(من المنجزات المُذهلة للطب العربي الإسلامي التي علّمت الغرب أسس الطب) (القسم الثاني)
عبر أربع مقالات سابقة عن معجزات الطب العراقي القديم (السومري الأكدي البابلي الآشوري) وكان عنوانها (حول أكاذيب وتلفيقات هيرودوتس "أبو التاريخ" عن بابل ، وكيف شوّه الأغريق منجزات الطب العراقي القديم) ، قدّمتُ للسادة القرّاء شذرات ذهبية من مخطوطة كتابي الذي أنجزته مؤخرا عن "موجز تاريخ الطب العراقي القديم والطب العربي الإسلامي" والذي تمنيتُ على السيّد وزير التعليم العالي والبحث العلمي النظر في إقراره للتدريس في الصفوف الأولى من كليات الطب في جامعاتنا لأنني وضعته أصلا لهذا الغرض عرضاً وأسلوباً ومحتويات ولأننا كأطباء تخرّجنا من كليات الطب ونحن نعرف كل شىء عن الطب الغربي ولا نعرف أي شىء عن الطب العراقي القديم الرائد في تاريخ البشرية وعن الطب العربي الإسلامي الذي أنار سماوات العصور المظلمة.
وقد انتقلتُ بعد ذلك إلى عرض شذرات ذهبية من المنجزات المذهلة للطب العربي الإسلامي الذي علّم الغرب أسس الطب في عصوره المظلمة وحتى أسس النظافة الشخصية (كانت الملكة إيزابيلا ملكة اسبانيا تفخر بأنها لم تغتسل سوى مرّتين في حياتها عند التعميد بعد الولادة وقبل ليلة الزواج!!) .
وفي القسم الأول عرضتُ جانباً من المنجزات المذهلة للطب العربي الإسلامي ، وأواصل في هذا القسم الثاني عرض منجزات عجيبة أخرى مع ملاحظة ذكرتها في القسم الأول وهي ان مصادر هذه المعلومات مُثبّتة في مخطوطة الكتاب:
*أول عملية قيصرية في العصور المظلمة
ملاحظة مهمة :
في كل الصور أدناه لاحظْ من أي مكان من بطن الأم يُخرج الطبيب المسلم الطفل.
لقد ذكر بعض المؤرخين الطبيين في القرن الماضي خطأً أن العملية القيصرية محظورة تماماً بين المسلمين. وقد تم اقتباس هذا الرأي مراراً دون فحص صحته أو مصداقيته. يمكن أن يؤدي البحث في المصادر العربية القديمة المُتاحة إلى أدلة مخالفة لمثل هذا الرأي. في الواقع ، كان علماء الإسلام في العصور الوسطى أوّل من كتب ليس فقط عن هذه العملية ، بل ليوضحها في الصور ويصفها بالشِعر. بالنظر إلى طبيعة العصور القديمة التي عاشوها ، من غير العدل مقارنتهم بالعلماء في تاريخ لاحق ؛ لكن يجب تقييم إنجازاتهم.
(صورة منمنمة من شاهنامة الفردوسي تشير إلى ولادة رستم بطل الملحمة بالعملية القيصرية. المصدر: مكتبة قصر توبكابي)
· الأدلة من المصادر التاريخية الإسلامية
لكن أهم وأثرى وأثبت الأدلة المتعلقة بالعملية القيصرية في الأدب العربي تأتي من البيروني الذي توفي عام 1048 م عن عمر يناهز 78 عاما والذي كان مؤلف العديد من الكتب حول التاريخ والطب والفلسفة. أحد مخطوطاته الفريدة المعروفة باسم "الأثار الباقية من القرون الخالية" ، وهو موجود في جامعة أدنبرة ، رقم MS 161. وقد تم تحريره وترجمته إلى الألمانية والإنجليزية من قبل البروفيسور إي. ساشاو في عام 1879.
في هذا التاريخ الزمني للأمم ، أعطى البيروني ثلاث إشارات إلى الولادة القيصرية. وكتب أن قيصر أوغسطس (63 قبل الميلاد - 14 ميلادية) وُلد بعملية قيصرية بعد وفاة والدته. هذا هو عكس الاعتقاد الخاطئ بشكل عام أن يوليوس قيصر وُلد بهذه الطريقة ، حيث كانت والدته لا تزال على قيد الحياة عندما غزا بريطانيا.
(الولادة القيصرية كما هو موضح في مخطوطة البيروني ، الأثار الباقية من القرون الخالية ، 160 ، جامعة أدنبرة)
· أول تفسير صحيح للنبض و رائد قياس النبض عند الرسغ
كان ابن سينا من روّاد دراسة النبض بعد أن صقل نظرية جالينوس في النبض وأعطى أوّل تفسير صحيح للنبض. ففي كتابه “القانون” في الطب كتَبَ ما يلي:
(كل نبضة من النبض تضم حركتين واثنين من توقف. وبالتالي فإن مراحل متابعة: التوسع، وقفة، انكماش، وقفة. […] النبض هي حركة في القلب والشرايين … والتي تأخذ شكل التوسع المناوبين والانكماش)
وكان ابن سينا أيضا رائدا في المفهوم الحديث لأخذ النبض عند الرسغ من خلال اللمس الذي لا يزال يُمارس في العصر الحديث. والأسباب التي دفعته لاختيار المعصم كمكان مثالي لأخذ النبض هو لأنه يمكن الوصول إليه بسهولة، ولا يحتاج المريض للكشف عن جسده.
طريقة جس النبض والقرع بإصبعه فوق جسم المريض، وهي الطريقة المتبعه حاليا في تشخيص الأمراض الباطنية، والتي نُسبت إلى “ليوبولد أينبرجر” في القرن الثامن عشر، هي الطريقة التي ابتكرها إبن سينا قبل أكثر من الف سنة.
(تمثال الطبيب والفيلسوف المسلم ابن سينا في مكتب الأمم المتحدة في فيينا)
· منجزات إبن سينا المسلوبة واسم الطبيب الغربي الذي نُسبت إليه
(1). وصف تغيير شكل المنكب وامتناع رفع اليد في حالة الانخلاع نُسِب إلى Cervia de Theodore 1288_1205
(2). تدریب المفصل على الحركة بعد حل الربط نُسِب إلى Chaulac de Guy 1368 _1300
(3). كسر العظم وإعادة تسویته في كسر العثم نُسِب إلى Dalchamp J 1588 _ 1513
(4). الفحص السریري للعضوالمريض نُسِب إلى Leopaul In Berger (XVIII eme siècle)
(5). عزل علاج الكسور وإصابات الأطراف عن باقي الجراحات نُسب إلى Andry Nicol 1741_1668
(6). قطع العظام المتعفنة وإزالة الشظایا العظمية في الكسر المفتوح نُسِب إلى Moreau Victor 1800 _ 1749
(7). ربط العضو العلوي إلى الصدر في حالة كسر العضد نُسِب إلى Desault Jacqu 1800_1749
(8).: كسر قاعدة الإبهام نُسِب إلى Edward Bennett 1837-1907
(9). رد المنكب المتخلع نُسِب إلى Theodor Emil Kocher (1841_1917
(10). علاج القروح نُسِب إلى Erb Heinrich W 1921_1840
(11). التجبير المتأخر نُسِب إلى George Perkins 1892-1979
(صفحة من نسخة إيطالية لكتاب ابن سينا، القانون في الطب)
· أول من أسّس طب العيون كمنهج جديد بالبحث العلمي
هو الطبيب علي بن عيسى الكحال المتوفي 430هـ/1039م الذي اشتهر إلى جانب حذقه مهنة الكحالة بكتابه المعروف "تذكرة الكحّالين" ، الذي يعتبره المستشرقون أكبر طبيب للعيون أنجبته العصور الوسطى، وترجموا كتابه إلى اللاتينية مرتين. واعتُبر كذلك أوّل من أسّس طب العيون كمنهج جديد بالبحث العلمي. وكتاب علي بن عيسى يحتوي على ثلاث مقالات: الأولى في حد العين وتشريحها، وطبقاتها، ورطوباتها، وأعصابها، وعضلاتها، ومن أين يأتي غذاؤها. أما الثانية ففي أمراض العين الظاهرة للحسّ ، وأسبابها وعلاماتها وعلاجاتها. والثالثة في أمراضها الخفية عن الحسّ وعلاماتها وعلاجاتها ونسخ أدويتها. أما مجموع ما ألفه من كتب في طب العيون فيبلغ 32 كتابًا. وبلغ مجموع ما وصفه من أمراض العيون في (تذكرة الكحالين) وحده 130 مرضًا. وهو أول من وصف التهاب الشريان الصدغي والقحفي والعلاقة بين هذين الالتهابين واضطراب الرؤية في مرض الشقيقة. ولقد سبق الكحال (جونثان هجتنسن 1980م) بما يزيد على ثمانية قرون، كما ذكر (د. هاملتون)، وبيّن في تذكرته المشهورة هذه العلاقة في بحثه عن سلّ الشرايين وكيّها والذي قال ((أنها يمكن أن تعالج أوجاع الشقيقة والصداع والذي تعرض لهم نزلات مزمنة في الأعين أو نزلات الأصداغ، حتى ربما خيف على البصر من التلف)). ووصف كما يؤكد د. هاملتون في بحث عن التهاب الشريان في الخلايا العملاقة مراحل التهاب الشريان الصدغي والذي نشره في مجلة الطب الأمريكية العدد الأول سنة 1971.
· أقدم كتاب في طب العيون
بعد قيام المترجمين بتشجيع من خلفاء الدولة العباسية لترجمة ما وصلهم من كتب طب العيون، ألّف حنين بن إسحاق المتوفي عام 873م (260هـ) تلميذ الطبيب والمترجم ابن ماسويه، كتاب "العشر مقالات في العين" ، الذي يُعد أقدم كتاب في طب العيون أُلّف بطريقة علمية.
والكتاب موسوعة علمية كبيرة مطبوع باللغتين العربية والانجليزية وربما كان يُستخدم في مدارس الطب في ذلك الوقت، ويتكون الكتاب من عشر مقالات. المقالة الأولى في طبيعة العين وتركيبها، والثانية في طبيعة الدماغ ومنافعه، والثالثة في أمر البصر، والرابعة فيها جملة ما يُضطر إلى معرفته من أراد شيئاً من علاج الطب، والخامسة في علل الأمراض الحادثة في العين، والسادسة في علامات الأمراض التي تحدث في العين، والسابعة في جميع قوى الأدوية المفردة عامة، والثامنة في أدوية العين وأجناسها وفنون استعمالها، والتاسعة في علاج أمراض العين، والعاشرة فيما ذُكر من الأدوية المُركبة المذكورة في المقالة التاسعة على ما ألفها القدماء للعلل الحادثة في العين.
(صورة لصفحة من مخطوطة تصف تشريح عين الانسان رسمها عام ١٢٠٠م العالم المسلم ابوزيد حنين بن إسحاق العبادي)
(رسم المقطع العرضي للعقل والعيون الذي قام به في القرن الثالث عشر خليفة بن أبي المحاسن الحلبي (من حلب) في كتابه "الكافي في الكحل").
... وإلى الحلقة المقبلة
وسوم: العدد 808