غنى ماضي منظومتنا التربوية شاهد على إفلاس حاضرها
إن حديث جيل العقود الأولى التي تلت استقلال وطننا عن غنى منظومتنا التربوية ليس مجرد حنين كما تظن الأجيال التي تلته ، ولا هو مزايدة عليها بل هو حقيقة تشهد عليها مستوياته التعلّمية ، والنتائج التي كان يحققها ، وما تلا ذلك مما قدمه لهذا الوطن من خدمة استفادت منها الأجيال التالية . ولا يستطيع أن يجادل في الفرق الشاسع بين المستوى التعلّمي لذلك الجيل ومستويات الأجيال التي أعقبته أو ينكره سوى جاحد أو مكابر .
ومعلوم أنه لا يخلو جيل من الأجيال من عناصر متميزة في دراستها وأخرى متعثرة إلا أن الغالب على جيل العقود الأولى التي تلت الاستقلال هو التميّز الواضح لأغلبية المتعلمين في الدراسة، الشيء الذي يدل ويؤكد على غنى المنظومة التربوية يومئذ .
ومازالت منظومتنا التربوية منذ تلك الفترة تفقد غناها حتى انتهت إلى ما صار يعتبر إفلاسا ليس بعده سوى ما يشبه السكتة القلبية . وأسباب ترديها كثيرة يعدد منها الملاحظون الشيء الكثير ، إلا أنهم حين يكثر الحديث عنها تختزل في عبارة " فشل السياسة التربوية " عندنا .
ومعلوم أن سياسة الأمور هي تدبيرها . ولا توصف السياسة في شأن من الشؤون بالإفلاس إلا وكان المقصود بذلك الذين يدبرونها . وإذا كان جيل العقود التي تلت الاستقلال كما ذكرناه ، فإن الذين كانوا يدبرون الشأن التربوي ،كانوا يحسنون تدبيره ، وكانت السياسة التربوية موفقة ، والشاهد على ذلك النتائج التي كانت تتحقق على أرض الواقع .
وعلى رأس من يتحملون مسؤولية سير منظومتنا التربوية نحو الإفلاس سنة بعد أخرى هم وزراء تناوبوا على وزارة التربية الوطنية ، وصاحبهم الفشل الذريع في تدبير شؤونها . ومما يؤخذ على هؤلاء الوزراء هو محاولة كل من يتولى منهم تسيير الوزارة إسقاط توجهه الحزبي عليها بل وحتى فرض تصوره الشخصي عليها . وكان كل واحد منهم يحاول إحاطة نفسه ببطانة تدعم توجهه . وكانت هذه البطانة دائما متملقة إلى حد النفاق بحيث تصفق كذبا وزورا للوزير الجديد ، وتشمت وتنعته بكل وصف مشين ، وتقدح في كفاءته وتدبيره حين يغادر ليتكرر ذلك مع مجيء غيره ومغادرته .وإذا ما استمر ذكر أحد الوزراء بخير كان ذلك على قدر الامتيازات التي كانت تستفيد منها البطانة المتملقة والمنافقة .
ومع مغادرة الوزراء المتعاقبين على الوزارة الوصية على التربية والتعليم في الغالب بسمعة سيئة يطبعها الفشل، لم أبدا يحصل أن حوسب أو حوكم أحدهم أو عوقب أو سجن بل منهم من كان ينتقل من وزارة أفلست بسببه إلى الوزارة الوصية على التربية لأنها سيئة الحظ، فينقل إليها تجربته الفاشلة في غيرها ثم يغادر في حفل وداع يشيد خلاله من يعقبه عليها ببلائه الحسن نفاقا ومجاملة كاذبة دون أن يجرؤ على قول الحقيقة ،لأنه سيسير هو الآخر على نهجه ، ويحذو حذوه في الفشل وإفشال المنظومة التربوية . ومع المجاملة الكاذبة بين الوزراء المتعاقبين لحظة الإعفاء والتنصيب ، يحاول اللاحق منهم رسم هالة كاذبة حوله على حساب السابق ، وهو يستعمل عبارة " لم تعد الأمور كما كانت " وقد يفيض في سرد نسب مئوية لإثبات تميز أدائه عن سابقه ، وواقع المنظومة التربوية أنها تسير نحو الإفلاس بشكل مطرد ،وهو إفلاس تعكسه النتائج التي صار التركيز فيها على الكم الذي ينحصر في الإشادة بعدد المتمدرسين مع إغفال وتغييب كاملين للكيف ، وهو كيف صار مستوى تعلّمهم ؟
وبطبيعة الحال كان فشل الوزراء المتعاقبين على وزارة التربية الوطنية ينعكس على فشل أداء المسؤولين في المركز ، وقد تكوّن منهم لوبي ثابت لا تتغير منهم سوى العناصر التي يصحبها معه الوزير المنصّب على رأس الوزارة ، بينما لا تستمر عناصر أخرى في التدبير بالرغم من دورها الواضح في فشل المنظومة التربوية ،وهي عناصر كانت تستقوي على كل وزير جديد ينصّب بحكم وجودها الدائم والمتواصل في المركز وكانت توهمه بخبرتها الكبيرة في تدبير المنظومة التربوية ،فيقع ضحية إيهامها له ، ويعول عليها تعويل الظمآن على سراب بقيعة يحسب ماء . ومن جملة ما كان يلاحظ في اللقاءات بين الوزراء المتعاقبين على الوزارة وبين هذا اللوبي أنهم كانوا غالبا ما يسألون بعض عناصره التي يظنون بها الخبرة والتجربة والاختصاص عن بعض أمور الوزارة أو المنظومة التربوية ، وعن بعض المسميات حتى تلك التي كان يعرفها المواطن العادي، الشيء الذي كان يعني جهلهم بأمور أسندت إليهم ، وكان ذلك مثيرا للسخرية على غرار خلط أحد الوزراء على سبيل المثال لا الحصر بين عبارة تعليم تأهيلي ، وعبارة تكوين مهني في لقاء نقلته وسائل الإعلام ، وما لم تنقل كان أعظم .
ومعلوم أن اللوبي في المركز دأب على الاستبداد بالتسيير والتدبير ، وصار هو الآمر الناهي ، وصاحب القرار في تنصيب من يلونه من مسؤولين في الجهات والأقاليم . وكانت المسؤوليات في الجهات والأقاليم تعطى لأتباع أحزاب الوزراء تملقا لهم ، وكانت هذه التبعية الحزبية شرطا من شروط ولوج تلك المناصب ، وكان اللوبي المركزي في تنصيب من دونه من المسؤولين يعزف على أوتار حزبية الوزراء لضمان استمراره في السيطرة على المركز .
وبلغ استبداد هذا اللوبي أمام فشل الوزراء حد الانتقام من كل فئات رجال ونساء التربية مراقبين تربويين، ورؤساء مؤسسات، وإداريين، ومربين ، وفعلوا فيهم ما يفعله الحجامة في رؤوس اليتامى كما يقول المثل الشعبي ، فعلى سبيل المثال خطط هذا اللوبي لتصل فئة المفتشين إلى مرحلة الانقراض ، وروجوا لفرية عدم جدوى هذه الفئة ،لمجرد أنها كانت تعارض استبدادهم ، وتكشف سوء تدبيرهم ، وتقرع أجراس الخطر المحدق بالمنظومة التربوية الآيلة إلى الإفلاس. وحاول هذا اللوبي النيل بشكل مكشوف من جهاز المراقبة عن طريق إقصائه من التدبير الفعلي للمنظومة التربوية ، وعن طريق الإجهاز على حقوقه وعلى رأسها استقلاليته على غرار استقلال القضاء في الدول الديمقراطية، ليظل جهازا تابعا له يطبق ما يمليه ، ولا يناقشه في إفلاس المنظومة . وعلى غرار زوال العلم بزوال العلماء كما جاء في حديث لرسول الله صلى الله عليه وسلم حرص اللوبي على زوال التفتيش بزوال المفتشين حيث نهج أسلوب عدم تعويض من يتقاعد أو يموت منهم حتى صارت النقص فادحا في بعض التخصصات ببعض الجهات ، وذلك لإسكات صوت المراقبة التربوية التي تراقب سير المنظومة التربوية والتي هي بمثابة صمام أمانها .
وليست حال باقي فئات أسرة التربية بأفضل من حال فئة المفتشين بل الجميع ناله شر لوبي المركز حتى صار رجل التربية تحت رحمة سياسة التعاقد ، وهي سياسة تنم عن الاستهانة به ، ليصير أجيرا يمكن للوزارة الاستغناء عن خدمته متى شاءت فك التعاقد معه ،والذي هو في حكم عقد النكاح الذي يملك من يكون بيده إبطاله وفسخه متى شاء . وبسبب ضغط البطالة المستفحلة رضي شباب الوطن مضطرا بالتعاقد بالرغم مما فيه من إهانة صارخة ، ومغامرة غير محمودة العواقب ،وتهافتوا عليه تهافت الفراش على النار، وهم معذورون في ذلك ، وكان الله في عونهم .
وبحلول سياسة التعاقد دق آخر مسمار في نعش المنظومة التربوية التي ولجها المتعاقدون بأحذيتهم كما يقول المثل الشعبي ليس معهم الحد الأدنى من الأرصدة الوظيفية التي تخولهم ولوجها ، ودون تكوينات حقيقية بل بتكوينات هزلية لا تزيد مدتها عن أسبوع أو أسبوعين ثم يلتحق هؤلاء بالفصول الدراسية للعبث بمصير المتعلمين الأبرياء . وبالرغم من العيب الذي شاب سياسة التعاقد، فإن الوزارة الوصية ماضية فيها استجابة لإملاءات وضغوط صندوق النقد الدولي الذي يربط جدولة ديون البلاد بما يمليه عليها من تدابير توصف دائما بالتقشفية ، والتصحيحية والعلاجية .
وفي الأخير نرفع التحدي التالي في وجه اللوبي المركزي، ولا أقول في وجه الوزراء لأنهم في الحقيقة مجرد ضيوف أو عابري سبيل ، وهو: قياس تحصيل جيل المتعلمين الحالي ومقارنته بتحصيل جيل العقود التي تلت الاستقلال مباشرة في لغتهم الأم ، وفي اللغات الأجنبية تعبيرا وكتابة ، وفي معلوماتهم في مختلف المعارف بل وفي الثقافة العامة ، وفي السلوك أيضا .
إن مستوى التحصيل الهزيل، ومستوى السلوك المنحط اليوم دليل على فساد المنظومة التربوية ، وفسادها دليل على فساد اللوبي المسلط عليها ، ولن يغير الله عز وجل ما بها حتى يزول هذا اللوبي الفاسد المفسد ، وهو ما نرجوه منه سبحانه وتعالى شفقة ورحمة بفلذات الأكباد التي يتجرع الآباء والأمهات مرارة تدني تحصيلهم سنة بعد أخرى ، ومرارة البطالة التي تنتظرهم وتتربص بهم بعد ذلك ،وهم يحملون شواهد لا تساوي الورق والحبر الذي كتبت به .
وسوم: العدد 806