ماذا وراء القناع ؟
أ _ ما الخبر ..!
لا تقولوا له .. سوف أشربه الخبر بالتدريج ، ليكون وقعه على قلبه عادياً .. سمعت هذه الكلمات وأنا ساجد لله في صلاة قيام ، كان صوت الزوجة متهدجاً ، والأولاد يتهامسون ، والصمت الليلي يلقي برهبته فوق التهامس .
لقد تركت حروف كلمات الزوجة انطباعاً راعباً على جدران هواجسي ، فرغم أني كنت مستغرقاً في السجود وفي الركعة الأخيرة .. فقد شدَّ صخب التخمين أعصابي ، وجعلني أطيل السجود ، وصرت أسمع ضربات قلبي مدافع تدق على بوابات إبصار قاتم ، وراح اللهاث يأكل نصف كلمات التسبيح ، وامتدت بي احتمالات التخمين إلى أيامٍ حضرت اللحظة من عمق الرماد ، الذي غطّى ساعات حياتنا ، مذ غام المشهد الدمشقي ، وتلاشت الابتسامات عن الشفاه ، بعد أن أعلنوا : " حركة التصحيح " ! تلك التي أعلنت رثاء الأيام .. وفتحت بيوت العزاء بالوطن . وتعرّت الكلمات على شفاه الرجال ، فانكشفت للرعب والكبت والقهر ، فلم يبق منها في الساحة إلا السقط والنفل والتملق . ولكن .. أين ذهبت بي الأفكار .. ما الخبر ..؟
ب _ الخبر :
تمتمت بالتسبيحات على عجل .. سلمت ، وقفزت واقفاً أمام الزوجة قائلاً : ما الخبر ..؟ أسرعي .. ما الخبر..؟ لقد استولى علي الطين ، لماذا تبكين ..؟ وكنت أمسك بكتفيها وأهزها بشدة وأقول : أغلقي نوافذ الظنون في قلبي .. آه لو تدركين صدى همسكم في كياني .. لمَا ألقيتِ بالصمت الراعب في المسافة بيني وبينك ، تكلمي يا امرأة ، قبل أن ينفد الصبر من صدري .. شدي لسانك ، وامضغي الكلمات ، فقد هدرتِ صحوة دمي داخل نظراتك مجهولة الهوية ..
_ على رسلك يا أبا محمد ، على رسلك ، هدئ من روعك .. الأمر وما فيه أن ...
_ تلفظي بسرعة ، لماذا تتباطئين ، أطلقي لسانك ..
_ اصبر عليّ .. قل : لا إله إلا الله محمد رسول الله .. كانت الكلمات تتدحرج فوق شفتيها بصعوبة ، وصوتها يتعثر ببقايا دمعات ، شرقت بها الحروف ، فبدت وكأنها آتية من أعماق أسطورية ..
_ ردّدت بلهفة : لا إلا الله محمد رسول الله .. وأردفتُ : أخرجي الكلمات ، شدّي على قلبك وقولي .. ولكن ليس كلمة كلمة ..
_ هل تريد الحقيقة ..؟
_ وماذا غيرها .. يا .. ! لماذا تقتلينني هكذا دون تردد ..؟
_ اجلس أمامي واهدأ ، ولن أكتمك شيئاً .
_ ها قد جلست ، فقولي بسرعة .
_ هو " سعيد " ..
_ ماذا به ؟ ما الذي جرى له ..؟ هل ...
_ أرجوك يا أبا محمد لا تعجل .. حاول أن تتماسك .. تذكر أنك صاحب رسالة .. وأن ما يجري لأي إنسان إنما هو قدر مقدور .
_ لا حول ولا قوة إلا بالله .. لقد فاتتني هذه المعاني ، قاتل الله الشيطان ، ما كان لي أن أتسرع .. فأعطيه هذه الفرصة المجانية ، ليفوز عليّ ..
_ آلآن يا أبا محمد .. سعيد سلموه لوالده البارحة ليلاً جثةً من مستشفى المواساة في المزة ، وطلبوا من والده دفنه دون جنازة ولا حضور ، وعندما تسلمه والده كان عارياً ، وقد فُقئت عيناه ، وبُقر بطنه ، وكُسرت ذراعه ، ووضعت في بطنه المبقور ، رحمه الله . شهيد يا أبا محمد شهيد ، واسْتَغْرَقَتْ في البكاء ..
_ القتلة .. الهمج . .دون ذنب ، دون أي تهمة .. إلا الرأي وقانون ( 49 ) .. إنه من الجماعة وحسب .. أعرفه منذ كان .. لم يأت بشيء .. ولم يحمل آلة أبداً .. الحقد .. الحقد .. الحقد هو متاهتهم .. رحمك الله يا سعيد ، يا شهيد ..
ج _ أول الخبر :
تنتظرون أن أقص عليكم كيف كان .. وكيف عاش ؟ تنتظرون وروحه تحوم في دنياكم ، تتوقع أن تكونوا رعداً ، وقتاً مملوءاً بالأعمال ، لترتاح في مأواها تحت الظلال ..؟ لا عليكم ، فسوف لن ألوذ بالصمت ، ولن أخذل روحه بالتغطية على فعل الجلاد ، ليبقى حواة السلطان يجوبون بالقتل والغدر آفاق المدن ، وبالتعذيب أقبية السجان ..
كان سعيد شاباً يضيء بشقرته ليل السارين ، وبعينيه الزرقاوين يبحر مع الضوء المنبثق من الكتاب ، وبسنواته الخمسة والعشرين اقتحم كبد الحقيقة ، فكان حمامة في المسجد ،و انضم إلى ركب الدّاعين ، يؤدي دوره بحنين وهدوء وسلام ، كان يعمل ( خياطاً ) ، وقد علمته مهنته الدقة والحذر .. أما قامته المديدة , ووسامته الطفولية، ولسانه العسلي ، فقد قربته جميعاً إلى القلوب ، فأوغل في دعوته ؛ عملاً دؤوباً ، ولساناً طلقاً ، وطلعةً تتفاءل النفوس بالاقتراب منها ، نمّى فهمه ، وعمّق نظرته ، وروّى قلبه بسهر الليالي ، وأعطش نهاره بالصوم ، ومع هذا فإن ذلك لم يجلب لحراكه الخيلاء أو الاستعجال ، بل كانت الأناة والانتظار الهادف يشكلان رؤيته للتعامل مع الأسوار .
قلت له مرةً :
_ سعيد .. يجب أن تخفف من نشاطك . ألا ترى وتسمع عن الذي يفعلونه في كل الأنحاء .. في حلب والشغور ودمشق وفي حماة والأرياف ..؟
_ يا أستاذي .. مِمَ أنت خائف .. أنا لا أقوم إلا بأقل الواجب نحو ديني ..
_ ولكنك تعلم أن الجو محتقن ، وأن نار الجلادين عالية ، والأمر يحتاج إلى بعض الحكمة ..
تناول سعيد كتاب الله ، وقلب بعض صفحاته وقال وقد شرقت كلماته بذيل دمعة :
_ استاذي ، إني أقتسم وهذا الكتاب الوقت ولا شيء غير ذلك ، فهي الكلمة .. الكلمة يا أبا محمد .
_ على رسلك يا سعيد ، ولا تغضب .. فإنما أردت التنبيه وحسب ، وأنا واثق من حكمتك .
_ لا توص حريصاً يا أستاذ ، فقد تعلمت منك أن سلاحنا الكلمة الطيبة وحسب . واقترب سعيد من المدفأة قائلاً : لقد شعرت بقشعريرة تجوب جسدي ، فهل تشعر بالبرد مثلي ..؟
ضحكت وقلت : إنه نيسان .. وعقاربه تلسع الأجساد ، كما تلسع سياط الجلادين في الأقبية الأجساد الطاهرة.. إنهم يداهمون البيوت .. المساجد ، أماكن العمل ، يأخذون الأسرى من كل مكان .. وهاتِ يا تعذيب.. لقد أهلكوا الحرث والنسل .
_ نعم .. لقد كرم الله الإنسان .. أي إنسان .. وهؤلاء يضعون كل شيء تحت ( بصاطيرهم ) ..
بعد أسبوع من هذا الحوار بيني وبينه .. حدثت تطورات ؛ دُوهم بيتي قبيل الفجر ، روّعوا الأطفال والنساء ، لم أكن موجوداً ، وغادرت البلد في نيسان من عام ثمانية وسبعين ، دون أن أودع أحداً ، فالجميع يعلم أن من يأتي عليه دور الاعتقال يذهب ولا يعود ، ولا يُعرف له أثر ، حتى ولو لم يكن له أية علاقة بتنظيم أو جماعة أو أي حراك ، فهي " طاسة وضايعة " كما يقول المثل ، فقد حولوا الجيش والشرطة والمخابرات بأنواعها إلى قناصة للإنسان السوري ، وحولوا الوطن إلى سجن كبير للناس ، تاركين الحدود مع الأعداء مكشوفة ، من خلال إتفاقات " جنتلمان " وظلّ الحال هو الحال حتى اليوم ، تتغيرصور وأشكال ، ويبقى جوهر الممارسات هو .. هو .. وبعد سنتين جاءنا الخبر .. وظهر ما خلف القناع .
د _ كيف ..؟
من البداية : ذات يوم من أيام صيف عام الثمانين : كان سعيد يقف على باب ( مخيطته ) وقد ارتدى " بزة " سوداء مقلمة أقلاماً بيضاء ، إنه ينتظر والده كي يحضر ، ليذهبا معاً مع بعض الأقارب ليخطبوا إحدى الفتيات لسعيد ، فهم قد اتفقوا مع أهلها على كل شيء قبل هذه " الجاهة " لذا فقد أحضر سعيد في جيبه مبلغ عشرة آلاف ليرة ، هي قيمة المهر المتفق عليه ..
طال انتظار سعيد لأبيه ، وأصابه بعض الضجر ، وفجأة شق سمعه هدير سيارات فظن أن والده قد حضر بسيارته .. ومرت بضع ثوان ، قبل أن تطل عند باب الدخلة ثلاث سيارات " لاندكروزر " يابانية ، من تلك التي يمتطيها الجلادون .. ثم لتقف أمامه ، ويترجل منها عدد من الأشباح بكامل عدتهم من السلاح ، صوّبوا
" مواسير " البنادق الآلية نحوه ، وهي البنادق التي أخفق حاملوها بالوقوف لحظة أمام يهود في الجولان ، ثم تقدم أحدهم نحوه شاهراً مسدساً حديثاً ، وقال له بفجاجة :
_ أنت سعيد ..
_ نعم ، أنا سعيد .. ماذا تريدون مني .. كانت كلماته متحشرجة ، وأنفاسه متسارعة ، فهو يعرف مآل مثل هذه المداهمات .
_ " إلك لسان بيتكلم " .. يا ...
_ أنا مواطن ولم أفعل شيئاً .. لي الحق أن أسأل ..
_ مدّ الشبح يده وسحب سعيداً من على عتبة الدكان ، وزجّه داخل حلقة من الجلاوزة .
_ نريدك خمس دقائق وحسب .. ثم تعود .. فتََّشوه ، كانت الكلمات تخرج من بين شفتي صاحب المسدس كالطلقات .
وسرقوا العشرة آلاف ليرة ، ثم دفعوا سعيداً إلى باب إحدى السيارات ، ومضوا به دون أن يعرف أحدٌ من أهله أو أهل حيّه أي شيء .. فلا أحد يجرؤ على السؤال ، لماذا ..؟ وإلى أين .. وكيف ..؟
بعد شهر من ذلك اليوم .. اتصلوا بوالده ليلاً ، وطلبوا منه الحضور إلى مستشفى المواساة في المزة ليتسلم ولده على حالته التي بينتها آنفاً ، وظل أمر ما جرى مع سعيد في المعتقل سراً مدّة شهر بعد الدفن ، إلى أن خرج أحد المعتقلين وكان رفيقاً لسعيد داخل جحيمهم ، فشرح للناس الذين يهمهم الخبر ما كان من أمر سعيد مع الجلادين ، وكان مما قال : أرادوا من سعيد أن يخرج على شاشة التلفاز ، ويروي الرواية التالية : كنت معتقلاً في سجون الصهاينة ، ولمّا تمّ تبادل الأسرى باتفاق بين يهود وحكومة دمشق ، كنت أحد الأسرى السوريين الذين سيعودون إلى الوطن ، وقبل أن أغادر المعتقل ناداني ضابط الأمن الصهيوني على انفراد ، وقال لي : هذه رسالة أريد منك أن توصلها إلى أحد قادة الإخوان المسلمين في دمشق ، فنحن وإياهم على صلة وتفاهم بشأن الذي يجري في سورية ..
كان سعيد يخبرني بما يكون بينه وبين الجلادين بعد كل مرة ينادونه فيها ، لقد أصرّوا عليه أن يَقُصَّ تلك الحكاية الملفقة على الناس ، فاستعملوا معه أسلوب الإغراء وذلك بالإفراج عنه ، وتأميله بالمال والمكانة تارة ، وأسلوب التعذيب والتشويه تارة أخرى ، ليقنعوه بالقيام بما يريدونه ، ولكنه _ رحمه الله_ كان كالطود لا يتزحزح أبداً عن موقفه الرافض لذلك الفعل المشين ، وفي البداية عاد وقد كسرت يده ، وربطوها إلى كتفه ، وفي مرة أخرى كان بطنه مبقوراً ، ومغطىً بالشاش الأبيض ، وكان سعيد يئن من ألم شديد يعتصره ، وفي مرة أخرى فقأوا عينيه وأعادوه يمشي بين اثنين منهم ، .. وذكر لي : إنهم كَووْا عينيه بسيخ محمى على النار ، بعد أن رفض البتة فعل ما يريدون ، وقالوا له : سنفقأ لك هاتين العينين الجميلتين .. ثم أخذوه آخر مرّة ولم يعد .. وسلموه _ كما علمت فيما بعد _ عارياً من بزته أو أي ملابس أخرى ، وقد وضعوا يده المكسورة في بطنه المبقور ، وغطوا عينيه بالشاش الأبيض ..
ماذا أقول بعد أن ظهر ما وراء القناع ..؟ وهل بعد المشهد الذي وصفت من قول إلا أن أردد مع الشاعر السوري المجيد :
كيف الخلاص ؟
أنا الخلاص وفي يدي
مني لواء تحرري ونجاتي
من ليس يملك منعة من دائه ما كان يشفيه اجتماع أساة
المجد إيمـاني بـوهج حقيقتي بالمطلق المخزون من عزماتي
أنا ثورة التاريخ جئت أعيده قمماً ترتـل للعـلا آيـاتي
ليعيش أطفـالي غداً متألقاً عطراً كأنفاس الربى العطرات
وأزيد: سعيد لم يمت، فهو يعيش اليوم في قلب الحدث من ثورة الحرية والكرامة، وروحه الوضاءة تؤز روح ثورة سورية التي لم ولن تموت، مادام شعبها مع الله..
وسوم: العدد 808