سأحاربهم بالديمقراطية

قلة من السوريين، (وتحديداً من الرعيل الأول) من سمع بمثل هذه الحرب التي شنها رئيس وزراء سورية الأسبق خالد العظم على التقدميين والاشتراكيين والمعارضين، فكيف كانت بداية هذه الحرب وأسبابها ودوافعها؟!

في عام 1962م زار رئيس الوزراء السوري الأسبق خالد العظم مدينة درعا، فرماه المتظاهرون من التقدميين والاشتراكيين والمعارضين بالبيض والبندورة، وتحول لباسه الأبيض الذي كان قد اعتاد أن يلبسه إلى لوحة عبثية ملطخة بالألوان الفاقعة، وفي عودته إلى دمشق، توقف في الصنمين وهاتف محافظ درعا وأمره بإطلاق سراح من اعتقلتهم الشرطة ممن رشقوا رئيس الوزراء بالبيض والبندورة، وقال مقالته الشهيرة: (سأحاربهم بالديمقراطية).

ولم يكن خالد العظم هو أول من ابتدأ محاربة التقدميين والمعارضين بالديمقراطية، ففي الأربعينيات وفي جلسة أثناء الاحتفال بيوم الجيش ألقى الشاعر الكبير عمر أبو ريشة قصيدة قال فيها:

إن أرحام البغايا لم تلد مجرماً   في شكل جميل مردم

وكان جميل مردم رئيساً للوزراء ويحضر ذلك الاحتفال ويستمع لقصيدة الشاعر أبي ريشة فلم يأمر باعتقاله، ومضت الحفلة إلى منتهاها.

وبعد الإطاحة بالنظام الديمقراطي الذي وصل إلى الحكم عن طريق صناديق الاقتراع عام 1963م بدأت حرب من نوع جديدة غير مألوفة للشعب السوري تشنها الحكومة الانقلابية التي مثلتها القوى التقدمية والاشتراكية، التي هللت لها أصحاب الاعتقادات الدخيلة والهجينة، وظن عوام الناس وفئامهم بأن الانقلاب الذي قاده هؤلاء العسكر المستظلين بخيمة البعث ستكون سفينة النجاة لهم.

ولم يمض وقت يسير حتى كشر هؤلاء عن أنيابهم الحادة ومخالبهم القاطعة بوجه الجماهير التي هتفت لهم واستبشرت بمقدمهم، فراحت تسلط عليهم وعلى كل من يعارضهم أو ينتقدهم ذئابهم الجائعة متمثلة في رجال (الحرس القومي) الذي راح يزرع الرعب بين صفوف الجماهير، ويتدخل في شؤونهم الخاصة والعامة، ويؤرق حياتهم.

وطور التقدميون فيما بعد من حربهم على معارضيهم ومخالفيهم الرأي، بشن حرب أسموها (العنف الثوري) عبر تنظيمات جديدة (سرايا الدفاع، والوحدات الخاصة، وسريا الصراع) إضافة إلى تشكيل أكثر من (عشرة أجهزة أمنية مستقلة) مهمتها ملاحقة المواطن السوري خلال أربعة وعشرين ساعة وعدَّ أنفاسه وتسجيل همساته ونجواته وخلواته، التي أتت على الآلاف من الجماهير وأزهقت أرواحهم في سلسلة من المجازر البشعة التي طالت الناس في معظم المدن السورية، وسوق الآلاف إلى المعتقلات والسجون والمنافي، حتى لم يبق بيت من بيوت السوريين إلا وفيه من قتل أو فقد أو سجن أو نفي، إضافة إلى قانون العار الذي سنه حافظ الأسد وأقره مجلس الشعب المعين والقاضي بإعدام كل منتم إلى جماعة الإخوان المسلمين بأثر رجعي، مما أدى إلى إعدام الآلاف أو تغيبهم في السجون، وإجبار عشرات الآلاف إلى الهرب خارج البلاد!!

وامتد هذا المسلسل الدموي البشع نحو أربعين عاماً (1963-2000م)، وجاء عهد جديد على رأسه الشاب المتحضر الدكتور بشار الأسد، وظن الناس أن دمشق رجع إليها ربيعها الذي افتقدته منذ أربعة عقود، فقد أغلق سجن المزة، وأغلق سجن تدمر الصحراوي الذي شهدت ساحاته أبشع أنواع التعذيب والقتل بدم بارد، وتنفس الناس الصعداء وتحرك بعض المثقفين والسياسيين والنخب الوطنية وعقدوا الندوات والاجتماعات في منتدياتهم الفكرية، في حراك مدني سلمي علني، ووصف هذا الحراك (بربيع دمشق)، مطالبين بمزيد من الحرية والاستماع إلى مطالب الشعب ورغبات الجماهير وتصحيح الأوضاع بصورة تدريجية وعقلانية، ساعين إلى قيام وحدة وطنية حقيقية يشارك فيها الجميع دون استثناء أو إقصاء أو إبعاد أو تمييز، فهوية الوطن ملك للجميع، والوطنية لا يحتكرها طيف دون آخر، والدفاع عن الوطن والذود عن حياضه مسؤولية الجميع، مطالبين بتحييد القضاء والفصل بين السلطات.. لما لدور القضاء من أهمية كبيرة في حماية الفرد وحقوقه وحرياته، وفي بناء المجتمع وتقدمه وتطوره، والقضاء هو صمام الأمان للمجتمعات البشرية في جميع مجالات الحياة (الاجتماعية والاقتصادية والسياسية)، وحتى يستطيع القضاء أن يؤدي دوره المطلوب، ويشعر المواطن بالأمان الشخصي والاستقرار، يجب أن يكون نزيهاً، مستقلاً، عادلاً، محايداً...  

أدار الدكتور الحضاري ظهره لكل طروحاته البراقة عندما لوى عنق الدستور وغير بعض مواده لتتاح له الفرصة ليخلف أباه، وأظهر وجهه الحقيقي ونواياه السيئة، في مواجهة ما يطرحه المثقفون ونشطاء المجتمع المدني والمدافعين السلميين عن حقوق الإنسان، ولم يحتمل جرأتهم فيما يطرحونه ويطالبون به، فأغلق هذه المنتديات الفكرية وساق قادتها ومفكريها إلى المحاكم العسكرية الاستثنائية في ظل قانون الطوارئ، وحوكموا بتهم ما أنزل الله بها من سلطان منها (توهين عزيمة الأمة) و(الانتماء إلى جماعات محظورة) و(إشاعة أخبار كاذبة) و.. و..إلخ!! وكان آخر جرائمهم ملاحقة نخبة من ناشطي المجتمع المدني والمدافعين عن حقوق الإنسان بتهمة (نشر أنباء كاذبة من شأنها أن توهن نفسية الأمة)!

أرادت الجماهير التغيير السلمي وناشدوا أولي الأمر بتحقيق العدالة الاجتماعية بأساليب حضارية شفافة فجوبهت بالنار والقتل والتدمير والنزوح والتهجير، فكان الذي كان، حمم ونار تصب من السماء، وصواعق تفجر تحت الأقدام، حتى وصلت سورية إلى حال فقدت فيها هويتها الحضارية والإنسانية، وباتت دولة منسية فاقدة للحياة يتصارع على أرضها شذاذ الآفاق من كل لون وعرق ودين ومذهب.

وسوم: العدد 818