" حضن المنصورة ".. لماذا نكره المحبة ؟!
لم أشهد فظاظة في التعامل مع أحلام الشباب، أو نزوات ونزق ربيع العمر، قدر ما رأيت في موضوع" حضن المنصورة" الذي أثار في الثاني من يناير الحالي ضجة وأصبح مادة للغضب والتعليقات والحوار. فجأة تبين أن"القبلة"، و"المحبة"، و"باقة الزهور"جديرة بالكراهية! بل والرغبة في معاقبة العشاق، وتأديبهم، مع أن الحب فضيلة الحياة الأولى والأخيرة، نولد به، وبفضله تستمرالحياة. ألم يخلق الحب أجمل القصائد والأغاني واللوحات والأعمال الأدبية؟ أليس من الحب قال بابلو نيرودا:" أريد أن أكون لك كما يكون الربيع للأزهار"؟! فكيف أمست كراهية المحبة حرفة اجتماعية عندما ركع طالب شاب على ركبتيه وبيده باقة ورد داخل حلقة من بالونات ملونة ليعلن لزميلة له حبه ويطلب يدها في حضور الأصدقاء؟ كان ذلك في حوالي الثانية عشر ظهرا من الثاني من يناير الحالي عند كافيتيريا " تيستي" بجامعة المنصورة. راح الأصدقاء يدفعون الفتاة من ظهرها ناحية الشاب العاشق الراكع بباقة الورد، وحين وصلت إليه نهض واحتضنها ودار بها في الهواء بين تصفيق وفرح الأصدقاء. نزوة جميلة؟ نزق؟ جموح؟ تمنى الشاب لو تماهى مع مشهد رومانسي متكرر يركع فيه العاشق ويرفع الورد لحبيبته. ما المشكلة في ذلك؟ أليس الشباب سن الغرام؟ وتحطيم التقاليد؟، والحلم؟ في كل الأحوال هي لحظة حب، لا أكثر ولا أقل، فكيف تعامل المجتمع مع أحلام الشباب؟ قام رئيس جامعة المنصورة د. أشرف عبدالباسط بإحالة الطالب محمود إلي مجلس تأديب بكلية الحقوق، وأعلن سيادته إنه سيتم توقيع العقوبة علي الطالب والتي قد تصل إلي الفصل من الجامعة، ثم أرسل مذكرة إلى شيخ الأزهر د. أحمد الطيب بشأن الطالبة لأنها مقيدة في جامعة الأزهر فرع المنصورة ليتخذ الأزهر اجراءاته ضدها. وعلى الفور قرر د. محمد المحرصاوي رئيس جامعة الأزهر إحالة الطالبة إلي مجلس تأديب، وقال إن ما فعلته يعد خروجا عن كافة القيم! ولمزيد من اذلال المحبة قدمت أسرة الطالبة اعتذارا لعميد الكلية وأكدت أنها ستعيد الطالبة إلي الجامعة"بالصورة التي تليق"! وتداول رواد مواقع التواصل الاجتماعي تسجيلا مرئيا للحظة الورد، وألقى عدد كبير منهم على الشابين العاشقين محاضرات مطولة عن الأخلاق، والقيم، وما شابه، وتحدث التربيون في البرامج التلفزيونية عن الموضوع بأفواه مليئة بالحكمة والجلافة، وذكروا الفتاة بضرورة أن تحترم نفسها! ولم يفكر أحد لا من عمداء الكليات، ولا من التربويين، ولا غيرهم، أن الموضوع في جوهره لحظة حب جرفت شابا تمنى لو يزهو بنفسه حاملا باقة ورد معلنا حبه على مرأى من الجميع! وكنت أتصور أن يستدعي العميد الشابين ويقدم لهما قدحين من الشربات، ويهنئهما بالحب، ثم يذكرهما أن الكلية ليست ساحة اعلان العواطف الخاصة، وتنتهي القصة عند هذا الحد. لكن الغضب الاجتماعي الذي اشتعل كان مؤشرا على أننا نكره الحب، نحن الذين لا نحرك ساكنا عندما نعبر قرب طفل جائع تحت كوبري، تهزنا بعنف لحظة الورد. وعندما تضخمت القصة في وسائل التواصل، صرخ محمود رمضان الطالب العاشق : " حرام عليكم.. فضحتونا"! أي قضيتم علينا! وهو ما حدث عندما تم تصوير أجمل المشاعر على أنها عار وذنب وجريمة! يذكرني ذلك بقصة للكاتب الروسي أنطون تشيخوف، وصف فيها شابين عاشقين توقفا عند بستان أحد الاقطاعيين وجلسا عند شجرة تفاح، وهناك مد الشاب يده فقطف تفاحة لحبيبته، وتصادف مرور الاقطاعي صاحب الأرض فوضع الفتى بين خيارين : إما السجن بتهمة السرقة أو أن يقوم الفتى بجلد حبيبته بنفسه! يجلد الفتى حبيبته بغصن كما طلب الاقطاعي، ثم يسير كل منهما مطاطيء الرأس في طريق مبتعدا عن الآخر، بعد أن حطمت القسوة المحبة والكرامة، ولم يعد ممكنا للفتى أن ينظر في عينيها ولا ممكنا أن تنظر في عينيه. لقد حطمت زهرة الحب في بيد الجهل والجلافة. وهاهي قصة تشيخوف تتجدد في المنصورة بعد أكثر من مئة عام، وثانية تسحق الجلافة بقدميها الغليظتين لحظة الورد. الآن أتصور كيف أمست علاقة المحبة بين الشابين في المنصورة شعورا عكرته مرارة الاهانة والتحقير والتأديب والاعتذار والتبرير! لعل المشكلة كلها في ذلك الضمير الاجتماعي الذي ينحدر فلا يرى من الانسان سوى نصفه الأسفل، ولم يعد يرى عقل الانسان وروحه، الضمير الذي يؤرقه مشهد الورد بين يدي عاشق، ولا يهتز عندما يصرح ياسر برهامي رئيس الدعوة السلفية بأن تهنئة الأقباط بأعيادهم حرام! ولا يطالب بإحالة برهامي إلي مجلس تأديب يحقق في نشر الكراهية بين أبناء الوطن الواحد! الضمير الذي لا يغضبه منظر طفل جائع تحت كوبري، لكن يجن جنونه من رقصة شاب بحبيبته عشقا وفرحا! ولا أظن أننا سنرتقي إلا بارتقاء ذلك الضمير الاجتماعي من أسفل إلي أعلى، من اللحم إلي الروح، ومن العظام إلي رجفة العقل الشاعرة، ومن التراب إلي قبة السماء الفسيحة.
وسوم: العدد 807