سورية بين نظام سادي وثورة شعب 8
الحلقة الثامنة
التيارات الفاعلة في الجيش السوري التي أدارت ظهرها للعدو الصهيوني وراحت تتصارع على الحكم في سورية
لقد ظهرت في الجيش ثلاثة تيارات عقب نجاح حركة الانفصال في 28 أيلول 1961م التي قادها (مجموعة الشوام): -التيار الأول وهو الأكثر أهمية ويضم عدداً من المجموعات الصغيرة حول القيادات العسكرية النافذة. وهؤلاء الضباط الذين يتكون منهم هذا التيار يمكن وصفهم بالقوميين والتقدميين والمستقلين. ولكنهم جميعاً يعارضون نظام الانفصال، وليسوا من أنصار وحدة غير مشروطة مع مصر الناصرية.
-التيار الثاني يتكون من الضباط الناصريين. وإذا كان عددهم كبيراً، إلا أنهم متفرقون ومبعثرون، وليس هناك من رابط تنظيمي يجمع ويوحد فيما بينهم.
-التيار الثالث ويتألف من الضباط البعثيين. وهم يشكّلون تجمعاً صغيراً غير أنه منظم تنظيماً جيداً، (ومن هنا كانت قوته الحقيقية).
لقد كان لهذه التكتلات هدف آني مشترك، بالرغم من الخلافات السياسية العميقة بينها. وهدفهم المشترك كان مجتمعاً على الإطاحة بالنظام الانفصالي. (وفي الظلام كان كل تيار يعمل لتغيير موازين القوى في الجيش لصالحه، وكان أنشط هذه التيارات، التيار البعثي)(1).
في أوائل عام 1962م، جرت اتصالات بين الضباط الناصريين والضباط البعثيين، من أجل القيام بعمل مشترك لتنفيذ انقلاب عسكري، يطيح بحكم الانفصال، وبدت المفاوضات السرية في غاية الصعوبة بين الفريقين، حيث كان الحذر وحتى سوء النية بادياً بينهما في هذه المفاوضات. فقد كان يطالب الضباط الناصريون بشدة بعودة سورية الفورية إلى حظيرة الوحدة. ويلحون بأن يعلن ذلك في البيان الأول للانقلاب. وحجتهم بأن على الأوضاع الشرعية أن تعود إلى سابق عهدها، ثم تدرس بعد ذلك أخطاء تجربة الوحدة الماضية، والشكل الملائم للوحدة الجديدة. وأما الضباط البعثيون، وهم أكثر مناورة من الناحية التكتيكية، فكانوا يعللون عدم إمكان إعلان عودة الوحدة فوراً لسببين: إذ يجب قبيل إعلان الوحدة بين مصر وسورية، التأكيد على أن حركتهم موجهة فقط ضد النحلاوي، وذلك حتى نستطيع أن نكسب تأييد الوحدات العسكرية. ومن ناحية ثانية، فمن الضروري أن نعمد بعد ذلك إلى تصفية الجيش. وإذا كان البعثيون يقرون بأن النظام الانفصالي غير شرعي، إلا أنه أصبح برأيهم أمراً واقعاً لا يمكن تجاهله.
ومهما يكن من أمر، فهم لا يريدون أن يأخذوا كنموذج للوحدة، شكل وأسس وحدة عام 1958م.
والحقيقة أن قضية الضباط الذين سرحوا من بعثيين وناصريين منذ 28 أيلول 1961م، كانت تثير الخلافات الحادة بين التيارين خلال المفاوضات التي كانت تدور بينهما. فالناصريون يعتبرون أن عودتهم إلى الجيش يجب أن تبقى من صلاحيات الرئيس عبد الناصر، بينما البعثيون المدركون إلى حقيقة ضعفهم العددي داخل الجيش، كانوا متصلبين في موقفهم حول هذه النقطة، ويلحون بأن تكون عودة هؤلاء الضباط مع إعلان الانقلاب حتى يستطيعوا أن يحتلوا مراكزهم القيادية في وحداتهم السابقة.
لقد عرض سامي الجندي هذه الحقائق، وهو أحد المدنيين القلائل الذين كانوا يقومون بصلة الوصل بين البعثيين والناصرين من جهة، وبين هؤلاء والرئيس عبد الناصر من جهة أخرى.
ويذكر الجندي (أنه خلال هذه الفترة اجتمع لأول مرة برئيس الجمهورية العربية المتحدة في القاهرة، من أجل أن يضعه شخصياً على معرفة ما يجري من التحضيرات للحركة العسكرية المزمع تنفيذها ضد النظام الانفصالي السوري، وأخذ موافقته في هذا الموضوع. ويضيف أيضاً بأن الرئيس عبد الناصر كان قد أخبر من قبل النحلاوي بأن هذا الأخير ينوي القيام بانقلاب ضد الحكم في سورية، وأنه أخذ علماً بمضمون نص البيان رقم واحد وأبدى موافقته عليه)(2).
في هذا الجو العام حاول عبد الكريم النحلاوي وأنصاره (كتلة الشوام) في 28 آذار 1962م، أن يستغلوا استياء الشعب والجيش عموماً ضد حكم الانفصال، من أجل القيام بانقلاب عسكري آخر.
وبالفعل أصدروا قرار حل مجلس النواب والقوا القبض على رئيس الحكومة والوزراء وعدد من رجال السياسة. وكان أهم الشخصيات التي تم اعتقالها هي: (مأمون الكزبري، ومعروف الدواليبي، وصبري العسلي، ولطفي الحفار، وخالد العظم، وجلال السيد، ورشيد الدقر، ومحمد عابدين، وسهيل الخوري، وعبد الرحمن الهندي، وأحمد قنبر، وبكري القباني، وعدنان قوتلي، وفؤاد عادل، ومصطفى الزرقا، وأحمد علي كامل، ومحمد الشواف، ومحمود العظم، ونعّوم السيوفي، وفيضي الأتاسي، وسعيد تلاوي، وعبد الكريم دندشي، وعوض بركات، وزياد إسماعيل، وعادل العجلاني، وحنين صحناوي، ورشدي كيخيا، بالإضافة إلى رئيس الجمهورية ناظم القدسي)(3).
وكانت الإغراءات كبيرة أمام النحلاوي لإقامة نظام شبيه بنظام (العقيد أديب الشيشكلي)(4). ولكي يكسب النحلاوي التيار الوطني الوحدوي لصالح حركته، فقد أعلنت الحركة عن تمسكها بوحدة البلاد العربية ورغبتها في إعادة الحوار مع القاهرة من أجل العودة إلى الوحدة السورية-المصرية، ضمن إطار الجمهورية العربية المتحدة(5). (لقد اجتمع ثلاثة من قادة انقلاب 28 أيلول 1961م، وهم زهير عقيل ومحمد منصور وفايز الرفاعي بالرئيس عبد الناصر في القاهرة في 13 كانون الثاني 1962م، أي بعد ثلاثة أشهر ونيف من الانفصال السوري وحاولوا أن يظهروا له أنه لم يكن في نيتهم أبداً فك الوحدة بين سورية ومصر وإنما فقط تصحيح الانحرافات والأخطاء التي ارتكبت في تلك الفترة (6).
لم يمنع التحالف العرضي بين البعثيين والناصريين من إيجاد حل وسط، فقد تم الاتفاق فعلاً للقيام بحركة ضد نظام الانفصال، وحددوا يوم 2 نيسان موعداً لتحركهم في تنفيذ مخططهم. ولكن الضباط الناصريين غيروا في آخر لحظة خطتهم وفكروا في أن يقوموا بعملهم العسكري لحسابهم الخاص. معتقدين أن التيار الشعبي المعارض لحكومة الانفصال والذي ارتدى طابعاً وحدوياً ناصرياً، سيكون لهم وحدهم أكبر دعم دون غيرهم. كذلك كانوا يرون ان الاستياء ضمن الجيش لابد أن يكون لمصلحتهم. وعليهم أخذ المبادرة ووضع القوات المسلحة أمام الأمر الواقع. لهذا قدموا توقيت حركتهم 48 ساعة، بحيث تتم الانطلاقة مساء 31 آذار من مدينة حمص ثم تتبعها مدينة حلب.
وبالفعل انطلقت في 30 آذار حركة تمرد من حمص وما لبث ان عمّت أنحاء البلاد سريعاً. قامت بها بعض الوحدات العسكرية ضد (قيادة الجيش) في دمشق، وشارك فيها كثير من العناصر الناصرية والبعثية والوحدوية المستقلة (التحق عدد كبير من الضباط المسرحين بوحداتهم ومن ضمنهم حوالي 80 ضابطاً بعثياً(7). ووقعت بعض الصدامات الدموية، مما أدى إلى سقوط العديد من القتلى والجرحى بين الضباط والجنود وخاصة في حلب وحمص، حتى أصبحت سورية على شفير حرب أهلية طاحنة طوال أسبوع كاملة، كما تناقلت ذلك وكالات الأنباء.
في هذه الأثناء، انطلقت المظاهرات الشعبية وكادت أن تتحول إلى انتفاضات جماهيرية عارمة وإلى صدامات دامية، خاصة في حلب وحمص. وانتشرت مئات الصور للرئيس عبد الناصر وأعلام الجمهورية العربية المتحدة في أنحاء البلاد (كان لعناصر السفارة المصرية في بيروت نشاط كبير في تطور هذه الأوضاع في المدينتين حلب وحمص)(8).
-المراجع-
1-ص(302/1) دندشلي-المصدر السابق.
2-ص(90-92) وما بعدها- سامي الجندي-البعث-دار النهار-بيروت.
3-ص(266-275/3) مذكرات العظم.
4-ص(196) مذكرات زهر الدين.
5-ص(167-173) نفس المصدر.
6-جريدة الأهرام القاهرية الصادرة يوم 27 نيسان 1962م.
7-ص(208) وما بعدها-مذكرات زهر الدين.
8-ص(302/1) دندشلي-المصدر السابق.
وسوم: العدد 798