زليخة
انتشر خبر خيانة زليخة انتشار النار في الهشيم ، وكذلك تشيع وتنتشر أخبار الفاحشة والخيانة الزوجية ، والزنا ومقدماته ونتائجه بصفة عامة ، وكظاهرة اجتماعية يكثر من حولها اللغط والهمز واللمز واللغو ويعتمد الانتشار الواسع والسريع فيها على الإشاعة ، والرواية الكاذبة الملفقة ، وسمعت ، وقيل لي ، وقال لي . يحدث هذا في كل المجتمعات وفي كل زمان، أذكر هنا نموذج حديث الإفك ، وما دار حوله من أكاذيب ، ومن تهم كاذبة لفقها المنافقون ، يقصدون من ورائها نشر الفاحشة في الذين آمنوا . ولمعالجة هذه الظاهرة الاجتماعية المرضية ، أمرنا الله سبحانه وتعالى ، أن نجتنب الحديث بالبهتان ، فيما يمس الأعراض وشرف الناس فقال : [ إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم لولا إذ سمعتموه ظن المومنون والمومنات بأنفسهم خيرا وقالوا هذا إفك مبين لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء فإذا لم ياتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون ولولا فضل الله عليكم ورحمته في الدنيا والآخرة لمسكم في ما أفضتم فيه عذاب عظيم إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا إن كنتم مومنين ويبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين أمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله رءوف رحيم ] ( سورة النور من آية 11 إلى آية 20 )
علمت نسوة المدينة بالفضيحة وتحدثت في الموضوع ، وقالت ما قالته من سوء في زليخة وضلالها وشغفها بيوسف عليه السلام ، وما أكثر ما يقال وما يفيض من حديث في مثل هذه المواقف ...[ وقالت نسوة في المدينة امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه قد شغفها حبا إنا لنراها في ضلال مبين ] ( يوسف آية 30 ) وتشعر زليخة بالحرج بنشر هذا الخبر المخجل فتحاول تبرير موقفها والدفاع عن نفسها وعن كبريائها وهذه أيضا حالة نفسية تتكرر مع تكرار مثل هذه الحوادث في الزمكان ، قد نسميها بظاهرة التبرير ، وحتى تدافع زليخة عن نفسها ، لجأت إلى الحيلة والتجربة الفعلية لتتأكد نسوة المدينة أن زليخة كانت معذورة لشغفها بحب يوسف وفي نفس الوقت لتحول بين النسوة وبين الاستمرار في مكرهن وانتقادهن لها والكلام في عرضها وشرفها والتعريض بها ، وهي الحرة سيدة القصر وامرأة العزيز ذات الجاه والقدر العظيم [ فلما سمعت بمكرهن أرسلت إليهن وأعتدت لهن متكأ وآتت كل واحدة منهن سكينا وقالت اخرج عليهن فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيدهن وقلن حاش لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم ] ( يوسف آية 31 ) . لما رأت زليخة ما رأته من تقطيع النسوة لأيديهن ، شعرت بنوع من النصر وبرد الاعتبار لشخصها وجاهها العظيم ، فلم تكن وحدها إذن ، التي شغفت بيوسف وأحبته إلى درجة الجنون ، بل حتى نسوة المدينة أفقدهن جمال يوسف ، الذي كان المبرر لحب زليخة والانبهار به ، عقلهن ووعيهن وحتى الإحساس والشعور بأيديهن ، إذ وصل بهن الأمر إلى تقطيع أيدهن دون إحساس منهن فصرحن واعترفن صراحة ، بأن زليخة محقة في مراودتها ليوسف وأنها كانت معذورة في مراودتها له ، لأنها لم تستطع مقاومة جمال يوسف ولا شهوتها وحبها الشديد ليوسف وخاصة وأن النفس البشرية ميالة للجمال ولا سيما عندما يكون الجمال معجزة كجمال يوسف . لقد وجدت زليخة في تقطيع الأيدي ، التبرير القاطع لخيانتها خصوصا وأن النسوة اعترفت وسلمت بدون تردد عدم قدرتهن على مقاومة جمال يوسف عليه السلام ، الذي أفقدهن الشعور بالإحساس بأيديهن فقطعنها ، فكان ذلك اعتراف وإقرار منهن على أن زليخة ، لما انبهرت بالجمال المعجز ، وراودت يوسف عليه السلام عن نفسه ، كانت معذورة في تقدير النسوة ومن وجهة نظرهن ، وأن الأمر مقبول ومشروع بالنسبة لهن ، ولا يمكن تفاديه على الأقل من الناحية النفسية لارتباطه بالعطفة . [ قالت فذلكن الذي لمتنني فيه ولقد راودته عن نفسه فاستعصم ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونن من الصاغرين ] ( يوسف آية 31 و32 ) . لما رأت زليخة ما رأته من تقطيع النسوة لأيديهن ومن أمر إعجابهن بجمال يوسف شعرت بنشوة الانتصار على النسوة اللاتي كن قد أكثرن القيل والقال في شرفها فشعرت برد الاعتبار لشخصها وبأنها كانت معذورة وربما حدثت نفسها بأنها كانت محقة ، في مراودتها ليوسف ، الذي أحط من قدرها وكبريائها ومرغ أنفها في التراب ، لرفضه الرضوخ لنزواتها الشهوانية وعدم الاستجابة لسلطة الهو الحيواني الغريزي عندها ، و حتى تحافظ زليخة على هيبتها وكبريائها وسمعتها كسيدة داخل القصر ، أسرت على النيل من يوسف والانتقام منه وإذلاله بإدخاله السجن . ف [ قالت فذلك الذي لمتنني فيه ولقد راودته عن نفسه فاستعصم ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونن من الصاغرين ] ( يوسف آية 32 ) وهذا حال الظالمين في كل زمان ومكان . إذا انفضح أمرهم ، وبان وظهر الحق ، وشعروا بالحرج وبأن صورتهم والهالة التي بنوها حول أنفسهم ومن حولهم ، والسلطة التي يتمتعون بها قد اهتزت أو بدأت في الاهتزاز ، لجأوا إلى أساليب التهديد والوعيد والتعذيب والعقاب ، ولكن يوسف عليه السلام ، الذي رأى برهان ربه ، الذي صرف عنه السوء والفحشاء لصلاحه ولتقواه وخوفه من ربه وطاعته له ، ما كان ليرضخ ويستسلم لنزوات وشهوات زليخة العابرة ولا لأوامر السيدة الآمر والناهية في القصر، ولا للظلم الذي مورس عليه . بل لجأ إلى مولاه مستنجدا به طالبا حمايته ولكنه ولحكمة يعلمها الله ، دعا على نفسه بالسجن ، ـ ربما لحجم الضغوطات النفسية التي مورست عليه ـ بدلا من أن يدعو لنفسه فقال : كما أخبرنا القرآن الكريم [ قال ربي السجن أحب إلي مما يدعونني إليه وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين ] ( يوسف آية 33 ) فاستجاب له ربه ، لأنه كان من عباده الصالحين ، وكذلك دعاء الصالحين لا يرد [ فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن إنه هو السميع العليم ] ( يوسف آية 34 ) .
إن وقوف وتحدي يوسف عليه السلام ، لزليخة وظلمها ومن ورائها النسوة وكل خدم القصر ، كان نموذجا وقدوة حسنة ، لكل المظلومين في هذه الدنيا ، إذ عليهم أن لا يرضخوا للظالمين وأن يواجهوهم ولا يعتبرون ظلمهم قدرا ليستسلموا إليه ، وأن لا يتنازلوا عن قضاياهم ومبادئهم ، التي آمنوا بها وعلى رأسها قضية الإيمان بالله واتباع رسوله ، مهما كان ضعفهم وعدم مقدرتهم على المواجهة غير المتكافئة ، وكيف ما كان نوع الظلم ، و مهما كان نوع العقاب والعذاب ، الذي يمارس عليهم . فحجة المستضعف في مثل هذه الحالة واهية وغير مقبولة لقوله سبحانه وتعالى : [ إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا ( النساء آية 97 )
إن الظلم ظاهرة اجتماعية ، تتكرر عبر الزمان والمكان ، والمطلوب من المظلومين والمضطهدين والمقهورين في الأرض ، أن لا يستكينوا ولا يهنوا في طلب حقوقهم ، وخصوصا تلك المتعلقة بالدين والعقيدة والإرغام على فعل المعصية والإبعاد عن فعل الطاعات . وأن يجعلوا من يوسف عليه السلام ، الذي آثر السجن وويلاته وعذابه ومهانته وقهره على معصية ربه والخروج عن طاعته ، قدوة يحتذى بها في مواجهة الظلم والظالمين وأن يكون سلاحهم الأول ، الذي يعتمدون عليه هو اللجوء إلى الله والاعتماد عليه والإكثار من الطاعات والابتعاد عن المعاصي ، ثم الإسرار على المواجهة والوقوف في وجه الظلم مهما كان طغيانه ، كما فعل يوسف عليه السلام ، ثم الاعتقاد والإيمان المطلق بأن ما يصيبنا لم يكن ليخطئنا ، ولن يصيبنا إلا ما كتبه الله لنا وهذا نوع من الابتلاء يمحص الله به ما في القلوب والصدور ويختبر به . [ أم حسبتم ان تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين ] ( آل عمران آية 142 ) ولنا نموذج آخر حي في سحرة فرعون الذي ساومهم على إيمانهم بموسى عليه السلام لما تبين لهم الحق ووعدهم بتقريبهم إليه وأغراهم بالأجر العظيم ، فكان الجواب الإسرار على ما آمنوا به ، والتحدي الذي ورد في الحوار الذي جرى بين فرعون والسحرة ، والذي سجله القرآن الكريم بتفصيل لأهميته في الآيات التالية : [ فألقي السحرة سجدا قالوا آمنا برب هارون وموسى قال آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم في جذوع النخل ولتعلمن لأينا لأشد عذابا وأبقى قالوا لن نوثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر والله خير وأبقى إنه من ياتي ربه مجرما فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيى ومن ياتيه مومنا قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلى تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء من تزكى ] ( سورة طه من آية 70 إلى 76 ) .
لستر زليخة فضيحتها
وسوم: العدد 798