فقه الميزان.. مفتاح المفاتيح لفهم العلوم الإسلامية والإنسانية (2)
هذه المقالة استكمالاً لقراءتي في كتاب فقه الميزان للشيخ الدكتور علي القرداغي، تتناول معايير فقه الميزان وأركانه، والفقه الموزون على الحق والوسطية. وتجليات فقه الميزان في سيرة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم وسير الخلفاء الراشدين رضوان الله عليهم، فلا يتحقق قيام العدل الشامل إلا بإقامة موازين العدل في الحقوق والواجبات، ومعرفة كل عمل وكل تكليف، يوزن بالميزان الصحيح الموافق له، وذلك على ضوء شريعة الإسلام وأصولها، وتجارب الأمة ومستقبلها.
*1- فقه الميزان.. أركانه وعناصره*
بحث الدكتور علي القرداغي في كتابه عن أركان فقه الميزان وعناصره، وبيَّن أن لكل حكم شرعي وزنه الخاص وقيمته من خلال وضعه في ميزان خاص به. فهناك:
- موازين للدنيا وموازين للآخرة.
- موازين لعالم المشاهدة وعالم الغيب
- موزاين للحرب والسلم وموازين للدعوة
- موازين للأحكام الشرعية يُعرف فيها وزن كل حكم شرعي.
- موازين للحقوق والواجبات يعرف فيها كل حق وكل واجب.
- موازين للتوازن بين العلوم المادية والشرعية، بحيث يعرف كل حكم هل هو فرض كفاية أو فرض عين أو سنة أو مباحاً.
- موازين للمصالح والمفاسد ثم داخل كل ميزان موازين مختلفة من حيث القوة والضعف والفرد والجماعة والدولة.
- موازين الثوابت والمتغيرات، حيث يتبين فيهت وزن الثابت والمتغير ثم وزن كل ثابت من بين الثوابت والمتغير من بين كل المتغيرات وغير ذلك.
- فكما توجد للموازين المادية لتحليل المواد لمعرفة إذا كان الميزان سليماً كذلك لا بد أن يوجد للأمور المعنوية قواعد خاصة بها تختلف عن السابقة.
تحدث الدكتور القرداغي في كتابه عن معايير الأوزان وبين أن القرآن الكريم فيه مجموعة من المعايير لمعرفة ما هو أكثر وزناً أو أقلها قوة في نطاق القيم والأحكام الشرعية والأنشطة والتكاليف، فهي ليست كلها بمرتبة واحدة، ولذلك فإن النصوص تدلنا بأن هناك أكبر الكبائر وهو الشرك، وهناك أقل منه ويغفر له، قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا) النساء:48.
وبعد ذلك تأتي الكبائر السبع أو التسع التي أسماها الشرع بالموبقات، ثم بقية الكبائر ثم الصغائر مع الإصرار عليها، ثم الصغائر دون الإصرار عليها ثم أسماها الله تعالى اللمم، قال تعالى: (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَة) النجم: 32. وقال سبحانه وتعالى: (إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَات) هود:114.
وهكذا نجد سلم الأوامر تقع في أولها فريضة الإيمان بأركانها الستة، بل إن هناك ترتيباً داخل هذه الأركان نفسها، فالإيمان بالله وتوحيده يقع في القمة وهكذا، ثم فريضة الإسلام بأركانها الخمسة والتي هي مُرتبة من النطق بالشهادة ويأخذ المرتبة الأولى فيها ثم الصلاة والصيام والحج وهكذا.
*2- فقه الميزان ومراتب الأعمال*
تحدث الشيخ القرداغي في كتابه عن مراتب الأعمال حسب معرفة الأوزان، وبيَّن أن الأوزان والرتب المعنوية غير متناهية، وتحدث عن الموازنة داخل النصوص، وقال: "إن الموازنة داخل النصوص يحتاج لإدراك عميق في علم أصول الفقه ومقاصد الشريعة واللغة العربية والسياق واللحاق ورعاية قواعد الترجيح والتوفيق".
كما أفرد في كتابه بحثاً مهماً في التوازن بين الكون والإنسان والشريعة، وبيَّن أن الإسلام كله قائم على الفهم الثنائي، وليس المنهج الأحادي للأشياء، وأن فقه الميزان يهدف للوصول إلى دين موزون وفكر موزون وحضارة موزونة وضرب أمثلة في ذلك في باب العقيدة والشريعة والدنيا والآخرة والعبادات والشعائر التعبدية والمعاملات المالية، وفي الحضارة.
*3- فقه الميزان والوسطية*
يرى الدكتور القرداغي أن تطبيق فقه الميزان بدقة يترتب على تطبيقه بصورة كاملة الفقه الموزون القائم على الحق والوسطية والاعتدال. فالكون موزون بدقة متناهية، قال تعالى: (وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ) الحجر: 19. والإنسان موزون في خلقه ومكوناته المادية قال تعالى: (لَقَدْ خَلَقْنَا ٱلْإِنسَٰنَ فِىٓ أَحْسَنِ تَقْوِيمٍۢ) التين: 4. كما الشريعة موزونة في حد ذاتها؛ لأنها متنزلة من الخالق المبدع العظيم وذلك في قوله تعالى: (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ ٱللَّطِيفُ ٱلْخَبِيرُ) الملك: 14. ولكن الإشكالية في فهمها وتنزيلها الدقيق لذلك لا بد أن يكون فهماً موزوناً وفقهاً متوازناً لتكون تصرفاتنا الشرعية موزونة.
كما تناول الشيخ في الفصل الثالث أدلة مشروعية فقه الميزان، وبيَّن أنه ثابت في الاستقراء الكلي في هذه الشريعة واستدل في الآيات القرآنية المؤيدة فيما ذهب إليه كقوله تعالى: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ۖ) الحديد: 25. وبيَّن أن الميزان المنزل هنا ليس الميزان المادي الذي توزن به المادة؛ لأن المادي موجود في الأرض ومعروف بالفطرة، ولكن الذي تحتاج إليه البشرية هو الهداية الربانية في كتاب الله ومنهج رسله صلوات الله عليهم.
من خلال الميزان والموازين التي توزن بها الحقوق والواجبات والأحكام والعقائد والشرائح أو أنه ليس محصوراً فيها على الأقل، بل يشمل المادي والمعنوي، وبيَّن أن القرآن الكريم قد وضح أن كل شيء يقوم على ميزان خاص، فالأرض والسموات لكل واحدة منهما ميزانها الخاص الذي تقوم عليه، قال تعالى: (وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ). وقال تعالى: (والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل شيء موزون). وحتى يوم القيامة له موازينه الخاصة تختلف عن موازين الدنيا، قال تعالى: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا ۖ).
*4- فقه الموازين في سيرة النبي الكريم (صل الله عليه وسلم)*
ذكر الدكتور القرداغي آيات كثيرة تصل إلى نحو ثلاثة وعشرون آية تدل بوضوح أن لكل شيء ميزانه حتى تستقيم الحياة، وقال: "من المعلوم بأن الناس لا يقوم بينهم العدل بالموازين المادية، في حين أن قيام العدل الشامل لا يتحقق إلا بإقامة موازين العدل في الحقوق والواجبات، ومعرفة كل عمل وكل تكليف ويوزن بالميزان الصحيح المناسب له.
وبيَّن أن الصحابة الكرام كانوا شغوفين لمعرفة الموازين والأوزان؛ لأن القرآن الكريم كان يعلمهم هذا الترتيب والأقوى والأفضل، ولأن الصحابة كانوا يسألون عن أفضلها وأكملها وعن الاتقان وعن شرارها وأسوئها وعن عمل واحد يدخلهم الجنة ويسمعون من الرسول الكريم إجابات شافية حول الموضوع، بالإضافة إلى التربية العملية التي كان الرسول الكريم قدوى لهم فيها ويربيهم على فقه الأوزان والموازنات والتوازن.
توسع الدكتور القرداغي في كتابه في الحديث عن حياة الرسول الكريم، وأكد أنها حياة كانت قائمة على موازين دقيقة في تعاملاته وأنشطته وتعامله مع الناس، وكان يستمد صلى الله عليه وسلم الموازين من كتاب الله عز وجل، فقد كان الرسول الكريم قرآناً يمشي بين الناس.
وضرب مجموعة من الأمثلة، فيما يتعلق بالقراءة الشاملة في أول سورة وأول آية منها عند نزول الأمر على الرسول الكريم، لتكون دليل على قوة وزنها وثقلها في نفس النبي، وتكوين الأمة لأنها بدونها لا تتصور، وقدم الأمر بالعلم والتوحيد، قال تعالى: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ). يوأي والعلم قبل العمل فهو شرط لصحة الإيمان وغيره، ويُفهم أن ميزان القراءة الشمول المطلق للكتاب والكون والإنسان، وليس خاصاً بالقرآن أو الدين فقط، كما يفهم أن ميزانه المستقيم أنها القراءة المستظلة بظلال العقيدة والأخلاق (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ).
وكذلك القراءة الحرة في ظلال كرامة الإنسان وحقوقه (اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ)؛ أي الإكرام للإنسان. وبيَّن أن الأوامر الإلهية اهتمت بتساوي سلوك النبي الكريم وتزكيته وتربيته قبل الأمر بالدعوة، فأمره بقيام الليل والترتيل للقرآن: (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ. قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا). كما أمره بالذكر الكثير والتفرغ لعبادته بإخلاص: (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا). ثم أمره بالدعوة: (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّر*قُمْ فَأَنْذِرْ). وهذا دليل على قوة وزم الإعداد والتربية والتزكية قبل البدء بالدعوة ونشر الرسالة.
فهذه ثلاث سور يبدأ بها الله تعالى خطابه للرسول الكريم (ص):
أولاها: للإسلام نظام تعليمي وقراءة شاملة في سورة العلق.
ثانيها: لتربية الرسول الكريم وتزكيته وإعداده لحمل هذه الأمانة الثقيلة في سورة (المزمل).
ثالثها: البدء بالدعوة ومستلزماتها في سورة المدثر. وهذا الترتيب في قمة التوازن وتوجيه الأمة نحو الدعوة.
وهنا ساق الدكتور القرداغي الأمثلة من سيرة النبي الكريم (ص) في كيفية تطبيق فقه الميزان فيما يتعلق مع الأسرى فيب بدر والمشورة فيها والتزامه العقود والبيعة مع الأنصار، وفقه الميزان فيما يتعلق بالحروب والميدة.
وبيَّن الشيخ علي فقه الميزان عند النبي الكريم في أحاديث المشورة التي تحملها الأكثرية، وعرَّج على غزوة الخندق، وبيَّن أن ميزان التجديد يقوم على التخطيط والاستفادة من تجارب الآخرين والمشورة دائمة، وضرب الأمثال من السيرة النبوية، وتوسع توسعاً مجموداً في تأصيل مفهوم فقه الميزان من خلال السيرة؛ أِار إلى تصرفات الرسول الكريم في الاستعداد لفتح مكة وبين فقه الميزان الخاص بالحرب من حيث السرية والكتمان وإلتزام الصحابة بذلك. وظهر أيضاً ميزان الوقار لمن له سبق في الإسلام وقوة أو من شارك في بدر الكبرى، حيث عفى النبي الكريم عن حاطب بن بلتعةالذي خالف رأي النبي في الحادثة الشهيرة. وكما ضرب الدكتور القرداغي الأمثال الكثيرة في فقه الميزان من خلال فتح مكة وتصرفات رسول الله وسياسته الشرعية الريمة وولايته المصالح ودفع المفاسد.
وظهر بخلاصة أن الموازين ليست واحدة، وقد طبقها الرسول الكريم، وأعطانا دلالات واضحة في ضرورة التنظير والتأصيل في ضوئها، حيث يفهم أن ميزان الحرب غير ميزان الدعوة والتعامل مع الآخرين، وأن ميزان السياسة الشرعية يختلف من بيئة الموازين، فميزان الحرب هو ميزان الشدة والغلظة والعزة على المحاربين والمناورة والأخذ بجميع الوسائل يقوم على التسامح والتنازل طالما أن التنازل لا يقوم على التنازل عن الثوابت، ووضح ذلك من خلال صلح الحديبية بأمثلة متعددة.
وبيَّن أن ميزان السياسة الشرعية يقوم على النية الصالحة، وتحقيق المصالح ودرء المفاسد وعلى المتغيرات من حيث الزمان والمكان والأشخاص والتجديد والتطوير والإبداع والقدرة والاستطاعة.
*5- فقه الميزان والخلفاء الراشدين*
تناول الشيخ القرداغي في مشروع كتابه الجديد موضوع فقه الميزان لدى الخلفاء الراشدين كتحكيم ميزان العقل والمصلحة العامة عندما انتقل النبي الكريم إلى الرفيق الأعلى، وكيف تم اختيار أبي بكر الصديق كخليفة لرسول الله، وبين تقديم ميزان الحق العام على ميزان الفريضة الفرعية، كما طبق الخليفة أبي بكر الصديق فقه الميزان في الزكاة، وكيف أعطى الزكاة قيمة كبيرة في الدولة، ولم ينظر لها كفريضة مجردة، وكيف بيَّن أن أداء الزكاة في ميزان حقوق الدولة والأمة والأخوة الإيمانية يدخل بالفهم الدقيق لفقه الميزان والتصدي للمانعين لدفع الزكاة عن عناد ومكابرة وتحدي سلطة الدولة، فلم يسمح لهم بذلك واستطاع أن يضبط الأمور في تقديم فقه الحق العام على فريضة فرعية.
وكيف أقدم الصديق على مشورة عمر بن الخطاب في جمع القرآن بناءً على أن تركه يُؤدي إلى مخاطر كبيرة تفوق قضية عدم فعل الرسول الكريم، وكيف استنبط الصديق وعمر في أن ميزان المقاصد أقوى من ميزان الظواهر، وضرب أمثلة من تطبيقات فقه الميزان في عهد سيدنا عمر بن الخطاب مع الولاة ومحاسبتهم، وفي عهد عثمان بن عفان أجمع الناس على مصحف واحد وعلى قراءة واحدة. وما فعله عثمان رضي الله عنه في حرق الصحائف الأخرى لدرء الفتنة، حيث رأى أن الالتزام بالنسخة المعتمدة المجموعةِ في عهد سيدنا أبي بكر الصديق هي الأوجب والأحوط وهي من فقه الميزان الدقيق بلا شك.
واستدل بفقه الميزان عند أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، ومحاربته للخوارج الذين خرجوا عليه، حيث رأى أن الحفاظ على وحدة الأمة أهم ما يترتب على القتال من دماء ولذلك استعمل جميع أشكال الحوار معهم ليعودوا إلى رشدهم حتى عرض عليهم أن يبقوا على رأيهم شرط ألا يحملوا السلاح ضد الدولة، ولكن الباقون أصروا على رأيهم لقتاله. ومع ذلك فإن أمير المؤمنين علي وضع لقتالهم معايير وموازين خاصة تختلف عن قتال غير المسلمين، حيث لا تكون أموالهم غنيمة ولا نساؤهم سبايا ولا يُجهز على جرحاهم بل يداوون ويعالجون.
*6- فقه الميزان.. مسيرة وخلاصات:*
أبرز الدكتور القرداغي في كتابه الخطوات العملية في فقه الميزان وهي:
- الخطوة الأولى: إظهار الموازين المبثوثة في القرآن والسنة والسيرة النبوية
1- موازين عالم العقيدة بجميع أنواعها
أ. ميزان عالم الغيب وعالم الشهادة
ب. ميزان الآخرة والدنيا.
2- موازين العبادة المحضةِ والشعائر وموازين العادات والعبادات غير المحضة.
أ. ميزان البدع المحرمة وميزان الإبداع المطلوب شرعاً
ب. ميزان الرخصة وميزان العبادات
3- موازين المعاملات المالية.
4- موازين الأسرة وما يتعلق بها من النكاح والنفقة والميراث.
5- موازين الجهاد والحرب والصلح.
6- موازين العقوبات والحدود.
7- موازين السياسة الشرعية وما يتعلق بها.
8- موازين الشرع والطبع والعاطفة وهكذا.
- الخطوة الثانية: تحديد الميزان لذلك الغرض أو النشاط أو الحكم؛ فمثلاً: جميع الآيات والأحاديث التي تدل على الشدة والغلظة والقتل ونحو ذلك يطبق عليها ميزان الحرب والعدوان والدفاع. وكذلك الآيات والأحاديث الخاصة باللين والكلام الطيب مع غير المسلمين ونحو ذلك. فيطبق عليه ميزان السلم والدعوة وهكذا.
- الخطوة الثالثة: خطوة التوازن؛ حيث تأتي بعد إتمام الخطوة الثانية، والتي تأتي بعد التوازن من حيث الإتمام والقوة والضعف. وتحدث عن فقه الأولويات وفقه الرتب والأوزان، وبيّن أن الموازين كثيرة ومتنوعة ولكن مرجعها كلها راجعة إلى ميزان الشفع الدال على وجود كفتين وعلى الزوجية التي خلق الله الكون كله بإنسه وحيوانه ونباته ومادته وذرته منها وجعلها زوجاً، قال تعالى: (سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ).
فالكون كله زوج وشفع، أما الواحد الأحد فهو الله سبحانه وتعالى، والشريعة هي لبيان هذه الأقسام من خلال أوزان دقيقة لتحقيق العدل والقسط، أما الشريعة هي لبيان هذه الأقسام من ذكرٍ وأنثى وسالب وموجب وحقوق وواجبات وخير وشر وسعادة وشقاء وجنة ونار ونعيم وعذاب ومادة ومعنى طاهر وباطن وهكذا من خلال موازين دقيقة لتحقيق العدل والقسط بين الناس أجمعين. وعدم ضياع مثال حبة من خردل من خير أو شر.. قال تعالى: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ).
وفي الباب الثاني من الكتاب، تحدث الدكتور علي عن تنزيل فقه الميزان على الواقع (الجانب التطبيقي)، في الفصل الأول تكلم عن موازين التطورات والعقائد والعبادات، والفصل الثاني عن موازين التعامل والاقتصاد والمعاملات، وفي الثالث عن موازين فهم الأدلة، ويشمل ذلك موازين في فهم القرآن الكريم، وموازين في فهم السنة وهي في غاية الأهمية وفقه الميزان عند ترتيب الأدلة.
*خاتمة*
يعتبر كتاب فقه الميزان لفضيلة العلامة الدكتور علي القرداغي مرجعاً فريداً، كما يعد إضافة نوعية في قاموس الأمة في التعريف بمعاني القرآن الكريم والسنة النبوية على ضوء المقاصد والأصول والواقع. وكما يعتبر الكتاب قيمة عملية منهجية يمكن الاستناد عليها والبناء على نتائجها والتوسع في رصد مكنوناتها المادية والمعنوية، وهنا تتجلى أهمية الكتاب، وتأتي مهمة الطلاب والعلماء من أبناء الأمة في شرقها وغربها.
فتح بكتاب فقه الميزان نظرات جديدة لفهم النص القرآني والسيرة النبوية المباركة والممارسات الشرعية والاجتهادية للخلفاء الراشدين ومن تبعهم؛ مستنيراً صاحبه برسوخ الفقه ومنطق العلم واستدلالاته المحكمة والموثوقة والأدلة الثابتة. ولقد استفدت من قراءتي للكتاب فائدة كبيرة، وانتقلت من فصل إلى آخر بسهولة وشغف ولفتات ووقفات، لذلك أنصح بقراءته وطلاب وعلماء الأمة للاستفادة منه. ونسأل الله تعالى أن يكون في هذا العمل في ميزان صاحبه... والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
المراجع:
علي محيي الدين القرداغي، فقه الميزان، إستانبول، دار النداء، ط1 2018، 335 ص.
فقه الميزان... مسيرة وخلاصات:
وسوم: العدد 805