في منزل الأسير إسلام جرار
لم أكن أتوقع أن زيارتي منزل الأسير إسلام صالح جرار في مدينة جنين سيكون لها كل هذا الأثر على نفسي ، فالزيارة التي استمرت لمدة ساعة جمعتني بإنسان عظيم حمل بين جنباته روحاً خلاقة ونفساً أبية وحسّاً مرهفاً وشاعراً شعوراً ... وقبل كل ذلك إنساناً صاحب فكر وهم وقضية.
في منزل الأسير إسلام جرار جلست ومن معي في حضرة رجل عملاق من رجالات هذا الوطن استقبلنا بحرارة فائقة وجلس ينظر إلينا بابتسامة لا تفارق محياه .... وفي البداية كنت أبادر الابتسامة بابتسامة والتحية بتحية ومع الوقت بتّ استشعر أني أجلس مع شخص غير عادي وأنه صاحب ثقافة عالية وفهم عميق يتحدث برزانة وثقة وقوة .
دقائق قليلة وعلمت أن والد الأسير إسلام جرار والذي مضى من عمره المديد حتى الآن ما يزيد عن الثمانية عقود شاعر وله دواوين شعر فطلبت منه أن يسمعني بعض ما نظم من شعر لولده الأسير .. فأسمعنا شعراً كان من أجمل ما سمعت في حياتي ومع الكلمات ومع ذكر إسلام في كل بيت كانت حشرجة في الصوت تصيب الشيخ الكبير حزناً على فراق ولده الحبيب ، كان يحاول أن يكبت انفعالاته التي فجرتها كلمات الشاعر صالح جرار ولكن عاطفة الأبوة والحس المرهف للداعية الشاعر كشفت المكتوم وأظهرت دموع العيون.
تحدث في الشعر الذي نظمه سيدي الشاعر عن ولده إسلام يوم أن كان طفلاً وعن انتقاله من مرحلة إلى أخرى وكيف كان يكبر في ناظريه ... وكيف مرت سنون العمر ... وكيف رباه على التقى والصلاح وعن حب فلسطين في قلب ابنه الأسير فكان نعم الفتى والابن.
تحدث الأب الشاعر عن شجاعة ابنه وعن إقدامه وبطولاته وحبه للشهادة وصبره في سجنه ... وعن رفاق دربه الذين وصفهم بأجمل الأوصاف منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر.
قال لي والد الأسير الشاعر أن الشعر طريقته في التعبير عن مدى حنينه لولده وهل أقوى من الكلمات حينما تصطف بشكل جميل وتشكل بيتاً من الشعر وكأنه عقد لؤلؤ .
مَـنْ ذا الـذي تبكيه بعد فراقِهِ؟ مـنْ ذا الـذي ودّعت بعد iiغيابه مـن ذا الذي قد غاب بعد iiرحيله مـن ذا الـذي يفديه كلُّ iiمجاهدٍ هوَ أنتَ يا وطني ، ومعقِلَ عزّتي كـم من شهيد قد قضى من iiأجلِهِ ومُـهَـجّـرٍ حُرِمَ الحياة iiبأرضه كـم مِـن أسـيرٍ راسفٍ iiبقيوده حـمـل الأمانة في الجهاد iiوإنّهُ مَـنْ ذا الذي ابيضّت له iiالعينان؟! طِـيبَ الحياةِ ، وعزّة iiالسلطان؟ صِـدْقُ الـوفاء، ومَنهلُ الظّمآن؟ بـالرّوح كي يبقى على iiالأزمان؟ هو أنت يا أقصى ، وقلبَ iiكياني كـم مـن جـريحٍ خرّ iiكالبنيان ومـشـرّدٍ قـد تـاه في iiالبلدان قـد خـانـه الأوغادُ في iiالميدان يـبـغـي حـياةً للثّرى الظمآن
توقف قليلاً الأب والشاعر والأديب أخذ أنفاسه .... مسح دموعه وأخذ نفساً عميقاً لعله يخفف من لهيب شوقه وحنينه وعاد وقال :
أتُـرى تـعودُ إليَّ إسلامَ iiالنُّهى أتـعـودُ يا إسلامُ تروي iiسمْعَنا أتـعودُ تمسحُ بالحنان iiجراحنا أتـعـودُ كـلُّ الذّكريات حقيقةً أنـا بـالسّنين الغابراتِ iiمولَّهٌ أنـا بـالـعهود الخالياتِ مُتيّمٌ حتى قضى الدّيّانُ أن نشقى iiبهم * * * مـن ذا سِواكَ إلهنا يَهَبُ iiالمُنى لاهُـمَّ قـد ماتَتْ شهامةُ ساسةٍ لـم يبقَ إلاّكَ الرّحيمُ فهبْ iiلنا ببشاشةِ الوجهِ الجميل الهاني ؟ بنَدَى الحديث وطُرفة الشُّبان ii؟ أتـعـودُ تُبْصِرُ بَدْرَكَ iiالعينان وتُـنـيرُ بالجُبّ الجميل iiكياني إذ أنتمُ في الحِضنِ نبضُ جَناني والـوُلدُ حولي، والحَنينُ iiعناني فـأصابهم سهمُ الزمان iiالجاني * * * مـنْ ذا يـخلّصنا من العُدوان مـن مسلمينَ ويَعْرُب iiالخُذلان نـصـراً يعزُّ به ذوو iiالإيمان
لا تستطيع نفس الشاعر أن تهدأ ولم أسمع في حياتي أصدق من هكذا مشاعر عاطفة الأبوة هي التي أجرت مثل هذه الكلمات على لسان الشاعر والأب يلملم أنفاسه وينطلق بحماس ليقول:
أنـا ما ولدتُكَ ، يا بُنيَّ ، لكي تُعذَّب في iiالسّجونْ!!. أنـا مـا ولدتُكَ ، يا بُنيَّ ، لكي تزيدَ ليَ الشّجون ii!! * * ii* أنـا ما غرستُ الوردَ في الأحشاءِ كي أجنيه iiشوكا!! أنـا مـا حَيَيْتُ العيشَ في البستانِ كي أحياهُ ضنكا!! * * ii* كيف الطّـيورُ تطـيرُ، يا ولدي ، ولم تُؤتَ الجناحا؟ أنـت الـجـنـاح،بُـنيَّ، للشيخِ الذي لقيَ الجراحا! مَـنْ لـي لـمُرِّ العيش . يا إسلامُ؟هل ألقاكََ iiشهْدا؟ مَـن لـي إذا هـوجُ الرّياح تَهُبُّ ؟ هل ألقاكَ سَدّا ؟ * * ii* إنّـي انـتـظرتُ شبابك الرّيّانَ ، يا إسلامُ ، iiدَهْرا كـيـمـا أرى فـي روضك الأطيار تغريداً iiوذكرا * * ii* لـكـنّ ذا الـحـلـم الجميل ، مع الشروق ، تبخّرا يـا أيـهـا الـحـلـمُ الجميلُ ، ألا تعودُ مُبشّرا ii؟! * * ii* أنـا فـي انتظارك ، فلْتعُدْ بدراً يُنير ليَ الطريقْ !! أنـا فـي انتظارِك، فلتكُن حبل النجاةِ لذي iiالغريق!! * * ii* وإذا أراد الله أمــراً لا مَــرَدَّ ولا iiهُــروبْ نـحـن الـعبادُ ، ورحمةُ الدّيّان ترجوها iiالقلوبْ!! * * ii* يـا ربّ فـرّجْ كـربَـنـا ! وارْحَم إلهي ، iiضعفنا أحـسـنْ خـلاصَ أحـبّـةٍ فـهـمُ منائرُ دَرْبنا ii!!
نظر إلينا والد الأسير إسلام جرار وأغلق دفتره وقال لنا : لا أريد أن أمضى هذه السهرة الجميلة وأنا أقرأ الشعر ... وأغلق دفتر أشعاره ، قاطعته بسرعة على العكس نريد أن نستمع .. ونحن فرحون جداً بهذه الزيارة واستحلفته بالله أن يكمل .. عدّل جلسته وأسند ظهره إلى كرسيه وأخذ نفساً عميقاً وقال لنا سأحدثكم عن أول زيارة زرتها لإسلام في سجن جلبوع وكان يوم أربعاء الأول من محرم 1426 هـ 2005 ميلادي قلت فيها :
وأطـلّ إطـلال الرّبيع بوجهه الحسن iiالجميلْ تـتـلألأ الأنـوارُ فـيه فلا غروب ولا iiأفولْ مـا هـذه الأنـوار تـشرق رغم عدوان وبيلْ هي شمس إسلام البطولة ، شمس إيمان iiأصيل هـي شمس مَنْ قهر الظلامَ بدرْبه النّكد الطويل هي طلعة رقصت لها الأشواق في الحلم الجميل وجـهٌ تـوضّـأ من عبير الذّكر فاتّضح iiالدّليل هـذي سـبـيل الحقّ للأحرار لا تسمع iiلقيل مـن رام عـلّـيـين فلْيسلُك كما سلك الرّسول * * ii* أبُـنـيّ ، لا تـحزن فهذا الكرب آخره iiظليل أبُنيّ ، لا ندري تقادير الإله ولا خيار ولا iiبديل فـلـتَـصْـبرَنّ على قضاء الله فالأجر iiجزيل أبُـنـيّ ، إن عـزّ الـلقاء ففي النّعيم لنا مقيل فـهـنـاك نسعدُ باللقاء الحلو في كنف iiالجليل لـكـنّـنـي أدعـو الإلـه لقاءَنا قبل iiالرّحيل
لا أجد أجمل من هذه القصيدة اختم بها مقالي هذا متمنياً أن يطيل الله في عمر أبيه حتى يخرج إسلام من سجنه مرفوع الرأس عالي الجبين.
وسوم: العدد 801