الإسلام في أفريقيا الحلقة (50) الفقيه الشهيد
أبو الفضل عباس بن عيسى بن عباس الممسي
في رجب الخير من عام (333هـ/941م) صعدت روح الفقيه الشهيد أبو الفضل عباس بن عيسى بن عباس الممسي إلى ربها تشتكي بني عبيد ظلمها وجورها وانحرافها وابتداعها، ترافقها أرواح خمسة وثمانين فاضل خيّر، سقطوا وهم ينافحون عن الإسلام ويذبّون عن السنة المطهرة في حرب بني عبيد لعنهم الله مع أبي يزيد الخارجي. التقوا بالوادي المالح فقتل في التحام القتال، ولم توجد له جثة.
كان الشهيد أبو الفضل فاضلاً، عالماً، صوّاماً، قواماً، وكان معه ورع كثير، وكان أبو إسحاق السبائي يحبه محبة عظيمة خارجة عن محبة من سواه.
وقال فيه الداروني:
لقد نال في الدنيا من أنت إمامه … مواهب علم جاوزت كل نائل
وإني وإن أطنبت فيك مقصـر … وما أنا وحدي بل كذا كل قائل
قال أبو العرب: وختم الله تعالى الكريم له بالشهادة بعد هذه الفضائل في جهاد بني عبيد لعنهم الله.
حدَّث أبو الحسن علي بن عبد الله القطان قال: سمعت أبا الفضل يقول وقد جاءه بنو أبي سلاس في أيام أبي يزيد فخرج إليهم من داره حافياً فسمعته يقول لهم في كلام جرى بينهم: قد برح الخفاء قتال هؤلاء القوم (يقصد العبيديين) أفضل من قتال المشركين.
قال أبو عبد الله الفقيه الاجدابي: قلت لأبي الحسن: أنت سمعت أبا الفضل يقول هذا؟ فقال: نعم، وأوصاني أبو الحسن - حينئذ - بطي هذا.
واستنهضه الناس في الخروج مع أبي يزيد، فقال لهم: أمهلوني الليلة. فلما أصبح أتوا إليه فقال لهم: اعزموا على عون الله تعالى فقد قرأت القرآن من أوله إلى آخره فما وجدت فيه ما يوجب القعود.
ورأى رحمه الله أن الخروج مع أبي يزيد الخارجي وقطع دولة بني عبيد فرض لازم لأن الخوارج من أهل القبلة لا يزول عنهم اسم الإسلام ويورثون ويرثون.. وبنو عبيد ليسوا كذلك لأنهم مجوس زال عنهم اسم الإسلام فلا يتوارث معهم ولا ينسب إليهم.
واختُلف كيف كان سبب موت أبي الفضل رحمه الله، فقيل: إنه سقط من على دابته في وقت الهزيمة فانكسر وركه ثم مات بعد ذلك من دوس الدواب في وقت الهزيمة.
وقيل: بل وقعت فيه جراح في وقت القتال، فأثخنته، فسقط إلى الأرض.
حدَّث الشيخ الفقيه أبو بكر بن عبد الرحمن عن بعض شيوخه قال:
حكى لي رجل من قرابة أبي الفضل، وكان ممن شهد المعركة، قال: لما انهزم الناس وقتل منهم من قتل، أقبلت وأنا أمشي بين القتلى فإذا بأبي الفضل الممسي رحمه الله صريعاً مقتولاً، قال: فلما رأيته غلبتني العبرة وأقبلت وأنا أبكي، وكان بنو عبيد لعنهم الله تطلبوا جثته ليتشفوا منه، فبينا أنا كذلك إذا بجندي راكب على فرس، فلما رآني ابكي قال: من هذا الذي تبكي عليه؟ فقلت: رجل من قرابتي، قال: فمضى عني وكفاني الله عز وجل شره. فلما غاب عني أخذت أبا الفضل رحمه الله فرميته في جرف وردمته عليه خوفاً أن يظهروا عليه فيتشفوا منه.
وذكر أنه لما سقط وقع إلى ناحية المهدية فمر رجل فقال له: تفضل وردَّ وجهي إلى ناحية هذه المدينة لئلا ألقى الله عز وجل وأنا مول ظهري إليهم.
وقال الحزامي البناء: اعترض الناس في أيام أبي يزيد في الخروج معه إلى المهدية فاعترضت مع أبي الفضل ثم بدا لي في الخروج وخفت فقعدت فبلغنا بعد ذلك أن أبا الفضل وربيع القطان استشهدوا، فقلت: ماذا عوفيت منه؟ كدت أقتل ويبقى أولادي يتامى. فرأيت في المنام كأن نجباً عليها عمارات وعليها حلل تأخذ بالأبصار، فأقبلت وأنا أنظر إليها وأتعجب منها فإذا بأبي الفضل رحمه الله وهو في عمارية منها على نجيب وعليها حلل تخطف بالأبصار وهي تطير في الهواء، فناداني وقال لي: يا فلان لو كنت معنا لنلت ما نلنا ولكنك تقول: ماذا؟ سلمت منه؟ كدت أقتل ويبقى أولادي يتامى.
قال محمد بن أبي الفضل الممسي: كان أبي رحمه الله لا يدخل مرحاضه أحد غيره، وكانت فيه آنيته وجميع ما يحتاج إليه، وكان مدوراً ومفتاحه معه، فيوم قتل في الوادي المالح رحمه الله سقط بآنيته التي يتوضأ فيها فكسرت.
وكان لها وجبة فقالت لي الوالدة: يا بني أعطانا الله تعالى خير هذا، كسرت آنية والدك، فكان ذلك في الساعة التي استشهد فيها.
ولأبي محمد بن أبي يزيد الفقيه مرثية مطولة يرثي بها أبا الفضل الممسي يقول في بعضها:
يا ناصراً للدين قمت مسارعاً … وبذلت نفسك مخلصاً ومريدا
وذببت عن دين الإله مجاهداً … واتبعت بيعاً رابحاً كمــودا
حتى تخيره الجليل لــداره … وأناله حوراً بها وجلـــودا
وسوم: العدد 803