلاح ، فأحذ يبتاع منه منتوجا لردح من الزمن والفلاح يزن المنتوج الذي يبيعه للتاجر بالبضاعة الناقصة التي اشتراها منه، لأنه لم يكن يملك مكيال يزن به ، وفي يوم من الأيام كال التاجر منتوج الفلاح، فوجده ناقصا في المكيال ،فلامه وعاتبه إلا أن الفلاح أخبره بأنه لا يملك مكيالا يزن به، وأنه يزن بالبضاعة التي اشتراها منه ظانا أنها كيل صحيح ، فعاد الغش على التاجر الغشاش الذي أخسر الكيل والميزان .
وبالرغم من أن كل الناس يرددون بيت الشاعر زهير بل يحفظونه عن ظهر قلب إلا أن القليل منهم من يستفيد منه، فيجعل سر خليقته كعلانيتها ، ولا يخفي منها قبيحا لأنه لا يأمن أن يعلمه الناس وإن طال الزمن . والقبيح أشنع ما يكون إذا طال زمن إخفائه حيث يصير كرة ثلج كما يقال وقد كان في بدايته نتفة منه أو يصير قبة وقد كان في بدايته حبة أو يصير جبلا بعدما كان في بدايته حنفة من تراب. ولو أباح صاحب القبيح بما فيه أول الأمر لنجا من الخزي والحسرة والندامة ،وحاز الفضيلة بالاعتراف بقبيحه في أوانه .
وفي الأخير نهمس في أذن كل من ساءت خليقته ببيت زهير ونقول له ترقب يوم الكشف عن قبيحك فإنه آت لا محالة :
وسوم: العدد 797