قصصُ العُروج(113)

أسلحةُ الأسباب

التعجُّب من تَكسُّر السُّنن:

ظل المؤمنون الواعون مرتبطين في كل زمن بالسُّنن والأسباب، لكنهم لم يسمحوا لها بالولوج إلى قلوبهم، وكان عملهم يتم دائماً وفق السُنن، ولا يزال جُهدُهم دائباً في استثمار الأسباب، ولهذا فقد تعجّبوا من ظهور المعجزات والكراما الخارقة للسنن والأسباب، بينما يتكلم مسلمو عصرنا هذا عن خوارق لا يستوعبها عقل، وتجد منهم آذاناً مُصغية للخرافات وإيماناً غير محدود بالأوهام!

فهذه زوجة إبراهيم عليه السلام لم تحمل في مرحلة الحمل الطبيعية وعندما وصلت إلى سنّ العَجْز الطبيعية عند كل النساء ودخل زوجها مرحلة الشيخوخة؛ جاءت الملائكة تبشرهما بولد، ف وهي تعرف أن الله على كل شيئ قدير لكنها قالت كما حكى عنها القرآن: *{ يا وَيلتَى ءَألدُ وأنا عجوزٌ وهذا بَعْلي شيخاً إن هذا لشيئٌ عجيب}* [هود: 72].

ولفتت الملائكة أنظارها إلى أن هذا الولد ليس ثمرة للتزاوج وفق القوانين والأسباب الطبيعية، وإنما هو ثمرة لأمر الله الذي إذا أراد شيئاً فإنما يقول له كُن فيكون: *{ قالوا أتعجبينَ من أمر الله رحمةُ الله وبركاتُه عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد}* [هود: 73]، وقد تعجّبت بمثل ذلك مريم، وتعجّب زكريا عندما بشره الله بيحيى رغم أن البشارة جاءت بعد دعوته بأن لا يذره الله فردا وأن يهبه الولد الذي يرثه.

 *آمالٌ لا أماني*:

إن خلوّ الآمال من الأعمال وعدم تسلح الرجاء بالأسباب يحيلها إلى أوهام وأماني، كما كان يفعل أهل الكتاب، وكما حذر القرآن الصحابة من الوقوع في هذه الوهدة عندما قال: *{ ليس بأمانيّكم ولا أمانيّ أهل الكتاب من يَعمل سوءً يُجْزَ به}*، بمعنى أن الآمال المنفكّة عن الأعمال تصير مجرد أماني لا تُقدم ولا تُؤخّر، حيث تتكسّر الأماني على صخرات الواقع الذي يسير وفق سنن ونواميس منضبطة.

 *أقدارُ القُدرة*:

في المفهوم القرآني للقدَر تتضافر عوامل الغيب والشهادة، حيث يتسلح المؤمن بالأسباب ويُسلم قيادَه لمالكها، متكلاً عليه في تحقيق النتائج التي طرق أبوابها وفعَّل أسبابها.

ومن هنا نفهم قوله تعالى: *{ثم جئتَ على قدَرِ يا موسى}*، فقد اجتمعت قدرات موسى التي تسلحت بكافة الأسباب مع قدرة الله التي خَلقت النتائج وهيّأت الظروف لظهور موسى نبياً ورسولاً، وكأن مكوثه بضع سنين في مدين كان عاملاً مهماً لتأهله على المستوى الشخصي، ولنضوج الظروف التي ساعدت على انبعاثه في مصر، ومن ثم فلا مجال هنا للصُّدفة أو للطَّفْرة !

 *الفاعلُ المَفعول*:

من المعلوم أن عيسى هو حصيلة نفخة من روح الله، وهو ذاته الذي كانت إحدى معجزاته أن ينفخ في طائر من الطين فيصبح طائراً بإذن الله، فهل جرى ذلك مصادفة ?!

إنما أراد الله أن يُبيِّن أن النافخ والمنفوخ من خلق الله، وأنه وحده مالك الأسباب وهو من يمنحها الفاعلية، حتى أنه قادر على جعل الشخص فاعلاً ومفعولاً في آن واحد!

 *السجود لخالق الأسباب لا لها*:

أشار الله إلى أن أمره لإبليس بالسجود لآدم، إنما هو امتثال لخالق آدم ومُبدع الأسباب وليس لها، فقال تعالى: *{قال يا إبليس مامنعك أن تَسجُد لما خلقتُ بيدي...}*، ولم يقل لآدم، إذ تبدو الإشارة واضحة في جملة: *{خلقتُ بيدي}* [ص: 75]، فإن من قال لآدم: كُن فكان هو من قال لإبليس: اسجد فلم يَسجد، وإن تَعجَب فعجَبٌ قولُ بعض المتصوفة: إن إبليس بلغ ذروة التوحيد حينما لم يسجد لآدم!

*بُورِك المُتدبِّرون*

منتدى الفكر الإسلامي

وسوم: العدد 810