عرس ديمقراطي بامتياز
صباح هذا اليوم قمت بواجبي الوطني وأدليت بصوتي في الانتخابات المحلية والبلدية وهي المرة الثانية بعد أن حصلت على الجنسية التركية، إنه عرس ديمقراطي بامتياز وبكل المقاييس، حيث تم الاقتراع في غرفة سرية في جو هادئ حيث تم استقبالنا من قبل القائمين على العملية الانتخابية بوجوه مشرقة وابتسامات رائعة، يُعرّفونا بما علينا القيام به بكل شفافية ولطف واحترام. وبالفعل تمت العملية بسهولة ويسر مُودعين بمثل ما استقبلنا به.
يا الله هل يُعقل أن أقوم ولأول مرة في حياتي بالإدلاء بصوتي بكل هذه الحرية والشفافية خارج حدود وطني سورية وقد تجاوزت الخامسة والسبعين من العمر، دموع الفرحة غمرتني ودموع الحسرة نازعتني الحنين إلى الوطن، ولمَ لا تكون بلدي سورية مثل باقي الدول؟ ولماذا لا يكون شعب سورية مثل باقي شعوب الأرض؟ أه ما أجمل الحرية وما أروع الديمقراطية والعدالة الاجتماعية عندما ينعم بها الإنسان!
الاقتراع اليوم أخذني بعيداً وأعادني لذكريات أليمة مرت بي تشبه إلى حد ما الانتخابات التي خضناها اليوم شكلاً لا مضموناً، ففي عام 1972 وكان أول استفتاء على منصب رئيس الجمهورية في بلدي سورية، أقول استفتاء ولا أقول انتخاب لأن المرشح واحد هو حافظ الأسد، والاقتراع بنعم أو لا، والنتيجة محسومة الفوز بنسبة 99،9%، ولابد لي من رواية ما حدث معي في ذلك اليوم المشؤوم:
حوالي الساعة العاشرة صباحا أطلت علينا سيارة المخابرات ووقفت أمام الباب الداخلي لدائرتنا التي نعمل بها، وترجل منها عنصران كأنهما زبانية إبليس، وهما بالفعل كان شكلهما يوحي بذلك، جبين مقطب، ووجه كالح أصفر، وعينان سوداوان كعيون ذئب يريد الانقضاض على فريسته، يحملان صندوقاً عرفنا أنه الصندوق الذي سنضع فيه أصواتنا، ووضاعاه على غطاء محرك السيارة، ووضعا إلى جانبه رزمة أوراق، على كل منها دائرتين واحدة حمراء والأخرى سوداء، الحمراء تشير إلى نعم والسوداء تشير إلى لا، ثم طلبا منا الإدلاء بأصواتنا، فتقدم مدير الدائرة يريد أن يأخذ ورقة ليشير إلى ما يريد نعم أو لا، ولكن أحد العنصرين سبقه ووضع الورقة أمامه، والتفت إليه قائلاً: طبعا رفيق أنت موافق على انتخاب القائد حافظ الأسد رئيساً لسورية، وأشار إلى الدائرة الحمراء بالقلم ثم وضعها في الصندوق، وهكذا فعل مع الجميع إلى أن جاء دوري، فمددت يدي وأخذت ورقة الاقتراع، فأراد أن يأخذها مني ويفعل كما فعل مع زملائي ولكنني نهرته وقلت له بلهجة حادة أنا متعلم ولست أمي وحقي لن أتنازل عنه، فأنا من أشير إلى المكان الذي أريده موافق أو غير موافق، فقال بكل خبث: طبعاً رفيق أنك ستوافق، قلت له: وهل شققت على قلبي؟ فسكت. فسألته لأغيظه أكثر، ما تعني الدائرة الحمراء؟ قال: نعم، قلت له: والسوداء؟ فقال: لا. فأشرت إلى السوداء وكتبت بجانبها غير موافق. وطويتها لأدسها في الصندوق، فحاول أن يقوم هو بذلك، فرفضت وأدخلتها بنفسي في الصندوق وأدرت ظهري له وتوجهت إلى مكان عملي.
بعد مغادرة سيارة المخابرات بما تحوي من قمامة تسارع زملائي يعانقوني مودعين ظنّاً منهم أنهم لن يروني بعد اليوم، ولكن لم يحدث معي أي شيء مما تخيلوه، فقد عدت إلى العمل في اليوم الثاني. به أحد الأصدقاء
ويحضرني في هذه العُجالة ما رواه لي أحد الأصدقاء عما رآه رأي العين قائلا: بينما كنتُ أهمُّ بدخول معرض دمشق الدولي عام 1962، إذ بسيارة سوداء اللون، تخترق صفوف المواطنين وتصل للبوابة الحديدية المغلقة في وجه السيارات، وتطلق شارة صوتية خفيفة، يتنبه لها الشرطي الواقف على تلك البوابة، ويقترب منها وينظر لداخلها ويقول:" دولة الرئيس يمنع منعا باتا دخول السيارات الى المعرض، أتريد أن أفتح لك البوابة؟ وبإشارة من رأسه يجيب خالد العظم ب "لا " ويعود أدراجه الى الوراء، قلت للشرطي: رح يخرب بيتك، ما عرفته ؟! هادا خالد العظم، " أجابني: أنفذ الأوامر ولا يهمني أحد، أعرفه وكيف لا، وأحبه وأحترمه، بس الأوامر أوامر. " وقفتُ منتظرا حدوث أمر ما، اذ كيف يمنع شرطي رئيس وزراء دولته من دخول المعرض؟!
مرت أكثر من عشرين دقيقة على الحادث، وإذ بخالد بك العظم، يقف وراء ابنته ـ في صف المواطنين ليدخل الى مدينة المعرض، هنا تبسم الشرطي واقترب من خالد بك قائلا: لهذا أحبك، تفضل ولا يجوز وانت رئيس وزرائي الوقوف في الصف، خاصة والآنسة معك، ضحك خالد بيك وقال لابنته، هي منشانك تخطينا الدور والشرطي سمحلنا نفوت.
هؤلاء هم رجالات سورية الذين انقلب عليهم العسكر في ليل بهيم بعد أن أداروا ظهورهم للعدو الصهيوني وتسلقوا جدران السلطة في شام العروبة والإسلام.
وسوم: العدد 818