في كلية الإعلام بجامعة القاهرة (إحدى حلقات "في الطريق إلى الأستاذية" المفتقدة)

عام ٢٠٠٤-٢٠٠٥ الجامعي -وكنت قريب الأَوْبة من رحلة عملي الأولى بقسم اللغة العربية من كلية الآداب بجامعة السلطان قابوس- رغب إليّ أستاذي الدكتور أحمد كشك -عافاه الله أبدا، وأحسن إليه!- أن أعينه على تدريس اللغة العربية لطلاب كلية الإعلام، مُتحرِّجًا من أنهم القلة المتخلفة المستضعفة، فأجبته عاجلا حَفيًّا.

تجهزتُ بما تعودت، ثم مشيت عن يسار كليتنا (دار العلوم)، إليهم في مقرهم الجديد اللطيف، حتى تمكنت في مجلسي من مدرج حقيقي لا كمدرجاتنا الخيالية، فلم أكد أهدر بعربيتي القرآنية الدرعمية المربَّبة المكرَّمة، حتى "جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ، وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ"، كأن لم أقل أو أكن شيئا مذكورا، وإذا هم أشتات من أرجاء الأرض، قد اختلط فتيانهم وفتياتهم، وتعاهدوا على العبث!

يَا مَا أَثْقَلَ وَحْشَتِي بَيْنَهُمْ عِنْدَئِذٍ وَأَسْوَأَ خَجَلِي!

ولكن لا بأس، لا بأس ولا يأس؛ فكما ذهبت عنهم مقهورا محسورا أُبْتُ إليهم بما لم يكادوا ينسلكون فيه حتى انسلّت فَتَياتُهم من فتيانهن فتقدَّمن مبتهجاتٍ إلى حيث اصطففن أمامي!

نعم؛ فقد ألغيت عنهم كل ما سبق إليهم مني ومن غيري، وجعلت همي مسرحية الصفقة لتوفيق الحكيم، هي الكتاب المقرر، وهي المحاضرة المشهودة، يتناوبون على قراءتها طالبا طالبا، وأنبههم على مواضع توفيق الحكيم -!- إلى دعواه فيها وأدلة إخفاقه، ليكون الاختبارُ طائفةً من عباراتها: أسألهم تمييز ما وُفق فيه مما أخفق صوتيا وصرفيا ونحويا ودلاليا، فإن وُفق لم يزيدوا على حكمهم بالتوفيق، وإذا أَخفق حددوا موضع الإخفاق وسببه؛ فلم تكن لِتُفْلِتَهُمْ مسألةٌ تعنيهم من مسائل فنون العربية وعلومها!

ولم يكن هؤلاء الطلاب وحدهم هم الذين ارتاحوا لهذا المنهج في التدريس والاختبار حتى ارتاح بارتياحهم أهلُوهم، بل كذلك كانت إدارة كليتهم في عمادة الدكتورة ماجي الحلواني ووكالة الدكتور سامي الشريف –ولم تكن الاختبارت لتجوز إلا من بابهم- ثم إدارة جامعة قطر التي قُدِّر لي في بعض اللقاءات أن أعرض عليها مسيرة هذه التجربة؛ فشهدت لي عندئذ بفَذاذتها.

إن توفيق الحكيم الذي ألف مسرحية محمد -صلى الله عليه، وسلم!- مما قاله على الحقيقة هو وصحابته -رضي الله عنهم!- ألف مسرحية الصفقة مما سماه اللغة الثالثة التي تستوي في كتابتها الفصحى والعامية، بحيث إذا أرادها فصحى المخرجُ والممثلون الفصحويّون طاوعتهم على مرادهم، وإذا أرادها عاميةً المخرجُ والممثلون العاميّون طاوعتهم أيضا على مرادهم، وزعم أنه بذلك قد حل مشكلة الفصحى والعامية التي كانت عندئذ فتنة الأدباء ولاسيما المسرحيون، و"زَعْمًا لَعَمْرُ أَبِيكَ لَيْسَ بِمَزْعَمِ"، ذهبت دعواه، ولكن صفقته بقيت لأربح أنا فيها منذ خمسة عشر عاما واليوم، طلاب كلية الإعلام بجامعة القاهرة، وغيرهم من الطلاب!

وسوم: العدد 809