مدرسة القيم العليا

رسالة المنبر - ٢٨/ ١١/ ٢٠١٨م

المحاور:

- لكل مجتمع قيمه وأخلاقه التي يسعى لأن تكون لها السيادة في نفوس أبنائه.

- ‏ليس للقيم النبيلة في المجتمعات قانون إلزامي يكافئ الملتزم بها ويعاقب تاركها، بقدر ما لها من ثمار يانعة يلمسها كل من يعيش في ظلالها وتصبح علامة فارقة لكل من يتعاطى معها.

- ‏لا تزال البشرية تعيش ضنك ابتعادها عن القيم الأصيلة لدرجة أنك صرت ترى بشراً كالحيوانات بلا أخلاق ولا قيم .. بل إن في الغابة من الحيوانات من يحمل قيم الوفاء والصبر والرحمة وغيرها من القيم النبيلة التي غابت عن واقع وسلوك كثير من البشر.

تنقسم القيم من حيث مصدرها والمؤسِّس الباعث لها إلى قسمين اثنين:

١. قيم أصيلة عميق راسخة: وهي التي تنبعث من قلب مؤمن بالله، وعقل مدرك لأهميتها وخطورة تركها (على صاحبها والمجتمع) في الدنيا والآخرة.

٢. قيم مزيفة سطحية مضطربة: وهي التي تنبعث من نفس متشوفة لتحقيق مصلحة أكيدة؛ وإلا فلا داعي لاحتمال كلفة التخلق بقيم نبيلة بلا مصلحة مرجوة!!. 

- يختلف المجتمع المسلم (إسلاما حقيقياً فاعلاً) عن المجتمعات الأخرى (غربية كانت أو عربية) بأن الأول قيمه أصيلة لأنها تعتبر الدنيا مزرعة الآخرة، فلا يتطلع أصحاب القيم الأصيلة إلى أجرة الدنيا لأن عيونهم ترنو إلى أجر الآخرة، قال تعالى: (إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءً ولا شكورا)، في حين لا يوجد أي اعتبار للآخرة في أذهان أصحاب القيم المزيفة، وهم بالتالي يتطلعون لأجرة الدنيا عند كل خطوة إيجابية إنسانية يُقدمون عليها.

- ‏إذا كان أجر الآخرة وما فيها من نعيم هو الحافز الأكبر لأصحاب القيم الأصيلة، فإن الله تعالى لا ينساهم من التكريم حتى في الدنيا، فيبارك لهم في نعمتهم، ويجعل لهم القبول في مجتمعاتهم، ويجلب لهم التيسير في أعمالهم، والصواب في اختياراتهم، قال تعالى: (فأما من أعطى واتقى وصدّق بالحسنى فسنيسره لليسرى).

- ‏قد يجادل البعض في كثير من القصص والمواقف لأناس ليسوا مسلمين لكنك ترى منهم سلوكات توحي بأصالة القيم والأخلاق عندهم، ويضربون لك نموذجاً بقيمتي الصدق والأمانة اللاتي كانتا أصيلتين عند النبي صلى الله عليه وسلم قبل بعثته، أو ببعض نماذج المروءة والشهامة والتعفف والصدق لدى بعض الكفار بالأمس وغير المسلمين في الغرب اليوم .. وهنا لابد من استثناء نموذج رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم لأنه كان في مرحلة تهيئة ربانية مباشرة في سياق التوحيد المطلق، أما ما سواه من النماذج فطالما أنها لا ترجو الآخرة باعتبار أنها لا تؤمن بها فإن لها عند كل سلوك حسنٍ مآرب مادية أو معنوية تنال عليها الجزاء الحسن في الدنيا، قال تعالى: (مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ) (هود: 15).

- ‏لو كانت القيم الرائجة في المجتمعات المادية قيم أصيلة لوجدتها عابرة للجغرافيا والتاريخ، لكنك تجدها مرتبطة بأزمنة وأمكنة محددة وجد أصحابها مصلحة في بقائها فيها، ولك أن تتابع كيف ينظر هؤلاء إلى قومنا وبلادنا نظرة استعباد وإهانة وازدراء، ولا يقيمون لدمائنا وزناً، بل إنهم جعلوا من بلادنا حقول تجارب لأسلحتهم وأوساخهم، في حين تجدهم يتشدقون بحقوق الحيوان في بلادهم!! 

لما غابت القيم العليا من مجتمعاتنا لم يعد للعقيدة التي نحملها ولا للعبادات التي نؤديها روح ولا ثمرة ولا بركة ولا أثر، وهذا يعني أننا صرنا نمارس عادات روتينية أكثر من كوننا نمارس عبادات خالصة تتطلب ظهور آثارها وثمارها في الحياة، ولك أن تنظر في سلوك كثير من العابدين المؤمنين، ثم تسأل:

١. هل تركت الصلاة في حياتنا قيمة احترام المواعيد، والدقة والإتقان في إنجاز المهمات، ونظافة اليد واللسان وسائر الجوارح، وهدوء النفس، وعدم الاستفزاز، والتركيز وعدم الشتات، والترتيب وعدم الفوضى.

٢. وهل ترك الصيام في حياتنا قيمة الصبر والحلم والاحتمال، وكف اللسان عن اللغو وقول الزور والعمل به، وقوة الإرادة في فعل الخير، والشعور بآلام وجوع الآخرين.

٣. وهل تركت الزكاة في حياتنا قيمة التضحية والعطاء، والاحساس بالناس وسداد الثغرات، وشكر النعمة ورقّة النفس، والتخلي عن شحها وحرصها.

٤. هل ترك الحج في حياتنا قيمة التواضع وخفض الجناح للناس، وعدم التعلق بالدنيا، والسعي في أبواب الخير، وتركيز الهدف، وعدم تشتيت المعارك، والتضحية والصبر، وترك العجلة، واحترام النظام.

ربى الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم على القيم العليا التي هيأته لينال مرتبة النبوة وهذه القيم العليا التي انبثقت عنها سائر القيم هي:

١. قيمة تعظيم الله تعالى: ولا تتحقق هذه القيمة إلا بتمكين محبة الله تعالى والخوف منه في نفوسنا.

٢. قيمة الشعور بالمسؤولية: ولا تتحقق هذه القيمة إلا باستشعار الإنسان مسؤوليته تجاه نفسه ومجتمعه وأمته والبشرية كلها.

- كان من أعظم نتاجات هاتين القيمتين تحقيق معالم الصلاح، وتمكين الدافعية للإصلاح لدى رسولنا الكريم، باعتبار أن تعظيم الله أساس واجب الصلاح، والشعور بالمسؤولية أساس واجب الإصلاح.

- ‏لا يمكننا أن نتخيل قيمة من القيم لا تنبعث من هاتين القيمتين، فالصدق والأمانة والإخلاص وإتقان العمل والخشوع والكف عن المحرمات وغيرها كلها أساسها تعظيم الله، والتضحية والجهاد والبر والصلة وإصلاح ذات البين كلها أساسها الشعور بالمسؤولية.

- ‏ لو فكرنا بعمق أكثر فإننا نجد أن قيمة الشعور بالمسؤولية إنما تتبع لقيمة تعظيم الله تعالى، ذلك أن تعظيم الله قيمة تجعل المرء يحب ما أحب الله من نجدة الملهوف ودعوة العصاة وتعليم الجاهلين والبر والجهاد، وكلها فروع عن قيمة الشعور بالمسؤولية، كما أن تعظيم الله قيمة تجعل المرء يخاف مما حذرنا وخوفنا منه ربنا من التقصير في حقوق المستضعفين والعصاة والجاهلين والجائعين، وكلها فروع عن قيمة الشعور بالمسؤولية.

- ‏لقد كان رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم خير ترجمان لما جاء في كتاب الله تعالى من قيم، حتى شهدت له عائشة رضي الله عنها بذلك حين قالت: (وكان خلقه القرآن).

- ‏لن تحتاج الأمهات والمساجد ومراكز التوعية والمدارس بأنواعها إلى كثير من الجهد في ملاحقة فروع القيم إن تم تركيز القيم العليا في نفوس الأجيال، ولعل زيادة التعايش مع الأجيال من خلال أنشطة لامنهجية يستظلون بها في ظلال أسماء الجلال (القهار، المنتقم، الجبار ..)، وأسماء الجمال (الودود، اللطيف، الوهاب ..) يمكنها أن تزيد من محبتهم لله تعالى وخوفهم منه .. ومن هنا نبدأ رحلة تمكين قيمة تعظيم الله العظيم.

يعاني عالمنا اليوم من آفتين خطيرتين هما:

١. الجفاف الروحي: حيث قطع كثير من الناس صلتهم بربهم. 

٢. الجفاء الاجتماعي: حيث قطع كثير من الناس صلتهم ببعضهم.

فما أحوج البشرية إلى أن تحقق الاستدراك بتمكين القيم الراسخة قبل فوات الأوان .. وإلا فيصبح باطن الأرض خير من ظاهرها.

وختاماً:

لا قيمة لمجتمع يخلو من القيم، ولا اعتبار للقيم المزورة المزيفة، فهي تمثيل لا يطول مفعوله وسرعان ما تنكشف دواعيه وتنهار أعمدته .. 

وأعظم ما يقوم به الدعاة والمصلحون في كل زمان ومكان: إتمام وتمكين مكارم الأخلاق .. 

وتزداد مهمة المربين صعوبة كلما سادت المادية وعمت بلوى إفرازاتها الخبيثة .. 

ولكن لا ضير؛ فالأجر على قدر المشقة، بل هي كذلك على قدر المنفعة المتعدية للأجيال المتعاقبة، ولا شيء ينفع تلك الأجيال كحاضنة قيمية يستظلون بظلالها .. والله المستعان وعليه التكلان.

وسوم: العدد 801