حقوق الإنسان بين الشريعة والقانون الحلقة الخامسة، الإسلام وحقوق الأقليات
جاء في الفقرة (ه) من المادة التاسعة من ميثاق الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، والتي تعني بحقوق الأقليات، وجعلتها من ضمن الحقوق الدولية العامة. لتؤكد على ما شرعه الإسلام في معاملة الأقليات الذين أطلق عليهم تسمية (أهل الذمة) وفرض عليهم الجزية التي كانت البديل لحمايتهم من قبل الدولة المسلمة. وفي حال عدم استطاعة الدولة تقديم الحماية لهم فإنه لم يعد من حقها جباية الجزية منهم.
ولعل ما صنعه أبو عبيدة بن الجراح حين أبلغه نوابه عن مدن الشام، بتجمع جحافل الروم ما يدل على التزام الولاة بما أقره الإسلام، فقد كتب إليهم أن يردوا الجزية عمن أخذوها منه، وأمرهم أن يعلنوهم بهذا البلاغ:
إنما رددنا عليكم أموالكم، لأنه قد بلغنا ما جمع لنا من جموع، وإنكم اشترطتم علينا أن نمنعكم (أي نحميكم) إنا لا نقدر على ذلك، وقد رددنا عليكم ما أخذنا منكم، ونحن لكم على الشروط، وما كتبنا بيننا وبينكم، إن نصرنا الله عليهم).
كما كتب خالد بن الوليد في عهده لأهل الذمة: (إن منعناكم فلنا الجزية، وإلا فلا حتى نمنعكم).
وكان لا يؤخذ من أهل الذمة الجزية ممن يدعم المسلمين أو يحارب معهم. فهذا مندوب أبي عبيدة يصالح (الجراجمة) المسيحيين، على أن يكونوا أعواناً للمسلمين وعيوناً على عدوهم، وألا يؤخذوا بالجزية.
وهذا عمر بن الخطاب يأمر بالتخفيف عن أهل الذمة فيقول: (من لم يطق الجزية خففوا عنه، ومن عجز فأعينوه. فإنا لا نريدهم لعام أو لعامين).
وكان المسلمون يعاملون الجار الذمي كما يعاملون الجار المسلم، فهذا ابن عمر يوصي غلامه أن يعطي جاره اليهودي من الأضحية ويكرر الوصية مرة بعد مرة، حتى دهش الغلام، وسأله عن سر هذه العناية بجار يهودي؟ قال ابن عمر: (إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه)).
وروي عن ابن أبي شيبة عن جابر بن زيد انه سئل عن الصدقة فيمن توضع ؟ فقال: (في أهل ملتكم من المسلمين، وأهل ذمتكم).
وماتت أم الحارث بن أبي ربيعة وهي نصرانية، فشيعها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكان بعض أجلاء التابعين يعطون نصيباً من صدقة الفطر لرهبان النصارى ولا يرون في ذلك حرجاً. بل ذهب بعضهم كعكرمة، وابن سيرين، والزهري، إلى جواز إعطائهم من الزكاة نفسها.
ويقول الفقيه (شهاب الدين القرافي) في كتابه الفروق: (إن عقد الذمة يوجب لهم حقوقاً علينا، لأنهم في جوارنا وفي خفارتنا (أي حمايتنا) وذمتنا وذمة الله تعالى، وذمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودين الإسلام، فمن اعتدى عليهم ولو بكلمة سوء أو غيبة فقد ضيع ذمة الله، وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم وذمة دين الإسلام).
وكتب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب إلى بعض ولاته على الخراج: (إذا قدمت عليهم فلا تبيعن لهم كسوةً شتاءً، ولا صيفاً، ولا رزقاً يأكلونه، ولا دابة يعملون عليها، ولا تضربن أحداً منهم سوطاً واحداً في درهم، ولا تقمه على رجله في طلب درهم، ولا تبع لأحد منهم عرضاً (متاعاً) في شيء من الخراج، فإنما أمرنا أن نأخذ منهم العفو، فإن أنت خالفت ما أمرتك به، يأخذك الله به دوني، وإن بلغني عنك خلاف ذلك عزلتك). قال الوالي: إذن أرجع إليك كما خرجت من عندك، قال: وإن رجعت).
وتشير الفقرة (ج) من المادة الثالثة من ميثاق الأمم المتحدة لحقوق الإنسان على حق الضمان الاجتماعي والأمن الاجتماعي، والتأمين ضد البطالة والعجز والشيخوخة والترمل، وحق الحصول على الخدمات الصحية والاجتماعية.
وجاءت هذه الفقرة لتؤكد على ما فعله الإسلام في هذا المضمار، فقد كان التكامل الاجتماعي والضمان الاجتماعي والأمن الاجتماعي في الدولة الإسلامية يشمل كل رعاياه بغض النظر عن الدين أو العرق، فلم يقتصر على الامتناع عن أخذ الجزية من ضعفاء أهل الذمة وفقرائهم، بل حث على تقديم العون لهم. فهذا خالد بن الوليد ينص في عقد الذمة الذي كتبه لأهل الحيرة في العراق، وكانوا من النصارى: (وجعلت لهم، أيما شيخ ضعف عن العمل، أو أصابته آفة من الآفات، أو كان غنياً فافتقر وصار أهل دينه يتصدقون عليه، طرحت جزيته، وعيل من بيت مال المسلمين هو وعياله).
ورأى عمر بن الخطاب شيخاً يهودياً يسأل الناس، فسأله عن ذلك، فعرف أن الحاجة ألجأته إلى ذلك، فأخذه وذهب به إلى خازن بيت مال المسلمين، وأمره أن يفرض له ولأمثاله من بيت المال ما يكفيهم ويصلح شأنهم، وقال في ذلك (ما أنصفناه إذ أخذنا منه الجزية شاباً، ثم نخذله عند الهم!).
وجاءت الفقرة (ج) من المادة الخامسة من ميثاق الأمم المتحدة لحقوق الإنسان: في حق تكوين المعتقدات وممارسة شعائرها وطقوسها دون إكراه، وحرية تغييرها.
وقد أكد الإسلام على هذه المعاني، فقد جاء في كتاب الله قوله تعالى: (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي). وقال أيضاً: (أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين).
وقال عليه الصلاة والسلام: ((من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاماً).
وفي عهد النبي صلى الله عليه وسلم لأهل نجران: ((ولنجران وحاشيتها جوار الله، وذمة محمد النبي رسول الله، على أموالهم، وملتهم، وبيعهم، وكل ما تحت أيديهم من قليل أو كثير)).
وروي في الأثر أن النبي صلى الله عليه وسلم قد بعث إلى أهل مكة (وهم على شركهم) مالاً لمّا قحطوا ليوزع على فقرائهم. وقدمت أم أسماء بنت أبي بكر وهي مشركة، في عهد قريش إذ عاهدوا على ابنتها في المدينة، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إن أمي قدمت وهي راغبة، أفأصلها ؟ قال: ((نعم، صلي أمك)).
وذكر ابن إسحاق في سيرته، أن وفد نجران - وهم نصارى - لما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، دخلوا عليه مسجده بعد العصر، فكانت صلاتهم، فكانوا يصلوا في مسجده، فأراد الناس منعهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((دعوهم)) فاستقبلوا المشرق فصلوا صلاتهم.
وهذا الأخطل الشاعر النصراني يدخل على الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان، وعليه جبة وحرز من الخز، وفي عنقه سلسلة بها صليب من الذهب، وتتعض لحيته خمرا، ويحسن الخليفة استقباله. كما أن الاتفاقية التي وقعها المسلمون سنة (98هـ/716م) مع (الجراجمة) المسيحيين الذين يسكنون المناطق الجبلية من بلاد الشام تضمنت النص على أن يلبس الجراجمة لباس المسلمين.
واهتم علماء المسلمين بالأديان والمذاهب، فكان ابن حزم الأندلسي ملماً بالإنجيل واللاهوت المسيحي إلماماً تاماً. وألم ابن خلدون بالإنجيل والتنظيمات الكنسية، وتحدث عن بعضها في مقدمته. وكان القلقشندي يرى ضرورة معرفة الكاتب بأعياد الذميين الدينية.
وذكر المقريزي كثيراً من التفاصيل عن أعياد النصارى واليهود، وتحدث عن فرقهم المختلفة، وذكر أسماء بطارقة الإسكندرية، وتحدث كل من المقريزي والمسعودي عن طوائف أهل الذمة.
وجاءت الفقرة (د) من المادة الثالثة من ميثاق الأمم المتحدة لحقوق الإنسان: (الحق في الراحة والاستمتاع بأوقات الفراغ في الإجازات الدورية). لتتوافق مع ما قرره الإسلام، حيث يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يحرم إحضار يهودي في سبته، وتحريمه باق بالنسبة إليه، فيستثنى شرعاً من عمل في إجازة، وانتم يهود عليكم خاصة ألا تعدوا في السبت)).
ودعت فقرات المادة السادسة من حقوق الإنسان في ميثاق الأمم المتحدة إلى:
أ_ الحق في التعليم الأساسي المجاني.
ب- الحق في اختيار نوع التعليم.
ج- الحق في التعليم العالي ضمن كفاءة الراغبين.
د- الحق في تعليم ينمي الشخصية المتكاملة.
وقد أكدت فقرات هذه المادة على ما أقره الإسلام وكفله من حق كل مواطن في دولة الإسلام في التعليم، كما كفل له حرية اختيار المعلمين والمواد العلمية. فقد اختار عبد الملك بن مروان - الخليفة الأموي - رجلاً مسيحيا يدعى (أثناس) من مدينة (أرها) ليكون مؤدباً لأخيه عبد العزيز (ولي العهد) وقد رافق (أثناس) عبد العزيز إلى مصر عندما عين والياً عليها.
كما درس كثير من الذميين على أيدي مدرسين وفقهاء مسلمين، فهذا (حنين بن إسحاق) درس على يد (الخليل بن أحمد) و(سيبويه) حتى أصبح حجة في العربية.
وهذا (يحيى بن عدي بن حميد) تتلمذ على (الفارابي) و(ثابت بن قرة) تتلمذ على يد (علي بن الوليد).
وهذا (جورج الثاني) ملك إنكلترا يبعث ابنة شقيقته الأميرة (دوبانت) على رأس بعثة من بنات نبلاء إنكلترا لينهلوا العلم في جامعات الأندلس على زمن الأمير الأموي هشام.
والملفت للنظر أن المناصب العالية والوظائف المهمة والحساسة في الدولة الإسلامية على مر عهودها لم تقتصر على شغل المسلمين لها، فقد شغل العديد من غير المسلمين لهذه المناصب. فقد تقلدوا مناصب وزارية، وأمناء لبيت مال المسلمين، ومستشارون للخلفاء والولاة، تأسياً بما فعله النبي صلى الله عليه وسلم. فقد روي أنه استعان في سلمه وفي حربه بغير المسلمين، حيث ضمن ولاءهم له، ولم يخش منهم شراً ولا كيداً. ومات عليه الصلاة والسلام ودرعه مرهونة عند يهودي في نفقة عياله.
وقد أفتى (الماوردي)، وهو من كبار فقهاء المسلمين، بجواز تقليد الذمي وزارة التنفيذ، وهو الذي يبلغ أوامر الإمام، ويقوم بتنفيذها، ويمضي ما يصدر عنه من أحكام.
وقد تولى الوزارة في زمن العباسيين بعض النصارى أكثر من مرة. منهم (نصر بن هارون) سنة (369هـ/979م). و(عيسى بن نسطورس) سنة (380هـ/990م). و(يعقوب بن يوسف) وزر للعزيز بمصر وقبل ذلك كان لمعاوية بن أبي سفيان كاتب نصراني اسمه (سرجون).
وجاء في الفقرة (د) من المادة السابعة (الحق في التعويض عن الضرر نتيجة الاتهام غير المحق).
وعند العودة إلى تاريخ الدولة الإسلامية حيث قامت نجد أن فقهاء المسلمين وأمرائهم قد أنصفوا المواطنين من كل حيف أو تعدي، والذود عنهم مهما تباينت دياناتهم وأعراقهم، قبل كل ما جاءت به نصوص ميثاق الأمم المتحدة لحقوق الإنسان وما تبعه من إعلانات واتفاقيات بما يزيد على أربعة عشر قرناً. فهذا الإمام الفقيه (الأوزاعي) يقف موقف الخصم من الوالي العباسي في زمنه، عندما أجلى قوماً من أهل الذمة من جبل لبنان، لخروج فريق منهم على عامل الخراج، وكان هذا الوالي أحد أقارب الخليفة وعصبته، وهو (صالح بن علي بن عبد الله بن عباس) فكتب إليه الأوزاعي رسالة طويلة، وكان مما قال فيها:
(فكيف تؤخذ عامة بذنوب خاصة، حتى يخرجوا من ديارهم وأموالهم، وحكم الله تعالى: (لا تزر وازرة وزر أخرى) وهو أحق ما وقف عنده واقتدى به، وأحق الوصايا أن تحفظ وترعى، وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه قال: ((من ظلم ذمياً أو كلفه فوق طاقته فأنا حجيجه)). إلى أن يقول في رسالته: فإنهم ليسوا بعبيد، فتكون في حل من تحويلهم من بلد إلى بلد، ولكنهم أحراراً أهل ذمة).
وأجلى الوليد بن يزيد من كان في قبرص من الذميين وأرسلهم إلى الشام مخافة حملة الروم، فغضب عليه الفقهاء، وعامة المسلمين، واستعظموا ذلك منه، فلما جاء يزيد بن الوليد وردهم إلى قبرص استحسنه المسلمون، وعدوه من العدل. وذكروه في مناقبهم.
يتبع
وسوم: العدد 810